رسائل الأمير تركي الفيصل بشأن إيران.. قراءة تحليلية

برؤية تحليلية تستند إلى خبرة عقود طويلة كان له فيها صولات وجولات في دهاليز السياسة الإقليمية والعربية والدولية، قدم سمو الأمير تركي الفيصل تقديراً واقعياً وافياً للمشهد الإقليمي الراهن خلال مشاركته في منتدى افتراضي استضافته صحيفة البلاد البحرينية قبل أيام، منطلقاً من محور رئيسي هو إيران وسياساتها التخريبية في المنطقة سواء عبر محاولاتها لزعزعة الاستقرار ببرنامجها النووي ومساوماتها المكشوفة للغرب بشأن إحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015، أو تدخلاتها في شؤون بعض الدول العربية من خلال أذرعها المسلحة، كما استعرض مؤشرات دالة على تحول الإقليم إلى ساحة للصراعات والتجاذبات المرتكزة إلى تناقض المصالح بين الفواعل الدولية.
وتنبع أهمية حديث الأمير تركي الفيصل من مجموعة من العوامل أبرزها مخزون خبراته التي تراكمت عبر سنوات طويلة قضاها في مواقع قيادية رفيعة، حيث كان رئيساً للاستخبارات العامة السعودية ثم سفيراً للمملكة في عواصم غربية مهمة أبرزها لندن وواشنطن، ما جعله في بؤرة الأحداث، ومطلعاً على الخبايا والتفاصيل، ومتفاعلاً بشكل مستمر مع النخب السياسية الإقليمية والدولية.
بالإضافة إلى توقيت الحديث، إذ تشهد العاصمة النمساوية فيينا حالياً محادثات بين طهران والأطراف التي لا تزال منضوية في الاتفاق النووي (فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، وألمانيا) من أجل إحياء الاتفاق النووي، فيما حضرت الولايات المتحدة لكن دون المشاركة مباشرة في المباحثات أو الجلوس إلى طاولة واحدة مع وفد طهران.
رسائل سياسية متنوعة لأطراف دولية وعربية
لقد تضمنت تصريحات الأمير تركي الفيصل مجموعة من الرسائل السياسية شديدة الأهمية، خاطب خلالها أطرافاً عدة في المجتمع الدولي والإدارة الأمريكية والدول العربية والخليجية، وجاءت على النحو التالي:
رسالة إلى المجتمع الدولي تُؤكد على أن أمن منطقة الخليج قضية دولية وليست إقليمية فقط، نظراً لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية، ودق ناقوس الخطر من خلال التحذير بضرورة الاستعداد لجميع السيناريوهات في ظل الخطر الإيراني عبر أفكاره الطائفية وتدخله في شؤون دول بالمنطقة، وسعيه لامتلاك السلاح النووي، مشدداً على أن بقاء الاتفاق النووي بشكله الراهن سيؤجج النزاعات في المنطقة، ويدفع دولها إلى البحث عن بدائل بما في ذلك الاستعداد لليوم الذي تمتلك فيه إيران القنبلة النووية، في إشارة إلى إمكانية اندلاع سباق تسلح نووي.
رسالة نقد لاذعة إلى الإدارة الأمريكية الديمقراطية تقوم على الاعتبار من دروس الماضي القريب، فالاتفاق النووي لعام 2015 لم يأخذ في الحسبان جيران إيران بسبب سذاجة تفكير الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عندما افترض بأن الاتفاق سيوقف سلوك إيران العدواني في المنطقة، لكن ما حدث هو العكس، كما أبدى الأمير تركى الفيصل عدم التفاؤل بشأن قدرة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على عدم الرضوخ لابتزازات طهران.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التقدير له جذور راسخة وأسس واقعية ملموسة في التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين، والتي تعطي انطباعاً بالتراخي تجاه الملف النووي الإيراني وتعجّل واشنطن للعودة إلى الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب في مايو 2018، فقبل أسبوعين على انطلاق محادثات فيينا خرج مسؤول أمريكي بتصريح لافت لوكالة “رويترز” قال فيه إن مسألة الطرف الذي يجب عليه اتخاذ الخطوة الأولى لاستئناف الالتزام بالاتفاق النووي ليست مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة.
رسالة إلى أطراف محادثات فيينا تشدد على ضرورة إشراك السعودية والدول الخليجية والعربية في صلب المحادثات الجارية بشأن الاتفاق النووي الإيراني، مع عدم اقتصار التناول الموضوعي على الملف النووي ليشمل أيضاً الصواريخ الباليستية لإيران وتدخلاتها الإقليمية.
كما قدم الأمير تركي الفيصل رسالة تحذير من ألاعيب طهران وسياستها الابتزازية للقوى الغربية ببرنامجها النووي التي أفضت لاتفاق معيب، ثم انتهاكها لالتزاماتها بموجب الاتفاق بزيادة تخصيب اليورانيوم، ومنعها مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تفتيش مواقعها النووية كأساليب ضغط في المحادثات الراهنة المتعلقة بإحياء الاتفاق النووي.
رسالة إلى الدول العربية لتعزيز التعاون والتنسيق في مواجهة الخطر الإيراني وذلك من خلال محورين أساسيين:
المحور الأول يتمثل في “تقوية اللوبي العربي في أمريكا وأوروبا”، وإجادة استغلال أوراق الضغط التي بحوزة الدول العربية تجاه القوى العالمية المشاركة في الاتفاق النووي، ومن أبرز تلك الأوراق المصالح التجارية القوية مع أوروبا، وكون دول الخليج من أكبر الشركاء لروسيا والصين.
كما تطرق إلى الاتفاقية التي وقعتها الصين مع إيران والتي تقوم بمجملها على البعد الاقتصادي ضمن مبادرة الحزام والطريق، معتبراً أنها قد تكون مدخلاً يمكن توظيفه من أجل أن تزيد الصين من ضغوطها على طهران لردع سلوكها التخريبي في المنطقة.
أما عن المحور الثاني فيتعلق بإيجاد تجمع عربي يعيد تعريف الأولويات في المنطقة ومفهوم الأمن، ويحدد التحديات من وجهة نظر دول المنطقة، مستدعياً إلى الأذهان مواقف تاريخية أثبتت فاعلية ونجاح الجهد العربي المشترك، الذي أدى إلى طرد الاستعمار من كل الدول العربية، فضلاً عن الدور الذي لعبه قرار قطع النفط عن الولايات المتحدة في حرب أكتوبر 1973.
التدخلات الإيرانية التدميرية في شؤون بعض الدول العربية
أخذ ملف التدخلات الإيرانية في شؤون العراق وسوريا واليمن ولبنان حيزاً معتبراً من حديث سمو الأمير تركي الفيصل، منطلقاً من عبارة ذات معنى سياسي بليغ قال فيها إن سياسة إيران التدميرية لا تختلف عن الأثر المدمر للسلاح النووي الساعية إلى امتلاكه، وهذه الرؤية تعبر عن وجهة نظر ثاقبة حول خطورة النظام الإيراني وسلوكه التخريبي على مدى أكثر من 4 عقود سعى خلالها إلى زعزعة أمن واستقرار دول الجوار، وتقسيم مجتمعاتها بمشروع طائفي، مع التأكيد على فشل كل محاولات ترشيد القيادة الإيرانية.
وقد ركز الأمير تركي الفيصل في حديثه بشكل واضح على العراق كنموذج تجلى فيه السلوك التدميري لطهران، القائم على نهب الثروات وإذكاء الفتن الطائفية والمذهبية وتقويض سلطة الدولة، مشيراً إلى أهمية استعادة العراق ليكون عاملاً للأمن والاستقرار في الخليج العربي، عبر دعم القوى العراقية التي تسعى إلى تخليص بغداد من الهيمنة الإيرانية.
وتواكب تلك الدعوة التي أطلقها سمو الأمير تحركات عربية فاعلة نحو احتضان العراق تأتي المملكة العربية السعودية في صدارتها ما تجسد في زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى الرياض قبل نحو أسبوع ومخرجاتها التي عززت التعاون بين البلدين، فضلاً عن آلية التعاون الثلاثية بين العراق ومصر والأردن.
استقلالية القرار السعودي وقوة المملكة في مواجهة التهديدات
تناول الأمير تركي الفيصل المملكة في حديثه من خلال إبراز استقلالية القرار السعودي، وامتلاك المملكة القوة الرادعة القادرة على صد أي تهديد، حيث أكد على وجود مصالح مشتركة وأسس راسخة تجمع بين المملكة والولايات المتحدة، موضحاً أن السعودية تعبر عن رأيها في أي ظرف وتُبدي رفضها متى شاءت، وبالفعل يزخر تاريخ تعاقب الإدارات الأمريكية جمهورية وديمقراطية بمواقف للمملكة جاءت معارضة للموقف الأمريكي.
أما الإشارة إلى قوة الردع السيبراني التي تتحلى بها المملكة، فأكد سمو الأمير عليها بقوله إنه منذ آخر هجوم استهدف شركة أرامكو النفطية لم ينجح أي هجوم جديد في استهداف مكوناتها أو مكونات أي شركة أخرى، لافتاً إلى أن لدى السعودية متخصصين مهمين في مجال الأمن السيبراني، فضلاً عن التنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي في هذا المجال.
وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن الرسائل الواردة في حديث سمو الأمير تركي الفيصل بشأن إيران تضع مساراً واضحاً للتحرك العربي لمواجهة التهديدات الإيرانية للأمن والاستقرار الإقليمي، تستند إلى توظيف جيد وفعّال لأوراق الضغط العربية على مختلف الأطراف الدولية المنخرطة حالياً -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- في مساعٍ لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، مع التأكيد على ضرورة أن يكون العرب في قلب تلك المحادثات حتى لا يتحول الأمر إلى مجرد إعادة إنتاج للاتفاق المعيب الذي أدى إلى تأجيج التوترات في المنطقة، وأطلق العنان لطهران لتنفذ أجندتها التخريبية في الإقليم.