تقارير

تحديات إدماج الصم في البيئة الرقمية

تنامى خلال السنوات الأخيرة اهتمام المجتمعات بذوي الاحتياجات الخاصة وتمكينهم من ممارسة كافة الأنشطة المتاحة لباقي أفراد المجتمع، وباتت تلك القضية تحتل مكانة بارزة على أجندة اجتماعات المنظمات الإقليمية والدولية، وكان الإعلام إحدى الجهات الرئيسة والفاعلة في التعامل مع هذا الملف، حيث عملت المؤسسات الإعلامية على إخراج فئة الصم من حالة العزلة عبر استحداث لغة الإشارة في البرامج والنشرات وحتى الدراما التلفزيونية.
ورغم أن الصم يتحدثون بأكثر من 300 لغة إشارة حول العالم، فإن هناك لغة إشارة دولية يستخدمها الصم في اللقاءات الدولية، وأثناء ترحالهم وممارسة نشاطاتهم الاجتماعية، حيث تعتبر شكلًا مبسطًا من لغة الإشارة بمعجم لغوي محدود، ولا تتصف بالتعقيد مثل لغات الإشارة الطبيعية.
ويفرض الواقع الراهن الخاص بتطور أدوات الإعلام الجديد لا سيما التطبيقات الصوتية، وكونها تمثل مستقبل التواصل الاجتماعي وعمليات الرقمنة، تحديات بالنسبة للصم الذين يفتقدون القدرة على التفاعل مع هذا النمط من التطبيقات.
خطر استبعاد الصم من عملية الرقمنة
لقد أضحى التحدث عبر خدمة “المساعد الرقمي الشخصي- personal digital assistant” أحدث مظاهر التطور التكنولوجي المعتمد على الصوت في مجال الحوسبة والتطبيقات الإلكترونية.
والمساعد الرقمي هو عبارة عن خدمة برمجية يتم تقديمها عبر جهاز كمبيوتر شخصي أو جهاز لوحي أو هاتف ذكي أو ساعة اليد الرقمية، حيث يستجيب المساعدون الرقميون للأوامر الصوتية من المستخدمين من أجل الإجابة عن أسئلة أو إكمال المهام البسيطة، مثل تشغيل الموسيقى أو ضبط المنبه، وكذلك التحكم في أدوات المنزل الذكي، مثل تعتيم الأضواء أو قفل الأبواب أو ضبط منظم الحرارة.
ووفقًا لمجلة “إيكونوميست” البريطانية، قامت شركة أمازون ببيع أكثر من 100 مليون جهاز مزود بالمساعد الرقمي الصوتي “Alexa” حتى الآن، فيما قامت شركة آبل بطرح مساعدها الصوتي “Siri”، الذي يعالج 25 مليار طلب شهريًّا. ومن المتوقع أن تصل القيمة الإجمالية لسوق هذه التكنولوجيا إلى أكثر من 27 مليار دولار بحلول عام 2025.
واللافت أن هذه التطورات أغفلت فئة الصم وهي فئة ليست بالقليلة، فوفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية يبلغ عدد الصم أو ضعاف السمع حول العالم 430 مليون شخص، يقومون باستخدام لغات الإشارة للتواصل، وبالتالي إن لم يتمكنوا من استخدام هذه اللغات للتحدث إلى أجهزة الكمبيوتر، فسيواجهوا خطر الاستبعاد من الرقمنة التي تسيطر على الحياة اليومية.
لقد حاول كثيرون تعليم أجهزة الكمبيوتر فهم لغة الإشارة، وكان هناك الكثير من الادعاءات حول اختراقات في السنوات الأخيرة، مثل “القفازات اللمسية- haptic gloves”، وهي قفازات مزودة بمستشعرات رقيقة ومطاطية تلتقط حركات أصابع مرتديها، ثم تتحول تلك الحركات إلى إشاراتٍ كهربائية وترسلها إلى لوحة دائرةٍ إلكترونية بحجم عملةٍ معدنية يتم ارتداؤها على المعصم، فتنقل الإشارات لاسلكيًّا إلى هاتفٍ ذكي يترجمها إلى كلماتٍ منطوقةٍ بمعدل كلمةٍ واحدةٍ في الثانية.
لكنّ مارك ويتلي، المدير التنفيذي للاتحاد الأوروبي للصم (منظمة غير حكومية تضم كل الروابط الوطنية للصم من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي) يرى أن تلك التجارب لم تحقق أي فائدة للصم، فصحيح أنّ التعرف على شكل اليد مفيد، إلا أن هذه التجارب لا يمكنها التعامل مع التعقيد الكامل للغات الإشارة التي تعتمد أيضًا على تعابير الوجه وحركات الجسم.
في هذا الإطار، تطرح العديد من الفرق البحثية تساؤلات عن أفضل السبل التي يمكن أن تخدم بها التكنولوجيا مصالح الصم، إذ يقوم طلاب لغات الإشارة بتجميع قواعد البيانات المعروفة باسم “corpora”، المليئة بأمثلة عن كيفية استخدام اللغات، ويحاول المبرمجون تحويلها إلى منتجات مفيدة. وكما هو الحال مع اللغات المنطوقة، تمتلك لغات الإشارة – التي يوجد في العالم عدة مئات منها – قواعدها اللغوية والتعابير واللهجات الخاصة بها، إلا أن هذه القواعد لا تطبق بشكل مفصل في الاستخدام اليومي، فقد يكون لها اختصارات، مثل الاستعاضة عن إشارة تتم باليدين بإشارة بيد واحدة، لذلك فالتفسير الصحيح لهذه اللغة أصعب بكثير من التعرف على المقاطع المنطوقة أو الحروف المكتوبة.
ويعد توليد البيانات أمرًا صعبًا للغاية أيضًا، إذ قدر بحث قاده فريق في شركة مايكروسوفت عملاق التكنولوجيا نُشر في عام 2019، أن المجموعة النموذجية المتاحة للغة المنطوقة تتكون من حوالي مليار كلمة تم جمعها مما يصل إلى ألف متحدث مختلف، في حين تحتوي مجموعة بيانات نموذجية في لغة الإشارة على حوالي 100 ألف إشارة تم الحصول عليها من عشرة أشخاص فقط.
وبالإضافة إلى ضخامة الإشارات، تحتاج المجموعة الجيدة أيضًا إلى التنوع من حيث الخلفيات واللهجات ومستويات الطلاقة، ونظرًا لأن الأشخاص الصم غالبًا ما يعانون من إعاقات جسدية أكثر، فمن المهم تمثيل الصم الذين يعانون من إعاقات تقيد حركتهم بطلاقة.
برمجة لغة الإشارة وتوظيفها في تطبيقات ترفيهية
وفي هذا الإطار، قام الدكتور توماس هانكي الباحث في جامعة هامبورغ بالتعاون مع زملائه على مدى عامين، بتجميع لغة الإشارة عبر حوالي 560 ساعة من المحادثات التي تتضمن العديد من لهجات لغة الإشارة الموجودة في ألمانيا، ومع ذلك يعتبر جمع البيانات هو الجزء السهل في تلك العملية، لأن أجهزة الكمبيوتر بطيئة التعلم، ويجب إخبارها بكل إشارة وكل تعبيرات الوجه بدقة وهذا يستغرق وقتًا، فبعد مرور ثماني سنوات، أصبح لدى الدكتور هانكي 50 ساعة فقط من الفيديو يثق من صحتها.
من جهة أخرى، يستخدم باحثو مايكروسوفت “حشد المصادر – crowdsourcing” لتحسين كمية وجودة البيانات المتاحة، حيث تقوم الدكتورة دانييلا براغ وزملاؤها في مقر الشركة في ولاية ماساتشوستس الأمريكية بتطوير نسخة من لعبة “Battleship” للهواتف الذكية، وهي لعبة يحاول فيها كل لاعب إغراق سفن خصمه من خلال تحديد إحداثيات على الشبكة وإرفاقها بأمر صوتي.
وتعد الخصوصية مصدر قلق في تطوير تلك اللعبة للصم، لأن جمع بيانات لغة الإشارة يتطلب تسجيل وجوه المشاركين بدلاً من أصواتهم، وحتى عندما تم محاولة تسجيل إيماءات الأشخاص دون الكشف عن هويتهم، كان لا يزال من الممكن التعرف عليهم، لذلك تخطط براغ لاستخدام مرشحات الوجه، أو استبدال الوجوه بواسطة بدائل مصطنعة.
أهمية الجمع بين الفهم الجيد لثقافة الصم والتعلم الآلي
ووفقًا لمجلة “إيكونوميست”، إذا أمكن جمع بيانات كافية، فيمكن للباحثين الذين لديهم فهم جيد لثقافة الصم والتعلم الآلي تحقيق نتائج باهرة، فعلى سبيل المثال يضم فريق مكون من 25 شخصًا في شركة “SignAll” المجرية، ثلاثة أشخاص يعانون من الصمم، وهم من أكبر الفرق العاملة في هذا المجال.
وتحتوي قاعدة البيانات المملوكة للشركة على 300 ألف مقطع فيديو مع تعليقات توضيحية لـ 100 مستخدم يستخدمون أكثر من 3 آلاف إشارة من لغة الإشارة الأمريكية (ASL)، وهي واحدة من أكثر لغات الإشارة انتشارًا في العالم. وقد تم جمعها بمساعدة جامعة غالوديت في واشنطن، وهي الجامعة الوحيدة التي تقدم خدماتها للطلاب الصم وضعاف السمع فقط.
ويستطيع برنامج “SignAll” التعرف على لغة الإشارة الأمريكية، ولكن ليس بالسرعة التي يتواصل بها المتحدثون الأصليون بلغة الإشارة، كما يمكن لمنتجها الحالي “SignAll 1.0” ترجمة الإشارات إلى اللغة الإنجليزية المكتوبة، أي أنه يسمح للأشخاص بالرد على الصم بمساعدة برنامج تحويل لغته غير المنطوقة إلى نص، لكن ذلك يتم بالاعتماد على توجيه ثلاث كاميرات إلى شخص أصم يرتدي قفازات خاصة لتتبع الإشارات، وهو ما يمثل عبئًا كبيرًا.
ويشير الدكتور زسولت روبوتكا، رئيس شركة “SignAll”، إلى أن الشركة تأمل في تقديم خيار خالٍ من القفازات، وتضع اللمسات الأخيرة على منتج يعمل بكاميرا واحدة على هاتف ذكي، كما ينصب تركيز الدكتور روبوتكا في الوقت الحالي على ترجمة لغة الإشارة إلى نص أو صوت.
ويعد إنشاء تطبيقات الهواتف الذكية التي يمكنها التعرف على مجموعة من لغات الإشارة الأوروبية، والترجمة بين هذه اللغات والكلام الشفوي، أحد أهداف مشروع “Signon” للترجمة الآلية الذكية للغة الإشارة، حيث يستهدف لغات الإشارة البريطانية والهولندية والآيرلندية والإسبانية من خلال العمل مع العديد من الجامعات الأوروبية، ويهدف إلى حل ثلاث مشاكل، الأولى هي تحسين خوارزميات التعلم الآلي التي تتعرف على الإشارات، والثانية تتمثل في التوصل إلى أفضل السبل لتفسير القواعد النحوية المميزة للغات الإشارة، أما عن المشكلة الثالثة فهي محاولة إنشاء صور رمزية أفضل.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن إدماج الصم في بيئة التواصل الاجتماعي الصوتي والتطبيقات الإلكترونية القائمة على الصوت يتطلب تضافر الجهود البحثية بين مختلف التخصصات لا سيما خبراء الذكاء الاصطناعي ولغة الإشارة من أجل التغلب على المعوقات التي تحول دون استيعاب تلك الفئة في هذه الموجة من التطور التقني.

زر الذهاب إلى الأعلى