بالتزامن مع جولة مفاوضات في القاهرة لبحث التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، واتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، مضت قوات الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ واحدة من أكبر حملات التهجير القسري للفلسطينيين منذ بدء الاجتياح البري للقطاع في 27 أكتوبر الماضي، إذ بات قرابة مليوني فلسطيني محاصرين حاليًا في مساحة لا تتعدى 40 كيلومترًا مربعًا، في ظل توسيع إسرائيل المستمر لنطاق عدوانها.
وتشير تقديرات أممية إلى أن أوامر الإخلاء المتتالية أدت إلى نزوح 90% من سكان غزة، وعرضت المدنيين للخطر بدلا من حمايتهم، مع حرمانهم من الرعاية الصحية والمأوى وآبار المياه والمساعدات الإنسانية، الأمر الذي جعل سكان القطاع في رحلة نزوح مستمر دون نهاية تلوح في الأفق.
- أكذوبة “المناطق الآمنة” في القطاع
وعلى مدى أكثر من 10 أشهر من عمر الحرب التي ما زالت مستمرة، روجت إسرائيل لما يسمى بـ”الممرات والمناطق الآمنة”، عبر إصدار جيش الاحتلال لأوامر إخلاء مناطق في القطاع وتحديد مسارات لخروج المدنيين، زاعمًا أنها ستكون آمنة، وهي أكذوبة فضحتها سلسلة المجازر التي ارتكبتها إسرائيل بحق قوافل النازحين وقصفها مراكز الإيواء والنزوح، من مدارس ومؤسسات وتجمّعات خيام سواء في مخيم المغازي ومنطقة المواصي قرب خان يونس أو مناطق واسعة من مدينة دير البلح، مع تبرير تلك الجرائم الوحشية بدعوى وجود عناصر من مقاتلي كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس.
ليس هذا فحسب، بل إن غارات الاحتلال قلصت تلك “المناطق الآمنة” المزعومة من 230 كيلومترًا في نوفمبر الماضي (أي ما يعادل 63% من مساحة القطاع) إلى 35 كيلومترًا في أغسطس الحالي وهو ما يعادل 9.5% من إجمالي القطاع.
ووفقًا لإحصاءات الأمم المتحدة، أصدرت قوات الاحتلال 16 أمر إخلاء بين الأول من يوليو الماضي والحادي والعشرين من أغسطس الحالي، مشيرة إلى أن 9 من بين كل 10 أشخاص في قطاع غزة تعرضوا للتهجير بسبب هجمات الاحتلال، فضلًا عن أن معظم الفلسطينيين في غزة يضطرون للانتقال مرة واحدة على الأقل شهريًا.
وفي الأيام القليلة الماضية، أصدرت إسرائيل أوامر إخلاء عدة في أنحاء غزة شملت مدينة دير البلح بوسط القطاع والتي يعيش فيها نحو مليون نازح يتوزعون على 200 مركز إيواء؛ الأمر الذي جعلها المنطقة الأكثر استيعابًا للنازحين حاليًا مقارنةً بمساحتها. وبحسب بلدية دير البلح، أدى ذلك إلى عملية تهجير قسري لحوالي 250 ألف شخص خلال 72 ساعة وخروج 25 مركز إيواء عن الخدمة.
- تداعيات أوامر الإخلاء
تأتي أوامر الإخلاء الإسرائيلية في توقيت بالغ الحساسية للوضع الإنساني والصحي في قطاع غزة، لا سيما مع تسجيل أول إصابة مؤكدة بشلل الأطفال في دير البلح في السادس عشر من الشهر الحالي- وهي الأولى منذ أكثر من 25 عامًا-، ووسط تحذيرات أممية وحقوقية من تفش كارثي محتمل للمرض في القطاع، ودعوات لهدنة إنسانية عاجلة لمدة أسبوع من أجل تنفيذ حملة تطعيم لأطفال غزة ضد المرض.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فقد أدت الهجمات العسكرية الإسرائيلية على البنية التحتية للرعاية الصحية وإمدادات المياه، والصرف الصحي وعرقلتها للمساعدات والوصول الإنساني في خلق البيئة المثالية لانتشار أمراض مثل شلل الأطفال.
ورغم إعلان وزارة الصحة الفلسطينية وصول مليون و260 ألف جرعة تطعيم ضد شلل الأطفال إلى غزة، حيث تم حفظها في مخازن مخصصة لحملة تطعيم، بالتنسيق مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، فإن نظام الصحة العامة الضعيف بشدة في غزة يصعّب على العاملين في المجال الإنساني ضمان وصول هذه اللقاحات إلى الأطفال الذين يحتاجون إليها، وهي المشكلة التي تفاقمت بسبب إجبار جيش الاحتلال جميع سكان القطاع تقريبًا على النزوح بشكل متكرر. كما عرقل البعثات الإنسانية داخل غزة وهاجم الكوادر الطبية والعاملين الآخرين في مجال الإغاثة رغم تزويدهم سلطات الاحتلال بإحداثياتهم الدقيقة.
- التهجير القسري في غزة
لما كانت جريمة التهجير القسري تنطوي على حالة من الإجبار والإرغام التي تهدد حياة المدنيين، وإمكانية وصولهم للغذاء والخدمات الصحية والتعليمية، إلى جانب فقدانهم أملاكهم ومدخراتهم وأعمالهم وأوراقهم الثبوتية وممتلكاتهم، فإن الوضع الراهن في قطاع غزة صورة مطابقة تمامًا لتعريف تلك الجريمة، إذ يتعرض أهالي غزة لعملية تهجير قسري ممنهجة يمارسها الاحتلال، عبر القصف والقتل والتدمير، والتجويع، حيث تعمده عرقلة دخول المساعدات، وهو ما تمثل في البداية بحظرها بالكامل، ثم اللجوء لاحقًا إلى فرض قيود مرهقة.
ووفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، انخفضت المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة بنسبة تزيد على 50% منذ أبريل الماضي، ومنعت سلطات الاحتلال نحو ثلث بعثات المساعدات الإنسانية من الوصول إلى غزة منذ مطلع أغسطس الحالي.
كما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن ما يحدث مع الفلسطينيين في غزة يعد نقلا قسريا للسكان وهو جريمة ضد الإنسانية وفقًا لأركان الجرائم في المحكمة الجنائية الدولية، والتي وضعت عددا من الضوابط لتلك الجريمة تتمثل في التالي:
- أن يرحل المتهم أو ينقل قسرا شخصا أو أكثر إلى دولة أخرى أو مكان آخر بالطرد أو بأي فعل قسري آخر لأسباب لا يقرها القانون الدولي.
- أن يكون الشخص أو الأشخاص المعنيون موجودين بصفة مشروعة في المنطقة التي أبعدوا أو نُقلوا منها على هذا النحو.
- أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت مشروعية هذا الوجود.
- أن يرتكب هذا السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الإفلات المستمر للجانب الإسرائيلي من العقاب والتحلل من الالتزامات المفروضة عليه كقوة احتلال، يعد بمثابة ضوء أخضر للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لمواصلة جرائم القتل والتعذيب والتهجير القسري، كما يعكس عجز المجتمع الدولي عن التحرك الاستباقي لحماية أرواح الفلسطينيين الأبرياء.