في أول هجوم يُسفر عن قتلى في صفوف القوات الأمريكية بالشرق الأوسط منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، استهدفت طائرة مسيرة قاعدة التنف الأمريكية على الحدود الأردنية السورية، ما أدى إلى مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة العشرات. ولم يمض وقت طويل على الهجوم حتى خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن ليدلي بتصريحات وصف فيها ما حدث بأنه “يوم صعب”، متهمًا جماعات مسلحة مدعومة من إيران في العراق وسوريا بالوقوف وراء القصف، ومتعهدًا بالرد، بينما سارعت إيران لنفي صلتها بالهجوم قائلة إن تلك الجماعات لا تتلقى أوامر منها.
ويفتح هذا التعهد الصريح الذي قطعه بايدن أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي، المجال أمام تساؤلات حول طبيعة الرد المرتقب، ويثير مخاوف مراقبين من أن يؤدي إلى تعميق الصراع في منطقة الشرق الأوسط التي تتعدد فيها حاليًا البؤر المُلتهبة بفعل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة والذي يقترب من دخول شهره الخامس.
- السياق المحيط بالهجوم
لا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى استهداف قاعدة التنف بمعزل عن التحديات الأمنية المتزايدة التي تتعرض لها القوات الأمريكية في الشرق الأوسط عقب اندلاع الحرب على غزة، إذ تعرضت القوات الأمريكية في سوريا والعراق لأكثر من 150 هجومًا صاروخيًا وبواسطة مسيرات مفخخة منذ السابع عشر من أكتوبر الماضي، بحسب وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”.
وتحتفظ الولايات المتحدة بـ 900 جندي في سوريا و2500 في العراق، لتقديم المشورة والدعم للقوات المحلية التي تحاول منع عودة تنظيم “داعش” الإرهابي، الذي سيطر على مساحات شاسعة من الأراضي في البلدين عام 2014.
لكن المختلف في هجوم التنف- الذي تبنته ما تسمى بـ”المقاومة الإسلامية في العراق” (مجموعة من الفصائل المسلحة العراقية المدعومة من إيران)- أنه أول هجوم يسفر عن قتلى أمريكيين، فضلًا عن أن تحرك الفصائل العراقية جاء بعد نفي البنتاغون أي نية لسحب قواته من العراق، ردا على إعلان الحكومة العراقية اتفاقها مع واشنطن على صياغة جدول زمني محدد يؤطر مدة وجود التحالف الدولي في العراق، ومباشرة الخفض التدريجي لمستشاريه، فقد أكد البنتاغون أن المفاوضات هدفها استبدال التحالف الدولي بواسطة اتفاقيات أمنية ثنائية.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن هجوم التنف يشغل الولايات المتحدة في جبهة قتال أخرى، بعدما ركزت جهودها خلال الأسبوعين الماضيين على اليمن باستهداف مواقع الحوثيين وكذلك في البحر الأحمر للتصدي لهجمات الجماعة على السفن التجارية.
- ردود الفعل على هجوم التنف
توعدت الولايات المتحدة على لسان الرئيس بايدن المسؤولين عن الهجوم على قاعدة التنف بالرد “في الوقت وبالطريقة التي تختارها”، وحمل بايدن “جماعات مسلحة تنشط في سوريا والعراق مدعومة إيرانيُا” مسؤولية الهجوم.
كما ألمحت بريطانيا لتورط إيراني في الهجوم، حيث أدان وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون الهجمات التي تشنها الميليشيات المتحالفة مع إيران ضد القوات الأمريكية، داعيا طهران إلى وقف التصعيد في المنطقة.
في المقابل، نفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، أي علاقة لبلاده بالهجوم، قائلا إن “فصائل المقاومة” في المنطقة لا تتلقى أوامر من إيران، بل ترد على جرائم الحرب والإبادة الجماعية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
أما عن المقاومة الإسلامية في العراق، فمع إعلانها مسؤوليتها عن الهجوم، فرضت حالة استنفار في صفوفها وأخلت مواقعها على طول الحدود العراقية السورية تحسبًا للرد الانتقامي الأمريكي، كما امتنع قادتها عن استخدام هواتفهم خوفًا من تعقبهم واستهدافهم، بحسب ما نقلت تقارير إعلامية عن مصادر في تلك الفصائل.
- خيارات أمريكية للرد على إيران
وفي ظل حالة الترقب الراهنة، يبدو ثمة تساؤل مُلح حول الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة للرد على إيران، لا سيما وأن هذا التصعيد الكبير ضد القوات الأمريكية، يأتي بعد أيام قليلة من تقارير إعلامية أفادت نقلًا عن مسؤولين أمريكيين بأن واشنطن طلبت من بكين الضغط على إيران لوقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، لكن النتيجة كانت زيادة وتيرة التصعيد سواء باستهداف القوات الأمريكية في البحر الأحمر أو قواعد أمريكية في العراق وسوريا.
ويرسم مراقبون 3 مسارات للرد الأمريكي بعدما ثبت أن استراتيجية إدارة بايدن لاحتواء إيران منعًا للتصعيد وخشية اتساع نطاق الحرب في غزة “غير مجدية”، إذ يرى ماثيو كروينغ مدير مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن أن إيران أدركت أنها قادرة على شن هجمات عبر أذرعها المسلحة دون عقاب، ولم يؤد الحذر الأمريكي إلا إلى المزيد من الضربات ضد المصالح والمنشآت الأمريكية.
ويوضح كروينغ وهو أيضًا خبير سابق في الملف الإيراني لدي المخابرات الأمريكية و”البنتاغون” أن الردع يتحقق من خلال إقناع الخصم بأن تكاليف مهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها ومصالحها تفوق إلى حد كبير أي فوائد يمكن تصورها، لذا فقد فشل الردع الآن، ويتعين على الولايات المتحدة أن تنفذ تهديدها. ويعني ذلك أن الإدارة الأمريكية تحتاج إلى توجيه رسالة عملية لطهران بأن مهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها أمر مكلف للغاية، وهو ما يتطلب توجيه ضربة قوية لإيران.
وتتراوح الخيارات، بحسب كروينغ، ما بين رد على طريقة ريغان، واستهداف قادة إيرانيين بارزين، فضلا عن تصعيد الضغوط بشأن البرنامج النووي والصاروخي الإيراني
- اتباع استراتيجية ريغان بتوجيه ضربات لقوات إيرانية
ربما على إدارة بايدن الديمقراطي اتباع استراتيجية الرئيس الأمريكي الجمهوري الراحل رونالد ريغان مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، ففي أعقاب إصابة لغم بحري فرقاطة أمريكية بأضرار بالغة في مياه الخليج العربي عام 1988، أمر ريغان، القوات البحرية الأمريكية بتدمير منصتين بحريتين إيرانيتين كانت تنطلق منهما الزواق الإيرانية التي كانت تقوم بعمليات زرع الألغام في مياه الخليج لإعاقة حركة ناقلات النفط واستفزاز القوات الأمريكية، وقد أدت العمليات الأمريكية ضد إيران طيلة هذا العام إلى تدمير نصف القوات البحرية لطهران والكثير من المنشآت النفطية الإيرانية.
- استهداف قادة إيرانيين بارزين
ثمة خيار آخر يفرض على بايدن الاستعانة بأساليب أسلافه من الرؤساء الجمهوريين، وهذه المرة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي سينافسه في الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر المقبل، فقد تسير الإدارة الديمقراطية على خطى ترامب باستهداف قادة إيرانيين رفيعي المستوى، مثلما فعل ترامب بإعطاء أوامر باغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني مطلع عام 2020، حيث قتل سليماني والقيادي بالحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس وآخرون في غارة جوية أمريكية قرب مطار بغداد.
- تصعيد الضغوط على طهران بمزيد من العقوبات
يعد تصعيد الضغوط على إيران عبر فرض مزيد من العقوبات على خلفية برنامجها النووي والصاروخي أحد الخيارات المتاحة، علمًا بأن التعامل مع البرنامج النووي يعد ضرورة ملحة، لا سيما في ضوء تقديرات سبق وأن أعلنها وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون السياسات كولن كال بأن الجدول الزمني أمام إيران للاختراق النووي هو اثنا عشر يومًا فقط، في إشارة إلى المدة الزمنية التي تحتاجها إيران لإنتاج 25 كيلوغراما من اليورانيوم عالي التخصيب، أو ما يكفي لسلاح نووي واحد.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن “هجوم التنف” على الأرجح سيشكل نقطة تحول في تفكير الدوائر السياسية والعسكرية الأمريكية بشأن أسلوب التعامل مع الوضع الراهن في الشرق الأوسط، بإدراك أن السبيل لتجنب الانجرار إلى حرب أخرى في المنطقة لا يعني التزام الحذر وضبط النفس في ظل هجمات مستمرة على القوات الأمريكية، بل في تحقيق الردع برد قوي، وربما يدفع الهجوم على القاعدة الأمريكية أيضًا واشنطن لممارسة ضغوط على إسرائيل من أجل التوصل لوقف لإطلاق النار في غزة لتهيئة الأجواء لكي تعيد الولايات المتحدة ترتيب أوراقها ومراجعة سياستها في المنطقة.