تزدهر التوقعات والتحليلات المرتبطة باستشراف الأوضاع الاقتصادية في مطلع كل عام، حيث تعمد المؤسسات الاقتصادية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني وكبار الخبراء الاقتصاديين حول العالم إلى تقديم رؤية للوضع الاقتصادي وفقًا لقراءة دقيقة للمؤشرات المتحققة في العام الماضي، ومستهدفات العام الحالي، وتتبع مسار النمو على مدى السنوات الماضية، مع الأخذ في الاعتبار التطورات والمخاطر الجيوسياسية المؤثرة في حركة التجارة العالمية، لا سيما استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك الحرب في قطاع غزة التي يخشى كثير من المراقبين أن يتسع مداها لتصبح حربًا إقليمية في الشرق الأوسط.
ووفقًا للمنتدى الاقتصادي العالمي، ترجح سلسلة من المؤسسات الاقتصادية الرائدة مزيدًا من التباطؤ في النمو الاقتصادي على الصعيد الدولي خلال عام 2024، كما يشير استطلاع أجرته وكالة رويترز إلى أن النمو العالمي سيتباطأ ليصبح 2.6% مقارنة بـ 2.9% في عام 2023. كما أنه في حين يتفق الاقتصاديون بشكل عام على أن العالم سوف يتجنب الوقوع في الركود، إلا أنهم يسلطون الضوء على احتمال حدوث “ركود معتدل” في أوروبا وبريطانيا.
وفي هذا الإطار، نستعرض خلال التقرير التالي أبرز التوقعات المرتبطة بالاقتصادين السعودي والعالمي خلال هذا العام.
- الاقتصاد السعودي
تواصل المملكة العربية السعودية في عام 2024 تنفيذ مستهدفات رؤية المملكة 2030، تلك الرؤية الرائدة التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حفظه الله، عام 2016، لتشكل انطلاقة لنهضة تنموية عملاقة، حيث من المتوقع أن تستمر مبادرات الرؤية في تحفيز اقتصاد المملكة، حيث تعمل المشاريع ذات الصلة والاستثمارات المحلية من قبل صندوق التنمية الوطني وصندوق الاستثمارات العامة على تعزيز إنفاق القطاعين العام والخاص، ولعل هذا الدافع وراء تقديرات وزارة المالية في الموازنة السعودية بأن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.4% خلال عام 2024. وكان صندوق النقد الدولي قد رفع في العاشر من أكتوبر الماضي تقديراته لنمو الاقتصاد السعودي في 2024 إلى 4%.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي النمو المستمر في الاقتصاد غير النفطي إلى دفع النشاط الاقتصادي على نطاق أوسع، وبالتالي نمو الإيرادات غير النفطية في عام 2024، وفقًا لتقرير صادر عن شركة “كي بي إم جي” العالمية.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن أول خطوة اقتصادية للسعودية في هذا العام ستكون بدء عضويتها رسميًا في تكتل “بريكس” الاقتصادي، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر سيسهم في دعم استراتيجية المملكة القائمة على الانفتاح والتنوع، وتعزز من وصولها إلى شبكة قوية من الشركاء الاقتصاديين في ظل تحديات جيوسياسية عالمية متنامية، وتحقق قدرًا من التحوط ضد تقلبات النظام الاقتصادي العالمي الحالي الذي يرتبط بالاقتصاد الأمريكي.
- مزيد من الاعتدال في معدلات التضخم
يتوقع محللو شركة “إس آند بي جلوبال” للتصنيفات الائتمانية أن يبلغ تضخم أسعار المستهلكين العالمية السنوي 4.7% في عام 2024، بانخفاض عن 5.6% في عام 2023 والذروة البالغة 7.6% في عام 2022. كما أنه من المتوقع حدوث معدلات التضخم في معظم أنحاء العالم عام 2024.
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع تراجع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي في جميع المناطق الكبرى في العالم خلال عام 2024 مقارنة بالعام الماضي. كما تشير التقديرات إلى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي العالمي سينمو بوتيرة أبطأ في عام 2024 تبلغ 2.3% مقارنة بما يقدر بنحو 2.7% في عام 2023، وذلك على الرغم من قوته في بعض المناطق مثل آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي من شأنه أن يساعد في تجنب هبوط اقتصادي عالمي حاد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه من المتوقع أن يحظى اقتصاد البر الرئيسي الصيني بالدعم من خلال تبني مزيد من السياسات الاقتصادية التيسيرية، والتحسن التدريجي في ثقة القطاع الخاص، والخروج المتوقع من تباطؤ نمو سوق الإسكان إلى أدنى مستوياته، لكن التقديرات تشير إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي في البر الرئيسي الصيني بنسبة 4.7% في عام 2024، بانخفاض عن 5.4% في عام 2023.
- خفض أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة
ترجح شركة “إس آند بي جلوبال”، أن يتم خفض أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة اعتبارًا من منتصف عام 2024. فمع تزايد الثقة في أن معدلات تضخم أسعار المستهلكين ستعود إلى المستوى المستهدف، من المتوقع حدوث تغييرات في السياسة النقدية بحلول منتصف العام، حيث ستبدأ تخفيضات أسعار الفائدة بمجرد تراجع المخاوف بشأن ضغوط الأسعار. كما ستستمر سياسة التشديد الكمي (QT) من قبل البنوك المركزية الكبرى في العالم، والتي تعد أداة سياسة نقدية انكماشية تستخدمها البنوك المركزية لتقليل مستوى المعروض النقدي والسيولة والمستوى العام للنشاط الاقتصادي.
- انخفاض قيمة الدولار الأمريكي
سوف يتعزز انخفاض قيمة الدولار الأمريكي بفِعل التباطؤ النسبي في النمو الاقتصادي الحقيقي والتضخم في الولايات المتحدة، فضلاً عن عبء العجز في الحساب الجاري الأمريكي، الذي يعد مرتفعًا إلى حد غير مستدام كحصة من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يرتفع سعر صرف الين الياباني مقابل الدولار الأمريكي بقوة أكبر عن العملات الأخرى خلال عام 2024.
من جهة أخرى، من المتوقع أن ينعكس التأثير المتأخر لارتفاع أسعار الفائدة والتأثير السريع لتدابير الدعم المرتبطة بجائحة كورونا “كوفيد-19” بشكل أكبر على القدرة على خدمة الديون في عام 2024، مما يجعل البنوك حريصة على أن تكون أكثر حذرًا تجاه الإقراض، مما يضعف معدل نمو الائتمان في معظم البلدان.
- التحول إلى مصادر الطاقة البديلة سيدعم النمو في الولايات المتحدة وكندا
سوف يدعم التحول إلى مصادر الطاقة البديلة النمو في كل من الولايات المتحدة وكندا، حيث اتجهت السياسة المالية الأمريكية إلى التحفيز إلى حد ما مرة أخرى مع بدء التمويل الإضافي في قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف في دعم البناء الفعلي، كما تدعم إعانات قانون خفض التضخم لمشاريع الطاقة الخضراء ارتفاعًا هائلًا في الصناعات الكهربائية والمرافق ذات الصلة، ويعمل قانون خلق الحوافز المفيدة لإنتاج أشباه الموصلات (الرقائق) على نحو مماثل على تعزيز إنتاج المصانع في الولايات المتحدة.
وفي كندا، تم بالفعل تنفيذ مبادرات المناخ في ألبرتا وساسكاتشوان مع وجود ثمانية مرافق عاملة لاحتجاز الكربون، كما توجد مشاريع جديدة مماثلة في مراحل التخطيط أو قيد الإنشاء.
وختامًا، يبقى القول بأن عام 2024 سيكون مكتظًا بالتطورات السياسية ذات التأثير المباشر على الأوضاع الاقتصادية، ويتمثل ذلك في الانتخابات الرئاسية التي تشهدها قوتان رئيسيتان بالنظام الدولي، حيث الانتخابات الرئاسية الروسية المقررة خلال مارس المقبل والأمريكية في نوفمبر، بجانب المسارات التي سيتخذها الصراع المتنامي بين واشنطن وبكين، فضلًا عن الاستحقاقات الانتخابية في كثير من الاقتصادات الناشئة المهمة كالهند وإندونيسيا في الربيع والمكسيك في منتصف العام، ومما لا شك فيه أن تداعيات تلك الأحداث ستؤثر على السياسات الاقتصادية لتلك الدول، وسيتردد صداها على المستوى العالمي.