دخل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الثاني دون وجود أي معطيات عملية تُشير إلى قُرب انتهاء العمليات العسكرية التي خلّفت حتى الآن عشرات الآلاف من الضحايا غالبيتهم من الأطفال والنساء.
ورغم القصف البري والبحري والجوي واستخدام التجهيزات المتقدمة عسكريًّا، لم تتمكن قوات الاحتلال من إحراز أي انتصار نوعي حتى الآن، بل واجهتها صعوبات كبيرة في عمليات الهجوم من المسافة صفر.
- مظاهر الوحشية في العدوان الإسرائيلي
تنتهج إسرائيل في عدوانها الراهن على قطاع غزة استراتيجية عسكرية قائمة على سياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية دون تفريق أو تمييز بين ما هو عسكري أو مدني، فتُشير آخر الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة في قطاع غزة إلى أن ضحايا العدوان تجاوزوا العشرة آلاف شهيد، وأن 70% من الضحايا من النساء والأطفال، إضافة إلى وجود أكثر من 2800 شخص لا يزالون تحت الأنقاض.
ويأتي هذا العدد الضخم من الضحايا المدنيين نتيجة قيام قوات الاحتلال بالقصف العشوائي وتدمير مربعات سكنية كاملة كانت مأهولة، مما أدى إلى سقوط العشرات وأحيانًا المئات من الشهداء في الغارة الواحدة، ومسح عوائل كاملة من السجلات المدنية، ولم يسلم من هذا القصف العشوائي الأماكن والممرات التي زعم الاحتلال أنها “آمنة”، في حين أنه جعلها ممرات إلى الموت.
ولم يكتف جيش الاحتلال بذلك فحسب، بل استهدف المستشفيات والأطقم الطبية وسيارات الإسعاف والمدارس التي ينزح إليها الفارون للاحتماء، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية أن القصف الإسرائيلي المتواصل أودى بحياة أكثر من 160 من العاملين في مجال الرعاية الصحية ، مشيرة إلى أن إسرائيل نفذت 229 هجوما على مستشفيات ومراكز رعاية صحية منذ بدء العدوان. وأضافت أن القطاع الطبي يُعاني من شُح شديد في الأدوية، وأن بعض العمليات الجراحية يتم إجراؤها دون تخدير بما في ذلك عمليات بتر الأطراف.
من جانبها، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى التابعة للأمم المتحدة (أونروا) أن عدد الضحايا من موظفيها في غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي بلغ 103 أشخاص، منهم 79 قتيلًا و24 جريحًا، وأضافت أن 48 من منشآتها في أنحاء مختلفة من القطاع قد تعرضت لأضرار جراء القصف الإسرائيلي، مشيرة إلى استهداف جيش الاحتلال كثيرًا من المدارس التابعة لها والتي تأوي عشرات الآلاف من النازحين الفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد الكثير منهم.
وفي محاولة لحجب المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال، استهدفت إسرائيل بشكل واضح الصحفيين، حيث استشهد 48 صحفيًا منذ بداية العدوان على القطاع، فضلًا عن تعمدها قطع الكهرباء والاتصالات والإنترنت.
وإجمالًا، يمكن القول إن قطاع غزة يشهد مأساة إنسانية ضخمة، فمن ينجو من الموت يُعاني من الحصار المطبق ونقص شديد في المواد الغذائية ومياه الشرب والأدوية والمستلزمات الطبية، مما يُشير إلى أن الكيان المحتل يستخدم سلاح التجويع والتعطيش لتهديد حياة مئات الآلاف من أهالي القطاع، وإجبارهم على النزوح. وفي هذا الصدد قال المتحدث باسم الأونروا إن 70% من سكان القطاع أصبحوا نازحين قسرًا.
- أسباب التعامل الوحشي لقوات الاحتلال
يتبع الاحتلال الإسرائيلي منذ استيلائه على الأراضي الفلسطينية نهجًا ترويجيًّا استراتيجيًّا قائمًا على فكرة “صناعة الأساطير”، مثلما هي الحال فيما يتعلق بقوات الاحتلال التي لطالما روجت لمقولة: “الجيش الذي لا يُقهر”. وقد شكّلت عملية طوفان الأقصى وما أسفرت عنه من خسائر بشرية إسرائيلية ما بين قتيل وجريح وأسير، ضربة قوية للحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية والعسكرية، إذ أفقدتها هيبتها وثقة المجتمع الإسرائيلي؛ لذلك جاء رد الفعل عشوائيًّا ودمويًّا بشكل غير مسبوق.
كما يوجد عامل آخر يمكن من خلاله تفسير الوحشية والإجرام الإسرائيلي في إبادته للفلسطينيين بقطاع غزة، يتعلق بطبيعة حكومة الإسرائيلية الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو فهي الأكثر تطرفًا منذ نشأة إسرائيل، لدرجة أن وزير ما يسمى بـ”التراث الإسرائيلي”، عميحاي إلياهو عبّر عن تأييده لقصف قطاع غزة بقنبلة نووية.
ومن العوامل التي شجّعت إسرائيل على المُضي قُدمًا في ارتكاب مزيد من جرائم الحرب، حالة الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود الذي حظيت به، وتمثّل في دعم عسكري، وأيضًا دبلوماسي عبر توفير الغطاء السياسي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لحمايتها من العقاب على جرائمها، ومنع استصدار أي قرار لوقف إطلاق النار، واعتبار الدول الغربية أن ما تقوم به حكومة نتنياهو هو دفاع عن النفس.
- تخبط إسرائيلي وغياب للرؤية
تُعاني حكومة نتنياهو من حالة من التخبط بسبب عملية طوفان الأقصى التي جاءت مفاجئة من حيث التوقيت، فضلًا عن خسائرها الكمية والنوعية. ويمكن رصد بعض مظاهر هذا التخبط فيما يلي:
أولًا: تعرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى هجوم شديد بعدما حاول التنصل من أي مسؤولية إزاء الفشل أمام عملية طوفان الأقصى، حيث قام بحذف منشور كتبه على منصة إكس حمّل فيه قادة أجهزة الاستخبارات المسؤولية عن هذه العملية.
ثانيًا: نقلت القناة “12 الإسرائيلية” ووسائل إعلام عبرية تصريحات منسوبة لنتنياهو يقول فيها، إن هناك حاجة إلى التحقق حول ما إذا كانت احتجاجات قوات الاحتياط في الجيش ورفضهم استئناف الخدمة، لها علاقة بقيام حماس بعملية طوفان الأقصى. إلا أن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي سارع لإصدار بيان ينفي هذا الأمر.
ثالثًا: من الواضح أن عملية طوفان الأقصى المباغتة أدت إلى ارتباك الحكومة الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال ردت على هذه العملية بغارات وعمليات قصف واسعة النطاق وارتكبت مجازر وجرائم حرب شنيعة، فإن دخولها البري إلى القطاع يُشير إلى عدم وجود خطة محكمة وأهداف واضحة لدى القيادة الإسرائيلية، بحيث تنتهي عملياتها بتحقيق تلك الأهداف. علمًا بأن القضاء على حركة حماس الذي أعلن عنه نتنياهو كهدف من التوغل البري من غير المنطقي تحقيقه على أرض الواقع، بخلاف لو كان الهدف المعلن تحجيم القدرات العسكرية لحماس وتدمير بنيتها التحتية. كما أن قول نتنياهو بأن عملياته العسكرية سوف تنتهي باستعادة الأسرى المحتجزين لدى حماس هو أيضًا هدف غير واقعي خلال هذه المرحلة، فليس من المنطقي أن تقوم حماس بتسليمهم دون مقابل بعد هذا الكم من الدمار وهذا العدد من الضحايا.
أما فيما يتعلق بالهدف الآخر الذي كشفته الأحداث والمتمثل في تهجير أهالي قطاع غزة إلى سيناء المصرية، فيُؤكد أيضًا خطأ التقديرات الإسرائيلية التي رهنت عمليتها البرية بموقف طرف آخر يتمثل في القاهرة التي أعلنت ومعها الدول العربية الرفض التام لعملية التهجير إلى الأراضي المصرية وتصفية القضية الفلسطينية.
وبذلك، فإن هذا التخبط واتخاذ القرارات بشكل غير مدروس، يُرجح أن نتنياهو اتخذ قرار التوغل البري من أجل استعادة الدعم الشعبي الإسرائيلي، بعدما تراجعت أسهمه بشدة بعد عملية طوفان الأقصى.
- السيناريوهات المحتملة:
أمام هذا المشهد توجد مجموعة من السيناريوهات، أبرزها ما يلي:
- استمرار إسرائيل في عدوانها الغاشم
ما يُعزز هذا السيناريو هو التحركات الإسرائيلية على الأرض وتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي التي أعلن فيها عن عدم انتهاء العملية إلا بالقضاء على حماس واستعادة الأسرى، فضلًا عن مظاهرات أهالي الأسرى التي تضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل استعادة ذويها.
في المقابل يوجد كثير من العوامل التي تُصعب من استمرار هذا السيناريو، منها التكلفة الاقتصادية الباهظة التي تتكبدها الموازنة الإسرائيلية نتيجة طول الفترة المتوقعة للعملية العسكرية، حيث أفاد تقرير لبنك “جي بي مورغان تشيس” الأمريكي أن الاقتصاد الإسرائيلي قد ينكمش بنسبة 11% على أساس سنوي، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري، مع تصاعد العدوان على غزة.
ومن العوامل التي تعرقل هذا السيناريو أيضًا، الضغط الشعبي الغربي على حكومات الدول الداعمة لإسرائيل والمطالبة بضرورة وقف أعمال القتل بحق المدنيين. فضلًا عن عدم وجود أفق منظور ومدى زمني لانتهاء العمليات العسكرية.
إضافة إلى ذلك، فشل مخطط نتنياهو القائم على ممارسة الضغط الوحشي على أهالي القطاع من أجل إجبارهم على التهجير القسري إلى سيناء، مما يعني أنه تورط في التوغل البري ولم يعد أمامه من سبيل إلا استمرار التدمير الانتقامي.
- التوصل لوقف إطلاق نار مؤقت
يُعزز هذا السيناريو المساعي الحالية وجولات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في المنطقة من أجل التوصل إلى تفاهم حول هدنة مؤقتة يتم خلالها إدخال المساعدات إلى القطاع. ومن ثمّ تتفادى الحكومات الغربية الضغوط الشعبية الممارسة ضدها جرّاء جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
كما يُعزز هذا السيناريو أيضًا التصريحات الأخيرة لنتنياهو التي أعلن فيها عن انفتاح تل أبيب على ما وصفه بـ”فترات توقف تكتيكية صغيرة” للقتال. ويُعد هذا السيناريو أقرب إلى التحقق، ولكنه يُعد سيناريو مرحليًّا وليس مستدامًا.
- عودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزة مع سيطرة أمنية إسرائيلية على القطاع
وذلك من خلال إدارة السلطة الفلسطينية لقطاع غزة، مع تحمل إسرائيل المسؤولية الأمنية الشاملة، أي أنه وضع أقرب لمناطق (ب) في الضفة الغربية بموجب اتفاقية «أوسلو» الثانية الموقعة عام 1995، حيث تخضع المناطق (ب) لسيطرة مدنية فلسطينية وأمنية إسرائيلية.
ويُعد هذا السيناريو هو الأقرب من حيث إمكانية التحقيق، كونه يحفظ ماء الوجه لإسرائيل ويُعطي حكومة نتنياهو مبررًا لإنهاء العمليات العسكرية. ولكنه يظل سيناريو مشروطًا بعدد من المعطيات، أولها القيام بمزيد من أعمال الاستهداف لقيادات حماس وتحجيم قدراتها العسكرية.
إضافة إلى ذلك، يُعد ملف الأسرى من أهم العقبات التي قد تُعرقل تحقيق هذا السيناريو، بجانب موقف حركة حماس من سيطرة السلطة الفلسطينية على القطاع والتي قد تجعل الحركة في مواجهة مزدوجة مع قوات الاحتلال من جانب والسلطة الفلسطينية من جانب آخر، مما يعني أن قطاع غزة لن يكون مستقرًا.