يُشكل الإعلام ساحة وأداة رئيسية للصراع بين القوى الكبرى في النظام الدولي وحشد التأييد لسياساتها من خلال التأثير في الرأي العام العالمي عبر الخطاب الذي تتبناه والحجج والاستمالات الإقناعية التي تستخدمها.
وفي هذا الإطار، نشر مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع للمجلس الأطلنطي (مركز بحثي مقره واشنطن) تقريرًا يتناول قوة الخطاب الصيني، حيث يحدد الاستراتيجية والقدرات والتأثيرات والاستجابات لمحاولات بكين تشكيل بيئة المعلومات العالمية، مشيرا إلى أن قادة الصين يعتقدون أنه من خلال اكتساب “قوة الخطاب بإمكان الصين اكتساب القوة الجيوسياسية اللازمة لترسيخ نفسها كقائد عالمي”، ونشر معاييرها وقيمها، وإضعاف قوة الولايات المتحدة في النظام الدولي.
وينطلق التقرير من تعريف قوة الخطاب بأنها القدرة على وضع أجندة سردية تركز على إعادة تشكيل الحوكمة العالمية والقيم والمعايير لإضفاء الشرعية وتسهيل التعبير عن قوة الدولة، مستعرضًا إطار “التقارب الإعلامي”، وهو مصطلح صيني يشير إلى تكامل الدعاية الداخلية والخارجية للحزب الشيوعي الصيني، والقنوات عبر الإنترنت.
ويفحص هذا التقرير “تقارب الوسائط” عبر ثلاثة نواقل وهي توسيع القناة، وابتكار المحتوى، وإدارة البنية التحتية التكنولوجية والاتصال الرقمي.
- توسيع القناة
يشير إلى إنشاء أو تحسين وسائل نقل رسائل الصين بهدف ترويج الروايات والأعراف الصينية على أمل تآكل “هيمنة الخطاب” الغربي على العالم.
فبالنسبة للإعلام التقليدي، أنفقت الصين أكثر من 1.5 مليار دولار سنويًا منذ عام 2008 على الدعاية، مع توجيه الكثير منها نحو المبادرات في الجنوب العالمي. ويتضح هذا بشكل خاص في استراتيجيات وكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا” (وكالة الأخبار الرئيسية في الصين)”، التي تصف نفسها بأنها “سلاح الفرسان الخفيف” في حرب الرأي العام العالمية.
وتصف شينخوا استراتيجيتها الإعلامية بأنها تستخدم مزيجًا من “بناء السفن للخروج إلى البحر” أي بناء قدرة الصين الخاصة على نشر رسالتها بشكل فعال على الصعيد الدولي، و”استعارة قارب للخروج إلى البحر” في إشارة لاستخدام منصات وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية لنشر الدعاية الصينية. وكجزء من هذه الجهود، قامت شينخوا على مر السنين بتوسيع شبكاتها بشكل كبير لتضم الآن أكبر عدد من المراسلين الأجانب من أي وكالة أنباء في العالم.
وتشمل الاستراتيجيات الأخرى تحفيز الصحفيين في الخارج للمشاركة في تغطية أكثر تفضيلاً للصين، كما وسعت الكيانات الحكومية الصينية بشكل كبير من وجودها على وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا.
واعتبارًا من يناير 2021، وزعت وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) في المتوسط 7300 مقالة وصورة ومقطع فيديو ومحتوى إعلامي بـ15 لغة يوميًا، وحصلت على أكثر من 200 مليون متابع على وسائل التواصل الاجتماعي في الخارج عبر منصات مختلفة بما في ذلك فيسبوك وإكس (تويتر سابقا) ويوتيوب.
وفيما يتعلق بجهود الصين في تشكيل الرأي العام، وجدت معظم الدراسات أن رسائل الصين على المستوى العام لا تلقى صدى خاصًا مع الجماهير المحلية، ومع ذلك فقد أظهرت بعض الدراسات الأولية أن الدعاية الصينية يمكن أن تكون فعالة في إقناع الجماهير بأن “نموذج الصين” يتفوق على نموذج الأنظمة السياسية الديمقراطية في تحقيق النمو والاستقرار.
- ابتكار المحتوى
يعتبر الشق الثاني لاستراتيجية الصين للتقارب الإعلامي، والذي يتضمن تصميم المحتوى (والقصص المخبأة فيه) بطريقة تلقى صدى أفضل لدى جمهور معين، ويعرف باسم “الاتصال الدقيق”.
وترى الصين أن الوصول إلى بيانات الرأي العام في الخارج ضروري لتعزيز قدرتها على تخصيص المحتوى. كما صرح سكرتير الحزب ورئيس ذراع الإنترنت في صحيفة الشعب اليومية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني عام 2022، بأن الإنترنت “يضم قدرًا هائلاً من البيانات ويمكنه أن يعكس بدقة المشاعر الاجتماعية باستخدام تحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، ويمكن أن يكون أداة لتعزيز قيادة الحزب”.
ولتحقيق هذه الغاية، أطلقت الصين مؤخرًا أربعة مختبرات حكومية رئيسية مكرسة لاستخدام البيانات الضخمة لتخصيص محتوى بشكل أفضل لجمهور محدد، فضلاً عن نشر “الطاقة الإيجابية” من خلال وسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية.
وبالإضافة إلى تشكيل المحتوى، هناك تكتيك آخر يتمثل في حجب حقيقة أن المحتوى يأتي من مصادر حكومية صينية، وتُعرف هذه الظاهرة باسم “الإعلان السياسي المحلي”، حيث تشتري المؤسسات الإعلامية الصينية التي تديرها الدولة مساحة في المنافذ الإخبارية في الخارج لنشر محتوى تصادق عليه الدولة “يكون مموهًا” كمقالات إخبارية محايدة.
وفي تقرير صدر عام 2020، سلطت مؤسسة “فريدوم هاوس” المعنية بالحريات الضوء على أن النسخ الرقمية من الصحف المحلية غالبًا ما تتجاهل “تشاينا أوبزرفر” (وهو عمود باللغة الإنجليزية تصدره صحيفة تشاينا ديلي) على أنه محتوى برعاية الدولة.
وتتضمن الاستراتيجية ذات الصلة بالمحتوى، محاولات الصين للسيطرة على بيئات الوسائط المحلية من خلال اتفاقيات مشاركة المحتوى، والتي تنتهي في بعض الحالات بإغراق بيئات الوسائط المحلية بمحتوى مجاني أو منخفض التكلفة مؤيد للحزب الشيوعي الصيني. وجزء كبير من هذه الدفعة موجه إلى البلدان ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومعظمها في جنوب الكرة الأرضية.
- إدارة البنية التحتية التكنولوجية والاتصال الرقمي
يعتبر الإطار الأخير لدراسة استراتيجية قوة الخطاب الرقمي في الصين هو الحوكمة. ويشمل ذلك ضمان اعتماد المعايير والقواعد وبروتوكولات الحوكمة التي ترعاها الصين في الصناعات ذات الأولوية على نطاق واسع، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية.
كانت الصين، على سبيل المثال، نشطة في تشكيل معايير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الاتحاد الدولي للاتصالات من خلال استراتيجية “إغراق المنطقة” التي يصوت فيها جميع الأعضاء التابعين إلى الصين، سواء أكانوا من الأوساط الأكاديمية أو الصناعية الخاصة أو الحكومية، بوصفهم كتلة. وهذا يضمن أن تنتهي مقترحات المعايير المقدمة من الكيانات الصينية في نهاية المطاف بالحصول على عدد الأصوات اللازمة لاعتمادها من قبل هيئة وضع المعايير.
وتعمل الصين أيضا على نشر المعايير الإلكترونية الصينية، مثل “السيادة الإلكترونية”، التي تمثل رؤيتها لحوكمة الإنترنت التي تدعم الحق السيادي للحكومة في التحكم في الإنترنت داخل حدودها.
وتنشر بكين هذه القاعدة من خلال تقديم المشورة للحكومات حول كيفية تشكيل القوانين والسياسات التي تحكم التقنيات في مجتمعاتهم. وفي الوقت نفسه، تعزز الصين علاقاتها الإعلامية لإغراق البيئات المحلية بقصص عن فوائد استثمار الصين في مستقبل البلدان النامية، وتسمح هذه العلاقات أيضًا للصين بالوصول إلى موارد البيانات الهائلة.
وفي هذا السياق، على سبيل المثال تستخدم شركة “نيبولا” بياناتها الضخمة وتقنيات الحوسبة السحابية للحصول على كميات هائلة من البيانات المتعلقة بالرأي العام الدولي حول الموضوعات الإخبارية المتعلقة بالصين، وتعتمد على مجموعة متنوعة من أساليب التحليل لفهم التفضيلات العامة ومساعدة وسائل الإعلام الصينية على بناء قوة الخطاب الدولي وتأثيره، بحيث يمكن للدولة الصينية بعد ذلك استخدام هذه البيانات لصقل رسائلها بشكل أكبر.
وختامًا، يخلص هذا التقرير إلى أن قوة الخطاب الصيني متفاوتة، ففي حين أن شعبية وسائل الإعلام الحكومية الصينية تتخلف عن نظيراتها الغربية، فإن جهود بكين لتشكيل البيئات داخل وسائل الإعلام وفضاءات المعلومات حول العالم أكثر فاعلية.