تعتبر نظرية الآثار الموحدة لوسائل الإعلام، أول نظرية في مجال الإعلام ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث قامت بصورة أساسية على افتراضات نظرية المنبه والاستجابة في علم النفس، ونظرية المجتمع الجماهيري في علم الاجتماع، إذ اعتمدت على الأولى عندما رأت أن الأفراد تحركهم غرائزهم التي ليس بمقدورهم السيطرة عليها بشكل إرادي. واعتمدت على النظرية الثانية عندما رأت أن الأفراد في المجتمعات الحضرية معزولون عن بعضهم البعض، وبالتالي يصبحون هدفًا سهلًا لوسائل الإعلام نتيجة غياب الروابط والعلاقات الاجتماعية.
وفي هذا الإطار، نشرت المجلة المصرية لبحوث الاتصال الجماهيري في عددها الصادر في يوليو 2023، دراسة بعنوان “المقاربات السيكولوجية والسوسيولوجية لنظرية الآثار الموحدة لوسائل الإعلام (دراسة نقدية)” من إعداد محمد علي القعاري أستاذ الصحافة والفلسفة النظرية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأحمد كمال عبد الحافظ المدرس بكلية الآداب جامعة حلوان.
وقد هدفت الدراسة إلى الكشف عن أهم المقاربات السيكولوجية والسوسيولوجية لنظرية الآثار الموحدة لوسائل الإعلام وفقاً لفلسفة ومنطلقات المدرسة الإمبريقية ذات النهج الكمي التي قامت على مدخل التأثيرات المنطلق من علم النفس والمدرسة السلوكية، ومدخل الوظائف المنطلق من علم الاجتماع والدراسات الاجتماعية، وهو ما نستعرضه على النحو التالي:
- نظرية الآثار الموحدة لوسائل الإعلام
ظهرت نظرية الآثار الموحدة أو ما اصطلح على تسميتها إعلاميًا بـ”نظرية الرصاصة” في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، حيث ساد اعتقاد عام خلال الحرب بالقدرة الخارقة لوسائل الإعلام في التأثير على الجمهور ومواقفه، وقدرتها على تكوين رأي عام جماهيري وفقًا لوجهة النظر التي يرغب القائم بالاتصال في نقلها إلى الناس، فقد كانت وسائل الإعلام هي الوسيلة الوحيدة المُثلى لتوجيه الرسائل إلى الشعب لاستنهاض همته في القتال، وفي المقابل كان الجمهور يتلقاها بشغف ولا يشك في مصداقيتها، وكان متفاعلًا معها دون أن يعرف أهدافها وغايتها.
وقد بنى أصحاب هذا الاتجاه اعتقادهم على قوة وسائل الاتصال الجماهيرية في التأثير على الأفراد وعلى بعض الافتراضات النفسية والاجتماعية المستمدة من علمي النفس والاجتماع السائدة آنذاك، ففي المجال النفسي ساد اعتقاد بأن الأفراد تحركهم عواطفهم وغرائزهم التي ليس بمقدورهم السيطرة عليها بشكل إرادي، فإذا ما تم حقنهم بمعلومات معينة تخاطب هذه الغرائز فإنهم سوف يتأثرون مباشرة بهذه الحقنة الاتصالية ويستجيبون لها فورًا.
أما على المستوى الاجتماعي، ساد اعتقاد أيضًا بأن الأفراد في المجتمعات الجماهيرية الصناعية سلبيون ومعزولون عن بعضهم نفسيًا واجتماعيًا، لذلك فهم فريسة سهلة لا يوجد من يحميها أمام ما تمارسه وسائل الاتصال عليهم من تأثيرات في غياب الروابط والعلاقات الاجتماعية.
- الانتقادات الموجهة للنظرية
اعتمدت نظرية الرصاصة بالدرجة الأولى على علم النفس وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، وأكدت أن الرسائل الإعلامية تؤثر فقط على الجوانب النفسية الشعورية واللاشعورية للأفراد، وتجاهلت كل العوامل السياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكنها التأثير على العملية الاتصالية.
ومع الاهتمام المتزايد بالبحوث الإمبريقية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تمت إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام والأفراد، فقد رفضت فكرة أن الناس يواجهون وسائل الإعلام باعتبارهم جمهورًا سلبيًا لا رابط بين أفراده، وحل محل ذلك تصور جديد بأن جمهور وسائل الإعلام هو مجموعة من الأفراد الذين يواجهون وسائل الإعلام باعتبارهم كائنات اجتماعية مرتبطة ببيئتها الاجتماعية، فالافتراضات التي قامت عليها نظرية الرصاصة تم رفضها مطلقًا، وكان من الطبيعي أن يتخلى عنها علماء الاتصال، وقد ذهب بعض الباحثين إلى تبرير ذلك بقولهم إن النظرية كانت ضعيفة جدًا، لأنها تنظر إلى الناس كمتلقين سلبيين لرسائل الإعلام، إلا أن الجماهير في واقع الأمر يتكونون من أفراد يختارون ويرفضون ويتفاعلون، وهو ما أدى بالتالي إلى التخلي عن هذه النظرية، وحدث الانشطار النظري في دراسات الاتصال، وبروز نظريات جديدة محلها عرفت بنظريات التأثير المحدود لوسائل الإعلام.
ويمكن حصر العديد من الانتقادات للنظرية وأبرزها:
- افتراض النظرية يعد شكلًا مبسطًا من التأثيرات تبدأ من وسائل الإعلام وتنتهي عند الفرد الذي يتأثر أو يقتنع أو يتغير أيًّا كان نوع هذا التغير.
- عدم أخذ النظرية فكرة تناقض تأثيرات وسائل الاتصال، بمعنى أن تأثيراً معيناً قد يتناقض مع تأثير آخر ويتصارع معه لدرجة أن يتغلب عليه ولا يصبح هناك تأثير نهائي.
- رؤية النظرية أن تأثيرات وسائل الاتصال عنيفة ومفاجئة على الفرد والجمهور.
- صعوبة تحديد الاستجابات التي تحدث نتيجة للاتصال، لأننا لا نتوقعها، فالمرسل يقدم رسالة وفي ذهنه هدف محدد ومن الطبيعي أن ننظر إلى تأثيرات الاتصال.
- إحياء نظرية الآثار الموحدة في عصر الإعلام الجديد
على الرغم من وجود اعتقاد عام في أوساط الباحثين بأن نظرية الآثار الموحدة أصبحت من الماضي، ولا وجود لها في ضوء النظريات الحديثة للإعلام والاتصال، فإن النظرية عادت بقوة مرة أخرى في الأوساط الأكاديمية، وذلك في ضوء وجود الإعلام الجديد والشبكة العنكبوتية لعدة أسباب منها:
- تميز وسائل الإعلام التقليدية بمحدودية المكان والزمان، أما الآن في ضوء وسائل الإعلام الجديدة أصبحت وسائل الإعلام منتشرة بشكل كبير وزاد عدد الجمهور المتفاعل معها.
- اعتماد وسائل الإعلام الجديد على مفهوم القوة الناعمة وهو ما يعني القدرة على جذب الجمهور لتلقي مضمون رسالة معينة بدل التهديد أو الترغيب. وهذا يدل على أن وسائل الإعلام الجديد لها التأثير الفعال والنافذ في الجمهور.
- تمكن الإعلام الجديد من الجمع والمزج بين خصائص كل من (الاتصال الشخصي والجماهيري)، حيث أخذ الإعلام الجديد من الاتصال الشخصي خاصية التغذية الراجعة والتأثير السلوكي، وأخذ من الاتصال الجماهيري خاصية سرعة الانتشار والتأثير المعرفي.
- يتسم المتلقي للإعلام الجديد بكثير من صفات المجتمع الجماهيري كما حددتها نظرية الحقنة تحت الجلد حيث تظهر عليه المؤشرات ذاتها: الانطواء في عزلة نفسية عن الآخرين، انعدام المشاعر الشخصية حيال التفاعل الاجتماعي. وهو ما يمكن من القول بأن مستخدم الإعلام الجديد سلبي.
- تأثر الجمهور الكبير المتعدد المتنوع بالكثير من القضايا والموضوعات المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وانتشار العديد من الأخبار الزائفة، فضلا عن تعرض العديد من الأشخاص للاحتيال، يصب كل ذلك في فرضية نظرية الرصاصة بأن العديد من جماهير وسائل التواصل الاجتماعي الآن تصله الرسالة بشكل مباشر ويتعرض لها ويتأثر بها بشكل فردي.
- عندما يدور نقاش افتراضي حول مضمون الرسائل الإعلامية على شبكات التواصل الاجتماعي يؤدي ذلك في الغالب إلى تدعيم التأثر بمحتوى الرسالة الاتصالية لأن هذه المناقشات تدور في سياقات ما يسمى بغرف الصدى، حيث يتم مناقشة القضايا مع أشخاص يتبنون نفس التوجه فيتعرض الأفراد للمعلومات والآراء التي تدعم وجهات نظرهم وتتجاهل وجهات النظر الأخرى المعارضة، وفي نطاق مثل هذه العزلة تصبح الأفكار أكثر ميلًا للتطرف بسبب ضعف الاتصال مع وجهات النظر الأخرى، ومن ثم يحدث الاستقطاب على شبكات التواصل الاجتماعي لأن الأفراد يميلون دائمًا لمناقشة القضايا السياسية والشؤون العامة مع الآخرين الذين لديهم نفس العقلية ونفس التوجهات الفكرية. وهذا يمكن أن يفسر الدور القوي للمشاهير والمؤثرين في شبكات التواصل الاجتماعي على الجمهور من خلال القضايا التي يطرحونها ويتبنونها ويدور النقاش بين المتابعين لهم على هذه الشبكات.
وختامًا، يمكن القول بأن وسائل الإعلام الجديد أعادت إلى الواجهة مجددًا نظرية الآثار الموحدة لوسائل الإعلام في ضوء قدرة الإعلام الجديد في التأثير بشكل كبير على الجمهور، حيث يستطيع تغيير اتجاهاته وقناعاته، مما يحتم بحث مدى إمكانية تناول تلك النظرية مجددًا وتطبيقها في الدراسات ذات الصلة بمنصات التواصل الاجتماعي وغيرها من القنوات والوسائط الإعلامية الرقمية.