في خطوة جديدة تعكس دورها القيادي في سوق النفط العالمية، وجهودها لتحقيق الاستقرار في الأسعار وتوازن السوق وفقا لآليات العرض والطلب، تعهدت المملكة العربية السعودية بتخفيض إنتاجها مليون برميل يوميا ابتداء من الشهر المقبل، وذلك لمدة شهر واحد قابل للتمديد.
كما قرر تحالف “أوبك بلس” النفطي الذي تقوده السعودية وروسيا (يضم 13 دولة من أعضاء أوبك و10 غير أعضاء في المنظمة)، عقب اجتماع في فيينا، تنفيذ خفض طوعي في إنتاج النفط حتى نهاية عام 2024.
ويتوزع ذلك الخفض يوميا كالتالي؛ السعودية 500 ألف برميل، وروسيا (500 ألف)، والإمارات (144 ألف برميل) والعراق (211 ألف برميل)، وسلطنة عمان (40 ألف برميل)، والجزائر(48 ألف برميل)، حيث يضاف ذلك إلى خفض إلزامي بمقدار 1.4 مليون برميل يوميًا يبدأ مطلع العام المقبل، ويستمر عامًا كاملًا، وعلى هذا النحو سيبلغ مستوى إجمالي إنتاج النفط الخام للدول الأعضاء في التحالف من مطلع العام المقبل وحتى نهايته، 40.46 مليون برميل يوميا، بدلا من 41.86 مليون برميل يوميا بنهاية أكتوبر.
وقد جاء قرار تحالف “أوبك بلس” مدفوعا بتذبذب أسعار النفط الخام بنسبة 18% منذ أكتوبر 2022، وبنسبة 20% منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من العام نفسه. ولما كانت “أوبك بلس” تضخ نحو 40 % من إنتاج الخام العالمي، فإن قراراتها لها تأثير كبير على أسعار النفط، وهو ما ظهر سريعا حيث استهلت أسعار العقود الآجلة للنفط الخام في تعاملات الأسبوع الجديد بارتفاع كبير، بينما يتوقع خبراء أن تعمل التخفيضات بشكل مطرد على تعميق نقص الإمدادات العالمية مما قد يدفع الأسعار لنحو 100 دولار للبرميل.
- السياق المحيط بقرار خفض الإنتاج
ويعتبر خفض الإنتاج النفطي السعودي الأكبر منذ سنوات، فبموجبه يبلغ الإنتاج 9 ملايين برميل يوميًا بدلا من 10 ملايين برميل، وهو يعكس قراءة واعية لمسار السوق، لا سيما عدم اليقين بخصوص مستقبل الطلب على النفط في السوق العالمية، بسبب المخاوف من أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا، وآثار ذلك المتوقعة على أسعار النفط.
ويُحافظ القرار السعودي على المصالح الوطنية، فمن مصلحة الرياض أن تكون قيمة برميل النفط أعلى من 80 دولارا، ومن ثم استخدام العائدات في مواصلة مشروعات الرؤية الطموحة “رؤية المملكة 2030” التي تتكلف مليارات الدولارات، كما أن تلك المشروعات تدخل بدورها ضمن خطة رائدة لتنويع الاقتصاد.
- تأثيرات طويلة المدى
يعتبر محللون وخبراء أن خطوة السعودية بالخفض الإضافي لإنتاج النفط سيكون لها تأثيرات طويلة المدى، إذ ترجح شركة الاستشارات “ريستاد إنرجي” أن يؤدي ذلك إلى تعميق عجز السوق إلى أكثر من 3 ملايين برميل يوميا في يوليو، وهو ما قد يدفع الأسعار للارتفاع في الأسابيع المقبلة.
كما يرى محللو بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس أن اجتماع “أوبك بلس” كان “صعوديًا إلى حد ما” لأسواق النفط وقد يرفع أسعار برنت في ديسمبر المقبل بما يتراوح بين دولار واحد إلى 6 دولارات للبرميل اعتمادًا على المدة التي تحافظ فيها السعودية على إنتاجها عند 9 ملايين برميل يوميًا خلال الأشهر الستة المقبلة.
ووصف ستيفن إينيس، الشريك الإداري في “إس بي آي أسيت مانجمنت”، القرار بأنه “محاولة لتوفير جسر (للاستقرار) حتى يرتفع الطلب”، موضحا في مذكرة أن أسعار النفط تعرضت لضغوط من النظرة العامة القاتمة للاقتصادات الأمريكية والعالمية، فهناك أدلة على أن النمو يتعثر في الولايات المتحدة والصين أكبر اقتصادين في العالم.
إلى ذلك، يرى رئيس وكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول أن فرصة ارتفاع أسعار النفط زادت بشكل حاد بعد اتفاق “أوبك بلس” الجديد، وبالفعل ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 1.14 دولار، أو 1.50%، عند 77.25 دولار للبرميل. كما ارتفع خام غرب تكساس “خام نايمكس” بمقدار 97 سنتا ، أو 1.34 %، إلى 72.70 دولار للبرميل.
- تعليق أمريكي مقتضب
أما عن رد الفعل الأمريكي على القرار السعودي وإعلان “أوبك بلس”، فجاء على لسان مسؤول بالبيت الأبيض في بيان مقتضب قال فيه: “نحن لسنا جزءا في أوبك بلس، فالمنظمة تتخذ القرارات الخاصة بها”، مؤكدا “نركز على المستهلكين الأمريكيين، وليس على سعر البرميل، وقد انخفضت الأسعار بشكل ملحوظ العام الماضي”.
ومن اللافت أن اللغة الأمريكية المستخدمة في التعليق على قرار التخفيض قد شهدت تحولًا واختلافًا ملحوظًا، مما يعكس أن المملكة استطاعت فرض رؤيتها النفطية وحافظت على استقلالية قرارها، علمًا بأن التخفيضات السابقة لتحالف “أوبك بلس” كانت قد أثارت حفيظة الولايات المتحدة والدول المستهلكة الأخرى التي انتقدت قرارات التحالف، واعتبرت أنها تؤدي إلى زيادة تكاليف الطاقة، وهي انتقادات لا أساس لها من الصحة كونها تتجاهل حقيقة اتخاذ الدول الأعضاء في التحالف النفطي لقرارات خفض أو زيادة الإنتاج وفقا لمحددين هما العرض والطلب والمصلحة الوطنية، لا سيما مع وجود ثمة حاجة إلى توفير شروط للاستثمار طويل الأجل في قطاع النفط والغاز، الذي لا يزال أساسيًا ومهمًا للاقتصاد العالمي رغم جهود التحول إلى الطاقة منخفضة الكربون والتي ستستغرق مزيدًا من الوقت.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن السياسة النفطية للمملكة العربية السعودية تظل العنصر الرئيسي في تحديد توجهات ومسارات سوق النفط العالمي، وهي سياسة تتسم بالاستقلالية التامة والحرص على دعم أطر التعاون الدولية مع باقي الدول المنتجة للنفط لبلوغ التوافق. كما تقوم تلك السياسة على توازن دقيق بين المصلحة الوطنية واستقرار الأسواق العالمية بشكل يعكس ما تتحلى به دوائر صنع القرار السعودي من حكمة وقدرة على صياغة استراتيجيات تترجم إلى خطط تنفيذية تحفظ الاستقرار وتدعم جهود التنمية المستدامة حول العالم.