تقدير موقف

تسييس العدالة الدولية

في السابع عشر من مارس الحالي، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدعوى مسؤوليته عن ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، في خطوة أحيت الجدل القانوني والسياسي حول حدود دور واختصاص تلك المحكمة. وبينما لاقت تلك المذكرة دعمًا وتأييدًا فوريًا من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية، واجهتها روسيا بتنديد وتحذير من عواقب وخيمة لتلك الخطوة، أما الصين فقد دعت المحكمة لتفادي ازدواجية المعايير واحترام حصانة رؤساء الدول.

ويمكن قراءة تلك الخطوة بأنها تعكس رغبة غربية في تشديد الضغوط على الرئيس الروسي وفرض عزلة دولية عليه، بعدما فشلت موجة العقوبات في إجبار موسكو على وقف الحرب، على الرغم من أن روسيا تعتبر الدولة الأكثر تعرضًا للعقوبات حول العالم بإجمالي عقوبات يبلغ  6400 عقوبة، وفقًا لقاعدة البيانات العالمية “Castellum.ai” لتتبع العقوبات.

  • جدوى مذكرة اتهام “الجنائية الدولية” ضد بوتين

لخص البيان الصادر عن المحكمة التهمة التي تأسس عليها قرارها بأن “بوتين يُزعم أنه مسؤول عن جريمة حرب تتمثل في الترحيل غير القانوني للسكان (الأطفال) والنقل غير القانوني للسكان (الأطفال) من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي”.

ووضعت المحكمة تكييفًا قانونيًا للاتهام بقولها إن “بوتين يتحمل المسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم المذكورة، لارتكابه الأفعال بشكل مباشر، بالاشتراك مع أو من خلال آخرين، ولفشله في ممارسة سيطرته بشكل صحيح على مرؤوسيه المدنيين والعسكريين الذين ارتكبوا تلك الأفعال، أو سمحوا بارتكابها، والذين كانوا تحت سلطته وسيطرته الفعلية”.

وفور إصدار تلك المذكرة، ظهر معسكران الأول يؤكد أهمية القرار في مساءلة بوتين، والمعسكر الثاني يستبعد تمامًا مثول الرئيس الروسي للمحاكمة، ويؤكد أنها مجرد خطوة رمزية وإن كانت لها دلالات وانعكاسات سياسية.

وفي حين يُلزم قرار المحكمة الجنائية الدولية الدول الأعضاء في المحكمة البالغ عددها 123 باعتقال بوتين ونقله إلى لاهاي لمحاكمته إذا وطئت قدمه أراضيها، فإنه نادرًا ما تقوم الدول الأعضاء بتنفيذ مذكرات التوقيف، خصوصا عندما يتعلق الأمر برئيس دولة، وهو ما سبق وحدث مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي تمكن من زيارة عدد من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بما فيها جنوب إفريقيا والأردن رغم أن المحكمة كانت قد أصدرت مذكرة توقيف ضده.

وقد أراد بوتين الرد عمليًا على محاولة فرض تلك العزلة بتحرك يعكس إصراره على مواصلة نهجه الراهن، حيث قام بجولات شملت شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها عام 2014، كما زار مدينة ماريوبول الأوكرانية التي سيطرت عليها القوات الروسية في مايو من العام الماضي.

  • عدالة العالم بين حربي العراق وأوكرانيا

من المفارقات الخاصة بتوقيت صدور مذكرة الاعتقال ضد بوتين أنها جاءت قبل أيام قليلة من حلول الذكرى العشرين للغزو الأنجلو – أمريكي للعراق عام 2003، وهو ما جعلها بمثابة مرآة كاشفة لعدالة العالم بين حربين هما الحرب على العراق في 2003 والحرب على أوكرانيا في 2022.

إن العالم الغربي الذي بارك وشارك ودعم غزو العراق في 20 مارس 2003 تحت عنوان براق أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن حين أطلق على ذلك العدوان اسم “عملية حرية العراق”، هو نفسه الذي رفض توصيف موسكو لحربها في أوكرانيا بأنها “عملية عسكرية خاصة”، واعتبر ما يحدث غزوًا عسكريًا، منددًا بانتهاك سيادة دولة مستقلة وارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان، ما يعكس نظرة قائمة على التمييز وازدواجية المعايير في التناول الغربي لمفاهيم أساسية في القانون الدولي مثل السيادة والقانون الدولي الإنساني كجرائم الحرب.

لو أن المحكمة الجنائية الدولية “غير مُسيّسة” حقًا فلتصدر مذكرة اعتقال ضد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، من أجل تحقيق العدالة والقصاص للضحايا الأبرياء، فجرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، وكذبة حيازة أسلحة الدمار الشامل التي قام عليها الغزو فجر يوم 20 مارس عام 2003 لا تحتاج إلى إثبات، ووزير الخارجية الأمريكي الراحل كولن باول الذي دافع باستماتة في جلسة مجلس الأمن الشهيرة في 5 فبراير 2003 عن تقرير بلاده حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، وصف لاحقًا  تلك الحرب بأنها “وصمة عار” في مسيرته السياسية.

كما أقر بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الغزو بأن مجمع الاستخبارات الأمريكية أخطأ بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، لكن واقع الأمر يشير إلى أن سيناريو الغزو كان معدًا سلفًا وورقة أسلحة الدمار الشامل ما كانت سوى مطية لتنفيذ المخطط.

وهو ما أكدته شهادة لويس رويدا، رئيس مجموعة عمليات العراق التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي.آي.إيه”، مؤخرًا بأن قضية أسلحة الدمار الشامل كانت مسألة ثانوية بالنسبة لواشنطن في حملتها للإطاحة بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين، قائلا: “كنا سنغزو العراق حتى لو كان لدى صدام شريط مطاطي ومشبك ورق، كنا سنقول سيستخدمها لفقء أعيننا”!.

لقد خلف غزو العراق آلاف القتلى من المدنيين وشرد الملايين وكبد البلاد خسائر تقدر بتريليونات الدولارات، وجميعها جرائم مادية تستوجب المساءلة وإنزال العقوبة والتعويض، هذا قطعًا بخلاف جرائم سياسية ارتكبها الاحتلال الأمريكي بتكريسه للطائفية المقيتة التي جعلت من العراق ساحة لحروب بالوكالة ومرتعًا للتنظيمات الإرهابية لدرجة إعلان تنظيم “داعش” إقامة دولة الخلافة المزعومة على أراضيه خلال الفترة ما بين عامي 2014 و 2017.

  • المحكمة الجنائية الدولية والولايات المتحدة

لقد أبرزت مذكرة المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي، التناقض الأمريكي في التعامل مع الآليات الدولية المعنية بتحقيق العدالة، فبينما خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن ليعلن دعمه للمذكرة، معتبرًا أن قرار المحكمة له ما يبرره، فإن واشنطن التي تعتبر نفسها حاملة لواء الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، لم تصدق حتى الآن على نظام روما الأساسي الذي بموجبه تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، خشية أن يتعرض جنودها لمحاكمات على ما ارتكبوه من فظائع وانتهاكات في كل من العراق وأفغانستان.

كما اتسمت علاقة الولايات المتحدة مع نشاط المحكمة بالاضطراب والتناقض، ففي حين دعمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة لوائح اتهام بارتكاب جرائم الحرب ضد دول وأشخاص بهدف تعزيز مصالحها، أبدت تحفظات تجاه تحقيقات المحكمة في حالات أخرى، فعلى سبيل المثال تحفظت على تحقيقات أولية أجرتها المحكمة في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، بعدما قدمت السلطة الفلسطينية للمحكمة أدلة على جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يظهر مدى التسييس وازدواجية المعايير التي تعاني منها الهيئات المنوط بها تحقيق العدالة الدولية، واستخدامها كأداة ضغط في يد القوى الغربية، فما حدث يمثل سابقة تاريخية، حيث لأول مرة توجه تلك الاتهامات لزعيم دولة تعد أحد الأقطاب الرئيسية في النظام العالمي.

وإن كانت حسابات القوة الشاملة لروسيا تجعل من تنفيذ تلك المذكرة أمرًا مستحيلًا، لكن المؤكد أن الصراع الدائر حاليًا بين موسكو من جهة والولايات المتحدة والدول الغربية من جهة أخرى، ستنعكس آثاره على الهياكل المؤسسية للنظام الدولي، وقد يُنذر استمرار التصعيد بين الجانبين بانهيار تلك الهياكل مما يلقي بالعالم في أتون فوضى دولية.

زر الذهاب إلى الأعلى