تقارير

هل تنحسر الحروب في 2023؟

شهدت الساحة الدولية تحولات كبرى فيما يتعلق بالتهديدات الأمنية خلال السنوات الثلاث الماضية، مع بروز أنماط جديدة من التحديات غير التقليدية والتي تمثلت في الأزمات الصحية كجائحة فيروس كورونا المستجد، والمخاطر المتزايدة الناجمة عن التغير المناخي، بعد عقود طويلة لم يكن العالم يشهد فيها سوى المخاطر الأمنية التقليدية كالحروب والإرهاب، غير أن العام الماضي 2022 كان شاهدا على حجم المخاطر التي تجابه الأمن العالمي وتعقيداتها في ظل مشهد يجمع بين التهديدات التقليدية والناشئة تمثل في الحرب الروسية الأوكرانية التي تعكس مخاطر تقليدية، وأعادت إلى الواجهة مجدداً سيناريوهات الصدام النووي، وكذلك ما أدت إليه من أزمة غذاء عالمية، وتبرز حاليًا على خارطة العالم بؤرتان ساخنتان – أوكرانيا وتايوان- كساحتين للصدام بين قوى عظمى تملك أسلحة نووية، الأمر الذي نسعى لاستشراف آفاقه المحتملة خلال العام الحالي.

  • الدعم الغربي الحذر لأوكرانيا

منذ دخول فصل الشتاء سادت حالة من الهدوء النسبي على جبهات القتال في أوكرانيا بفعل الأجواء الباردة وتساقط الثلوج التي هدأت من شراسة المعارك، فيما انخرط طرفا الصراع بحسب تقارير غربية في الإعداد لما يعرف إعلاميًا بــ”هجوم الربيع”، لذا كثفت كييف من اتصالاتها ومساعيها للحصول على مزيد من المساعدات العسكرية ولا سيما الدبابات المقاتلة والتي شكلت اختبارا قاسيا لوحدة موقف الدول الأعضاء في حلف “الناتو” عكسها التردد الألماني في خطوة تزويد أوكرانيا بدبابات “ليوبارد 2” والضغط البولندي لإتمام العملية، وهو ما تحقق في النهاية وأعقبه إعلان أمريكي عن تسليح كييف بدبابات من طراز أبرامز.

ورغم توالي الإعلانات الغربية عن إمداد كييف بالدبابات القتالية الحديثة والتي تراوحت ما بين “ليوبارد 2″ الألمانية و”تشالنجر 2” البريطانية وأبرامز الأمريكية، وإسهام العديد من الدول الأوروبية في عملية تزويد كييف بدبابات “ليوبارد” تحديدًا، فإن هناك حرصا واضحا من جانب الحلفاء في الناتو على وضع خطوط حمراء وقيود لهذا الدعم حتى لا ينزلق الحلف في آتون صدام مباشر مع روسيا، وهو ما يظهر في مؤشرات عدة أبرزها إعلان المستشار الألماني أولاف شولتز تمسك برلين بموقفها الرافض تمامًا لإرسال مقاتلات لكييف قائلا إنه “أمر لم يتغير شيء فيه، ولن يتغير أيضًا”، كما صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن الولايات المتحدة لن تقدم مقاتلات “إف-16” لأوكرانيا، كما أفادت تقارير إعلامية بتجديد واشنطن رفضها طلبات كييف للحصول على نظام الصواريخ التكتيكية “إيه تي إيه سي إم إس”، الذي تصنعه شركة “لوكهيد مارتن” الأمريكية، والذي يبلغ مداه 297 كلم.

في المقابل، صدرت تصريحات من مستويات دبلوماسية وعسكرية روسية تحذر من مخاطر تزويد الجانب الأوكراني بالسلاح لا سيما الدبابات، حيث اعتبرت موسكو أن ذلك تصعيد واضح وانخراط مباشر من الغرب في الصراع، لكنها اكتفت بتعهدات بتدمير تلك الأسلحة مع التأكيد بأن الدعم العسكري الغربي لن يغير شيئا في ساحة المعركة.

وفي ضوء تلك المؤشرات يبدو أن توسيع الحرب لتشمل حلف “الناتو” لا يزال أمرًا غير مرجح ولكنه ممكن، وفي الوقت ذاته لا يزال استخدام روسيا للأسلحة النووية غير وارد ولكنه ليس مستحيلًا، ويؤكد ذلك تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيدف التي قال فيها إن “هزيمة قوة نووية في حرب تقليدية قد تشعل حربا نووية”.

  • حرب بلا دخان في تايوان

ومن أوروبا إلى أقصى الشرق حيث الحرب الدائرة بلا دخان في المحيط الهادئ حول تايوان،  والتي يرى العديد من المراقبين أنها ستكون ساحة الحرب القادمة التي تخوض فيها قوى دولية كبرى القتال، بل إن تلك الرؤية تدعمها تقديرات عسكرية، إذ حذر الجنرال  بسلاح الجو الأمريكي مايكل مينيهان في مذكرة داخلية من مخاطر عالية لنشوب حرب مع الصين بعد عامين بسبب تايوان، معتبرا أن الظروف تقود إلى تلك المعركة المرتقبة في عام 2025، قائلا إن الانتخابات التايوانية في 2024 ستمنح الرئيس الصيني شي جين بينغ  “سبباً” لتلك الخطوة التي تتزامن مع سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ذات العام والذي يجعل الولايات المتحدة مشتتة ما يحفزه على اغتنام تلك الفرصة.

ولا يغيب الحديث حول تلك الحرب المحتملة عن الدوائر السياسية والبحثية الأمريكية، إذ حذر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هربرت ماكماستر في لقاء مؤخرا عبر قناة “سي بي إس نيوز” من أن الزعيم الصيني يعد شعبه للحرب، وسيقوم بضم تايوان إلى الصين. كما عقد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (مركز بحثي مستقل مقره واشنطن) محاكاة لنزاع أمريكي صيني بسبب تايوان خلص إلى أنها قد تترك الجيش الأمريكي “المنتصر” في حالة شلل مثل القوات الصينية التي سيهزمها.

وعلى المستوى العملياتي، ثمة مؤشرات على تأهب لمثل هذا السيناريو أحدثها افتتاح سلاح مشاة البحرية الأمريكية “المارينز” أول قاعدة جديدة له منذ 71 عاما، في أقصى غرب جزيرة جوام في المحيط الهادئ، وذلك ضمن جهود وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” لتنفيذ رؤية استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2022 التي من بين أولوياتها مواكبة التهديد المتنامي متعدد المجالات الذي تشكله الصين.

ووفقا لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، ستكون تلك القاعدة نقطة الانطلاق الأولى للقوات البرية الأمريكية في حال “نشوب نزاع مع بكين”، مشيرة إلى أن قوات “المارينز” ستكون ضمن أولى القوات البرية التي ستتدخل إذا بدأ القتال ضد الصين.

بالإضافة إلى ذلك منحت الفلبين الولايات المتحدة حق استخدام مزيد من قواعدها العسكرية وسط مخاوف متصاعدة من أنشطة الصين المتزايدة في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه والتوترات حول تايوان، وجاءت الخطوة في إطار اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز لعام 2014.

وفي الوقت الذي يرى فيه مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (مركز بحثي بواشنطن) أن تصعيد الضغط الذي تمارسه الصين على تايبيه، بما في ذلك النشاط العسكري المتزايد حول الجزيرة واختراق أجوائها يخاطر باندلاع أزمة شديدة عبر مضيق تايوان تشمل الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة، إلا أن الأجواء الدولية الراهنة لا توحي بإمكانية تعجيل سيناريو الحرب الفعلية، فواشنطن وبكين تخوضان منذ سنوات وحتى الآن صراعا اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا تجلت في حرب الرسوم الجمركية ثم تكثيف الولايات المتحدة مساعيها لإعاقة تقدم الصين في صناعة الرقائق الإلكترونية التي تعتبر مكونًا رئيسيًا في صناعة الإلكترونيات بدءا من الهواتف الذكية وصولا إلى الأسلحة والمعدات العسكرية، وذلك عبر فرض قيود على تصدير الرقائق التي يتم إنتاجها باستخدام معدات أو برامج كمبيوتر أمريكية إلى الصين، بغض النظر عن مكان صنعها في العالم.

وختاما، يمكن القول بأنه مع اندلاع معارك كبرى على الأراضي الأوروبية في عام 2022 لأول مرة منذ زمن الحربين العالميتين وبعد سنوات من الاحتقان والتوتر المتزايد بين روسيا وحلف “الناتو”، لم يعد من المستبعد أن تفضي التوترات المستمرة عبر عقود في بؤر ساخنة أخرى من العالم إلى اندلاع حروب تتفاوت درجة حدتها ونطاق تداعياتها، فعلى سبيل المثال لا يزال احتمال نشوب صراع في شبه الجزيرة الكورية قائما رغم أنها تشهد هدنة منذ عام 1953 تجعلها الأطول في التاريخ، وفي منطقة الشرق الأوسط تبدو فرص وقوع صدام عسكري بين إيران وإسرائيل مرتفعة.

وأخيرًا إن الإجابة عن التساؤل المتعلق بإمكانية انحسار الحروب خلال هذا العام تكمن في مدى إفساح المجال أمام التسويات السياسية والمفاوضات لحلحلة الأزمات والتزام الدول باللجوء إلى الطرق السلمية لتسوية المنازعات المنصوص عليها في أحكام القانون الدولي من وساطة وتوفيق وتحكيم وتسوية قضائية، أو اللجوء إلى المنظمات الإقليمية والدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى