أظهرت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 23 فبراير الماضي، القوة الجيوسياسية الهائلة التي يمكن أن تمنحها السيطرة على نظام العملة العالمي، كما أوضحت في الوقت ذاته أيضًا الدافع وراء سعي العديد من حكومات الدول الخاضعة للعقوبات إلى بذل كل ما في وسعها لفك الارتباط بالدولار، وإنشاء نظام عملة عالمي بديل، وهو ما يطرح تساؤلات واسعة حول ما إذا كانت دول مثل الصين يمكنها إنشاء بديل موثوق به للدولار أم لا.
- الدولار في النظام الاقتصادي العالمي
لعب الدولار الأمريكي منذ فترة طويلة دورًا كبيرًا في الأسواق العالمية، ويواصل القيام بذلك حتى في الوقت الذي تقلص فيه إسهام الاقتصاد الأمريكي في الناتج العالمي على مدى العقدين الماضيين.
ويعتبر الدولار بحكم الأمر الواقع “العملة العالمية”، حيث يستخدم في غالبية المعاملات الدولية حتى لو لم تكن الولايات المتحدة أحد الأطراف المتعاملة، كما تستخدم معظم أسواق السلع (مثل النفط الخام والذهب) الدولار، ويُستخدم أيضًا على نطاق واسع في الاستثمارات عبر الحدود، إضافة إلى أن ما يقرب من 58% من جميع القروض الدولية تتم باستخدام العملة الأمريكية.
ومن بين أسباب اعتباره عملة عالمية أيضًا أن الولايات المتحدة موطن لأسواق مالية متطورة ومؤسسات قانونية وسياسية قوية، لذلك فهو عملة مستقرة نسبيًا، فلا تخشى الأطراف المتعاملة تقلبات قيمة مدفوعاتها بشكل كبير، فضلاً عن أن حاملي السندات الحكومية الأمريكية لا يشعرون بالقلق بشأن تخلف واشنطن عن سداد فوائد السندات.
- تراجع نسبي لهيمنة الدولار
شهدت السنوات القليلة الماضية مؤشرات لتراجع نسبي محدود في هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، حيث انخفضت حصته في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية إلى أقل من 59 % في الربع الأخير من عام 2021، وفقًا لبيانات العملات الرسمية لاحتياطيات النقد الأجنبي الصادرة عن صندوق النقد الدولي، بعدما كانت حصة الدولار من العملة الاحتياطية العالمية في مطلع القرن الحالي تبلغ 72%.
ووفقًا لبيانات النظام المالي العالمي للمدفوعات المعروف بـ”نظام سويفت”، انخفضت حصة المدفوعات بالدولار الأمريكي إلى 38.85% في عام 2022.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تقلص دور الدولار الأمريكي، لم تقابله زيادات في حصة العملات الاحتياطية التقليدية الأخرى مثل اليورو والين والجنيه الإسترليني، ففي حين كانت هناك بعض الزيادة في حصة الاحتياطيات المحتفظ بها باليوان، فإن هذا لا يمثل سوى ربع التحول بعيدًا عن الدولار في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى احتفاظ دولة واحدة – روسيا – بما يقرب من ثلث الاحتياطيات باليوان في العالم.
وعلى النقيض من ذلك، فإن عملات الاقتصادات الأصغر التي لم تظهر تقليديًا بشكل بارز في المحافظ الاحتياطية، مثل الدولار الأسترالي والكندي والكرونا السويدية والوون الكوري الجنوبي، تمثل ثلاثة أرباع التحول من الدولار.
وبحسب ورقة بحثية صادرة عن صندوق النقد الدولي، ثمة 3 عوامل تساعد في تفسير صعود الاعتماد على هذه المجموعة من العملات، الأول كونها عملات تجمع بين عوائد أعلى وتقلبات أقل نسبيًا، وهو ما يجذب بشكل متزايد مديري احتياطيات البنوك المركزية مع نمو مخزونات النقد الأجنبي.
أما العامل الثاني فيتمثل في التقنيات المالية الجديدة – مثل أنظمة إدارة السيولة الآلية – التي تجعل تداول عملات الاقتصادات الأصغر أرخص وأسهل، فيما يتعلق العامل الثالث ببحث البنوك المركزية عن السندات ذات العوائد المرتفعة، حيث انخفضت العائدات على سندات الخزانة الأمريكية ذات العشر سنوات.
- مستقبل الدولار بين مواصلة الهيمنة والانحسار
يختلف الخبراء حول مستقبل مكانة الدولار في النظام المالي العالمي، فبينما يعتقد كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد أن هيمنة الدولار قد تنتهي في غضون 20 عامًا، معتبرًا أن العقوبات الأمريكية على موسكو بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، واستخدام الدولار كسلاح سيحفز تسريع الحلول البديلة.
كما حذرت المستشارة الاقتصادية ومديرة قسم الأبحاث في صندوق النقد الدولي، جيتا جوبيناث في مارس الماضي من أن العقوبات الغربية على روسيا قد تؤدي إلى تبني العملات المشفرة على الرغم من أنه لا تزال هناك فجوة في تنظيم تلك العملات.
في المقابل، يعتقد تشان كونغ، مؤسس مركز أبحاث “Anbound” (مؤسسة فكرية مستقلة متعددة الجنسيات) أن بدائل الدولار لا يمكن أن تنجح، لأن سوقها ضعيفة، واقتصادها الاجتماعي مضطرب، وبعضها لا يزال في مناطق الحروب. ولهذه الأسباب، سيظل الدولار الأمريكي قوياً بوصفه العملة الدولية الوحيدة المستقرة المتداولة، وفقًا لمجلة “ Diplomat Magazine”.
وهنا يُثار تساؤل، هل تراجع الدولار يعطي دلالة لاهتزاز مكانته على عرش العملات؟ الإجابة ببساطة أنه يظل في وضع تاريخي قوي مقارنة بالعملات العالمية الأخرى، فقد أدى الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى زيادة المخاطر على اليورو، كما أن قرار اليابان بمواصلة سياسة “التحكم في منحنى العائد” جعل الين أقل جاذبية، بينما تلقت الثقة في الجنيه الإسترليني ضربة كبيرة في ظل معدل تغيير الحكومات في بريطانيا، التي شهدت 3 حكومات في أقل من عام.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن فكرة التخلي عن الدولار في التعاملات الدولية تبدو صعبة وبعيدة للغاية، حتى وإن كانت هناك إجراءات اتخذتها بعض الدول للاعتماد على العملات الوطنية في المبادلات التجارية، إلا أنها تظل ذات تأثير محدود جدًا كونها تتم في أطر ثنائية فقط، وترتبط فوائدها بوضع الميزان التجاري بين المتبادلين، فضلًا عن أن عدم استقرار قيمة تلك العملات يحول دون استخدامها مع أطراف ثالثة.
وأخيرًا، إن هيمنة أي عملة على التعاملات الدولية تتطلب توافر عدة شروط أبرزها حجم ضخم من السيولة، واستقرار سعر الصرف مقارنة بالعملات أخرى، والقبول الواسع لها حول العالم، فالأفضلية في التعاملات الدولية تظل لعملات الدول المعروفة بالحوكمة الرشيدة والاستقرار الاقتصادي.