في تقليد سنوي، نشر معهد رويترز لدراسة الصحافة بالتعاون مع جامعة أكسفورد البريطانية تقريرًا حول اتجاهات الصحافة والإعلام والتكنولوجيا في عام 2023، مستندا إلى استطلاع رأي شمل 303 من الناشرين والأكاديميين وخبراء الصناعة من 53 دولة وإقليمًا حول العالم خلال الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر 2022.
وتوزعت عينة الاستطلاع كالتالي: 53% يمثلون مؤسسات صاحبة إصدارات مطبوعة، و24% يعملون في وسائل إعلام رقمية، و20% يمثلون إذاعات عامة وتجارية، و3% يعملون بوكالات الأنباء. وجاءت نتائج هذا الاستطلاع على النحو التالي:
- التضخم وعدم اليقين يهددان آفاق الصحافة
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، توقع قلة الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو الحدث الذي تسبب في أزمة طاقة وتضخم متصاعد في العديد من البلدان، وجعل تمويل الصحافة يواجه صعوبات أكثر في ظل تراجع المعلنين نتيجة تقليل الأسر للإنفاق، في وقت يواجه فيه الناشرون ارتفاعًا في تكاليف الإنتاج، فالإصدارات الورقية تأثرت بتضاعف تكلفة إنتاج الورق.
ووفقا لنتائج الاستطلاع، أعرب 44% من العينة عن ثقتهم في آفاق أعمالهم في عام 2023، بينما قال ما يقرب من 37% إنهم غير واثقين، فيما أبدى 19% ثقة ضعيفة.
واستعرض التقرير المشهد الإعلامي في الولايات المتحدة الذي وصفه بأنه صورة لما يحدث في العديد من البلدان حول العالم، مشيرًا إلى تخطيط شركة “Gannett”، وهي شركة قابضة لوسائل الإعلام الأمريكية، لتخفيض جديد بأعداد العاملين بقسم الأخبار بنسبة 6% ما يعني تسريح حوالي 200 موظف، كما أوقفت مؤسسة واشنطن بوست إصدار مجلة “واشنطن بوست صنداي” لتنهي مسيرة 60 عامًا لتلك المجلة، فيما تعتزم شبكة “سي.إن.إن” الإخبارية الأمريكية تسريح مئات العاملين، وتستعد الإذاعة الأمريكية العامة “إن.بي.آر” أيضًا لتخفيض كبير في حجم العمالة.
- الاشتراكات الرقمية تعطي بعض الأمل
وفقًا للتقرير، فمع تعرض عائدات الإعلانات للضغوط، يعلق الناشرون آمالهم على النمو المستمر في الاشتراكات الرقمية والتبرعات. ويقول إدوارد روسيل، رئيس القسم الرقمي في صحيفة “The Times of London” إن الصحيفة أضافت 70 ألف مشترك في عام 2022″، كما أبلغ ناشرون آخرون عن مكاسب قوية، حيث ارتفعت إيرادات الاشتراكات في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بأكثر من 10% لتتجه نحو هدف الـ 15 مليون مشترك بحلول عام 2027، وفي هذا الإطار يتوقع 68% من المشاركين في الاستطلاع بعض الزيادة في دخل المحتوى المدفوع خلال عام 2023.
- تراجع استخدام الإنترنت وتحدي تجنب الأخبار
بدأنا نشهد انخفاضًا في مقدار الوقت الذي يقضيه الأفراد على الإنترنت، فوفقًا لبيانات وكالة الأبحاث GWI”” انخفض الوقت الإجمالي على الإنترنت بنسبة 13%، بعد الاستخدام القياسي المرتفع خلال الإغلاق في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، ما يشير إلى أن استخدام الإنترنت بلغ ذروته.
ولكن فيما يتعلق بالأخبار عبر الإنترنت، من الصعب تمييز تصور واضح، فحوالي 42% من الناشرين يقولون إن حركة المرور على أساس سنوي إلى مواقعهم الإلكترونية قد ارتفعت، في حين أفاد 58% بأن حركة المرور كانت ثابتة أو متراجعة، على الرغم من سلسلة الأخبار المهمة بدءا من غزو أوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الطاقة وتغير المناخ ووفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية.
وحول أسباب المشاركة الثابتة أو المتراجعة، تشعر الغالبية العظمى من الناشرين 72% بالقلق إزاء تجنب المزيد من المستخدمين للأخبار، حيث تُظهر بيانات تقرير الأخبار الرقمية لعام 2022 أن هذا التجنب الانتقائي، الذي غالبًا ما يتضمن قصصًا سياسية مهمة، قد تضاعف في بعض البلدان منذ عام 2017، لأن الكثير من الأشخاص يشعرون أن التغطية الإعلامية سلبية للغاية ويصعب الوثوق بها.
- تغيير في تغطية وسائل الإعلام لحالة الطوارئ المناخية
شهد العام الماضي موجة أخرى من الأحداث المناخية القاسية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك موجات الحر الشديدة في الصين، والمجاعات في الصومال وإثيوبيا، وحرائق الغابات في كاليفورنيا، والجفاف في جميع أنحاء أوروبا، ناهيك عن الفيضانات الكارثية في باكستان.
ويتم انتقاد وسائل الإعلام بشكل روتيني لتغطيتها هذه القصص دون رؤية أوسع أو متابعة العواقب الدائمة، كما يجادل آخرون بأن وسائل الإعلام تعاملت في كثير من الأحيان مع المناخ كموضوع منفصل، وليس كجزء لا يتجزأ من عملية صنع القرار السياسي والاقتصادي الأوسع.
وبحسب تقرير معهد رويترز وجامعة أكسفورد، هناك تحركات على قدم وساق لتغيير هذا الوضع من خلال فرق متخصصة محسّنة واستراتيجيات جديدة للصحافة المستدامة، فوفقًا لنتائج الاستطلاع صنف 63% من مديري الأخبار الآن تغطيتهم الخاصة بالمناخ على أنها جيدة، حتى لو اعترف الكثيرون أيضًا بأن إشراك الجماهير في النظرة المحبطة للكوكب في كثير من الأحيان يمكن أن يكون صعبًا.
- معاناة المنصات التقنية من المنافسة الجديدة
عانت شركات التكنولوجيا الكبرى من سلسلة من الانتكاسات المرتبطة بتباطؤ الإعلانات الرقمية، وتغييرات الخصوصية على نظام “Ios” الأساسي لأجهزة آبل، وتراجع اهتمام المستهلكين بالعديد من منتجاتها.
وبالنسبة للمستخدمين الأصغر سنًا على وجه الخصوص، يوجد دليل واضح على أن شبكات التواصل الاجتماعي من الجيل الأول مثل “فيسبوك وتويتر” تفقد جاذبيتها لصالح التطبيقات المليئة بالمرح مثل “تيك توك”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصعود الدراماتيكي لمنصة “تيك توك”، المملوكة لشركة “بايت دانس” الصينية العملاقة للإعلام والتي لديها حوالي مليار مستخدم منتظم، ليست فقط مصدر قلق وجودي لفيسبوك، الذي شهد تقلصًا في قاعدة مستخدميه وعمرهم بخمس سنوات، إذ تخشى شركة أمازون من إمكانات “تيك توك” كمنصة للتسوق والدفع.
كما توقعت إحدى المجموعات البحثية أن يفقد تويتر أكثر من 30 مليون مستخدم في السنوات القليلة المقبلة إذا ساءت التجربة على المنصة. ومن المتوقع أن يعطي الناشرون الأولوية لمنصات الفيديو مثل “تيك توك” و”يوتيوب” هذا العام وسط أدلة على أن هذه طرق جيدة لإشراك المستخدمين الأصغر سنًا.
وأظهر تقرير حديث صادر عن معهد رويترز أن حوالي 49% من كبار الناشرين في عشرات البلدان ينشطون الآن على “تيك توك”، على الرغم من المخاوف بشأن الملكية الصينية وأمن بيانات المستخدم.
- استمرار التحول إلى الصوت والفيديو
كان أحد الاتجاهات الرئيسية الأساسية في المجال الرقمي هو انفجار التنسيقات والقنوات التي يمكن للناشرين استخدامها للوصول إلى المستهلكين. وقد أدى استخدام الهواتف الذكية إلى تسريع استخدام الصحافة المرئية والفيديو الرأسي والبودكاست. ووفقا لنتائج الاستطلاع سيركز الناشرون بنسبة 72% على البودكاست وأشكال الصوت الرقمي الأخرى هذا العام.
وتجدر الإشارة إلى أن زيادة الاهتمام بإنتاج الفيديو القصير جاءت استجابة للتغيرات في استراتيجيات منصات التواصل الاجتماعي، وعلى النقيض من ذلك هناك اهتمام أقل بتطوير التطبيقات للميتافيرس أو المساعدين الصوتيين.
- توقعات باختراق الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته مجال الصحافة
لقد تعرضت روبوتات الدردشة للذكاء الاصطناعي للسخرية على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، لكن ظهور الروبوت “ChatGPT” الذي قدمته منظمة “OpenAI” غير الربحية لأبحاث الذكاء الاصطناعي، قد غير مسار ذلك الجدل، نظرا لسرعته وقدراته المذهلة والمخيفة في نفس الوقت. فهذا الروبوت يمكنه أن يروي النكات، ويكتب أكواد الكمبيوتر، وحتى تلخيص التحديات التي تواجه الصحافة المحلية في بضع عبارات.
ورغم أن الآثار المترتبة على الصحافة ليست واضحة تمامًا، إلا أن شركة سيمافور الأمريكية الناشئة التي تم إطلاقها مؤخرًا، أنشأت العديد من مقاطع الفيديو ضمن سلسلة “شاهد” لتوضيح الشهادات الشخصية من الحرب في أوكرانيا بواسطة الرسوم المتحركة للذكاء الاصطناعي في غياب لقطات حقيقية. ولكن من المهم الحذر من استخدام نماذج التعلم العميق لأغراض دعائية، لا سيما “التزييف العميق”، وهو ما حدث في مقطع زائف للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يطلب فيه من الأوكرانيين إلقاء أسلحتهم بعد فترة وجيزة من الغزو الروسي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن المزاج السائد في صناعة الأخبار هو حالة من عدم اليقين وبعض القلق بشأن ما قد يخبئه العام الحالي، فالمؤشرات الاقتصادية لا تبدو جيدة. كما تنتشر مشكلات مثل تجنب الأخبار في نفس الوقت الذي يبدو فيه أن بعض المنصات الاجتماعية تنهار أو تبتعد عن الأخبار، والمنصات الناشئة غير مهتمة بها إلى حد كبير مما يزيد من صعوبة جذب عملاء جدد.
وأخيرًا، تظل الشركات التي أكملت بالفعل تحولها الرقمي ولديها اشتراكات قوية أو إيرادات متنوعة في أفضل وضع للتغلب على تلك العاصفة، بينما تلك التي تعتمد بشكل مفرط على الطباعة أو الإعلان ستواجه صعوبة أكبر هذا العام وخلال السنوات القليلة المقبلة.