مع احتدام الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا، تصاعدت مخاوف من حرب إلكترونية غير مسبوقة، إذ راقب الخبراء في كلا البلدين وفي الدول الغربية الوضع عن كثب؛ خوفًا من أن تؤدي تلك الأزمة إلى صراع ضخم على الإنترنت، وهو الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى التحذير بشكل استباقي من أن الولايات المتحدة “مستعدة للرد” على أي هجمات على البنية التحتية الحيوية.
وكان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ليون بانيتا أول من حذر في عام 2012- أي قبل 10 أعوام- من أن الولايات المتحدة قد تواجه تهديد “بيرل هاربور سيبراني”، يُعطّل البنية التحتية الحيوية، ويُغرق الجيوش والمجتمعات الحديثة في الظلام.
وقد أذكى تاريخ طويل من الهجمات الدولية التي اتُّهِمت فيها روسيا المخاوف من الحرب الإلكترونية، مثل الهجوم واسع النطاق على شبكة الكهرباء في أوكرانيا في عام 2015 في أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم، ثم بعد عامين وقعت سلسلة هجمات إلكترونية قوية باستخدام البرمجيات الخبيثة “NotPetya”– التي تعمل على مسح البيانات- ضد بنوك ووزارات وصحف وشركات كهرباء أوكرانية، وفقًا لصحيفة “ذا غارديان” البريطانية.
كما تم ربط القراصنة الروس غير المرتبطين بالدولة بالعديد من هجمات القرصنة في السنوات الماضية، بما في ذلك القرصنة ببرامج الفدية لخط أنابيب كولونيال في الولايات المتحدة العام الماضي.
- أسباب وراء عدم اندلاع حرب سيبرانية شاملة
ووفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإنه وباستثناء حالتين قابلتين للاحتواء من البرامج الضارة المدمرة التي استهدفت الوزارات الأوكرانية في الأسابيع التي سبقت الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الهجوم السيبراني المتوقع بشدة، والذي من شأنه أن يشلّ القيادة والسيطرة ويغلق أنظمة الكهرباء والمياه، لم يحدث، مرجعًا ذلك إلى عدة أسباب من أهمها الجاهزية السيبرانية لكييف، إذ كانت أوكرانيا قبل اندلاع الحرب واحدة من أفضل الدول في العالم استعدادًا من حيث الدفاع السيبراني. فبعدما نجت كييف في السنوات الأربع الماضية من هجومين على بنيتها التحتية الحيوية، بالإضافة إلى موجة من البرامج الضارة المدمرة بما في ذلك NotPetya، التي أغلقت حسابات الآلاف من العملاء التجاريين للشركة الأوكرانية التي تم استخدام برامجها كناقل للهجوم، قامت الدولة الأوكرانية بتعزيز الدفاعات الإلكترونية من خلال المساعدة الأجنبية التي تراوحت بين المشورة والاستثمار، وتعزيز صناعة الأمن السيبراني، وتحسين المرونة الوطنية في مواجهة الهجمات الإلكترونية.
بالإضافة إلى ذلك توجد حالة يمكن وصفها بـ”الردع المتوازن” الناجم عن الحشد والحشد المضاد بين قراصنة الإنترنت على طرفي الصراع، فبينما أطلقت أوكرانيا نداء للمتطوعين للعمل كجيش إلكتروني بهدف تخريب البنية التحتية الإلكترونية لروسيا، وأعلنت مجموعة القرصنة الغامضة المعروفة باسم” أنونيموس-Anonymous” عن حرب إلكترونية ضد روسيا، مُهدِّدة بإسقاط بنيتها التحتية المصرفية بالكامل، قام قراصنة “Killnet” بتهديد أي شخص يُهاجم أو يسعى إلى تعطيل أنظمة تكنولوجيا المعلومات الروسية، معلنين أنهم قاموا بتعطيل موقع “أنونيموس -Anonymous”.
وفي ذات السياق، يوجد ثمة تفهم متبادل لخطورة التهديد السيبراني على أنظمة الأسلحة النووية، لا سيما وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أمر بوضع القوات النووية الروسية في حالة تأهب قصوى عقب أيام من بدء الحرب ضد أوكرانيا.
جدير بالذكر أنه مع اعتماد الجيوش على التقنيات الرقمية، تزايدت المخاوف بشأن تعرض سلسلة الإطلاق النووي للاضطراب، والتي تشمل احتمال وقوع هجمات إلكترونية متطورة ضد أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات النووية (NC3)، وأجهزة الاستشعار الفضائية والأرضية التي تعتمد عليها أنظمة NC3 للكشف عن إطلاق الأسلحة النووية.
ومما يثير القلق أيضًا أن أنظمة الدعم لا تُعد ولا تحصى، بما في ذلك الناقلات والطائرات والقاذفات الأرضية والأنظمة البحرية، والتي تعتمد جميعها – بدرجة أو أخرى- على تقنيات سيبرانية يحتمل أن تكون مُعرّضة للخطر.
- سيناريو الحرب الإلكترونية الهجينة
في حين أن الحرب الإلكترونية التي كانت متوقعة الحدوث في أوكرانيا لم تتحقق – حتى الآن- فإن هذا لا يعني أن كل شيء هادئ على الجبهة الإلكترونية، فالعقوبات الاستثنائية التي فرضها حلف شمال الأطلسي “الناتو” والعديد من دول العالم على روسيا لها آثار كبيرة على البرامج والشبكات والأجهزة، كما تُجسد نموذجًا للحرب الإلكترونية الهجينة التي تشنها جهات فاعلة غير حكومية – كالشركات-، فعلى سبيل المثال تعليق شركات مثل Oracle وSAP التي تستخدم برامجها على نطاق واسع من قبل البنوك الروسية، ومشغلي الاتصالات والمؤسسات الحكومية- عملياتها في روسيا يزيد من احتمالية إلغاء تراخيص تفعيل تلك البرامج، وبالتالي ستصبح معظم قواعد البيانات غير قابلة للتشغيل. وقد قام برنامج Autodesk، شائع الاستخدام في التصميم والتصنيع بمساعدة الكمبيوتر، وشركة Microsoft أيضًا بسحب تراخيص إصداراتهما في روسيا.
وعلى الأرجح ستؤدي تداعيات تلك الخطوات إلى حرمان الجيش والاقتصاد الروسيين من الأدوات الرقمية اللازمة لتسيير أعمالهما، ولبناء أو استخدام الأسلحة والعتاد مما يعيق مساعي موسكو لتحقيق أهدافها في أوكرانيا.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الوضع على جبهة الحرب السيبرانية يبقى هادئًا نسبيًّا، نظرًا لجملة من الأسباب من أبرزها تفهم طرفي الصراع أن الهجمات الإلكترونية ستؤدي على الأرجح لنتائج كارثية متبادلة، فضلًا عن الاستثمار خلال الفترات الماضية في تعزيز الدفاعات الإلكترونية لدرء الهجمات مع الأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من هجمات الماضي القريب التي دفعت الحكومات والشركات الغربية على زيادة استثمارها في قطاع الأمن السيبراني.
ويبقى القول بأن الأزمة الأوكرانية الراهنة شكّلت مرآة كاشفة لمستقبل الحروب الإلكترونية من حيث أهمية الاستثمار في الدفاعات السيبرانية كحائط صد رئيسي في مواجهة التهديدات، وكذلك أظهرت القيود التي تحد من لجوء أطراف الصراعات في إشعال جبهة المعارك في الفضاء السيبراني، أو بمعنى آخر الرشادة في استخدام تلك الورقة خلال الصراعات.