تقارير

الأزمة الأوكرانية تفرض الغذاء كتهديد أمني عالمي

في الوقت الذي تسببت فيه الحرب الروسية الأوكرانية في صدمات بسوق الطاقة، وأدت إلى ارتفاع أسعار الأسمدة، إلا أن التداعيات الأكثر خطورة تتمثل في التكلفة المرتفعة للحصول على القمح، والتي قد تدفع بالعالم نحو أزمة أمن غذائي يؤججها النقص الناجم بالفعل عن انتشار وباء كورونا المستجد وتغير المناخ.
ومع وصول أسعار القمح بالفعل إلى المستويات التي كان عليها في ظل أزمة الغذاء العالمية عام 2008 تتسارع التحركات الدولية من أجل احتواء هذه الأزمة، ولعل أبرزها الاجتماع الافتراضي المرتقب لوزراء الزراعة من دول مجموعة السبع لمناقشة تأثير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا على الأمن الغذائي العالمي، وأفضل السبل لتحقيق الاستقرار في أسواق الغذاء، بجانب إطلاق العديد من المنظمات والخبراء الدوليين تحذيرات من الاضطرابات التي تتعرّض لها أسواق الأغذية الدولية نتيجةً للنزاع.
نقص الغذاء تهديد غير تقليدي للأمن العالمي
أبرزت الحرب الروسية الأوكرانية أزمة الغذاء العالمية كأحد التهديدات غير التقليدية للأمن العالمي لأكثر من سبب، في مقدمتها أن أوكرانيا التي تشغل الأراضي الزراعية 70% من مساحتها تنتج حصة كبيرة من القمح المتداول حول العالم، فضلًا عن محاصيل أخرى، مثل الذرة والشعير وزيت دوار الشمس والبطاطس.
وتشهد صادرات المحاصيل الأوكرانية إلى الاتحاد الأوروبي والصين والهند وشمال إفريقيا والشرق الأوسط تراجعًا في الوقت الحالي، إذ شلّت القوات الروسية الموانئ الأوكرانية، والتي يمكن أن تتوقف عن العمل تمامًا قريبًا، فضلًا عن إعلان الحكومة الأوكرانية حظر تصدير الشعير والحنطة السوداء والذرة البيضاء والسكر والملح واللحوم حتى نهاية العام.
وفي ذات الشأن، تؤدي العقوبات الغربية الشديدة إلى تعطيل تدفق صادرات المحاصيل من روسيا، وهي أكبر منتج للقمح في العالم، كما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وقّع مرسومًا يفرض قيودًا على استيراد وتصدير بعض السلع والمواد الخام.
وأدت تعقيدات هذا المشهد إلى تعريض منظمات الأمن الغذائي لضغوط شديدة في التعامل مع انتشار الجوع، إذ توقع مدير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة ديفيد بيزلي، الأسبوع الماضي أن يكون التهديد أكبر في البلدان التي تقترب بالفعل من حافة المجاعة، وكذلك البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الواردات الأوكرانية والروسية.
وتشير كاثرين بيرتيني، خبيرة الأمن الغذائي في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية والمديرة السابقة لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إلى أن “الخطر الذي يواجهه العالم غير مسبوق”.
مستويات التأثير السلبي على الأمن الغذائي
لقد كان للحرب على أوكرانيا ثلاثة مستويات من التأثير السلبي على الأمن الغذائي، أولًا على شعبي أوكرانيا وروسيا اللذين يعانيان من اضطرابات في الإمدادات الغذائية، وثانيًا على البلدان التي تعتمد بشدة على صادرات البلدين من المحاصيل الزراعية، وثالثًا على السكان الأوسع نطاقًا الذين يشعرون بالفعل بصدمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
ووفقًا لوكالة بلومبرغ الأمريكية، يعاني اليوم 283 مليون شخص في جميع أنحاء العالم من انعدام الأمن الغذائي الحاد و45 مليونًا على حافة المجاعة. وبرغم أن الدول المنكوبة بالمجاعة مثل اليمن هي الأكثر معاناة من تضاؤل ​​صادرات المواد الغذائية الأوكرانية، لكن مصر وتركيا وبنجلاديش التي تستورد القمح الأوكراني بمليارات الدولارات أيضا هي أكثر عُرضة للمعاناة.
بالإضافة إلى أن العديد من الدول الأخرى التي تعاني بالفعل من نقص إمدادات الغذاء تعتمد على الصادرات الأوكرانية. فعلى سبيل المثال كينيا تستورد 34% ​​من القمح من روسيا وأوكرانيا، و70% من سكانها يفتقرون إلى المال مقابل الغذاء. كما أن ما لا يقل عن نصف القمح الذي تشتريه الأمم المتحدة للمساعدات الغذائية في جميع أنحاء العالم يأتي من أوكرانيا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لا توجد دولة -بما في ذلك الولايات المتحدة- معزولة عن اضطرابات الغذاء في المستقبل، فبينما تصدر واشنطن منتجات غذائية تبلغ قيمتها حوالي 150 مليار دولار سنويًّا، فإنها تستورد ما يصل قيمته إلى 145 مليار دولار.
وهنا يُثار تساؤل لماذا لا يعتبر الأمن الغذائي موضوعًا رئيسيًّا في المؤتمرات العالمية الكبرى؟ ولعل الواقع يشهد بأن هذا الملف تمت مناقشته بالكاد في العام الماضي خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ولم يكن أولوية في مؤتمر المناخ “26 COP أو مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية. ولذلك يجب على الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية وغيرهما من المجموعات التجارية الدولية إعطاء الأولوية لاستقرار تجارة الأغذية خاصة بالنسبة للبلدان الأشد فقرًا والأكثر ضعفًا من حيث الغذاء.
وحتى إذا تم وقف الحرب الروسية ضد أوكرانيا قريبًا واستمرت صادرات الأغذية في التدفق، فإن تأثيرات المناخ على إنتاج الغذاء واضطرابات سلسلة التوريد ستزداد حدة. فوفقًا لتقرير الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ الذي صدر الأسبوع الماضي فإن ظروف النمو الأكثر سخونة وجفافًا وتقلبًا تعيق بالفعل النظم الغذائية على مستوى العالم.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن الحرب الروسية الأوكرانية أبرزت أهمية وضرورة بناء استراتيجية زراعية طويلة الأجل في خطط الأمن القومي. وهذا يعني البدء الآن في الاستثمار في ممارسات زراعية أكثر استدامة، ومحاصيل مقاومة لتغير المناخ، فضلاً عن الاعتماد على سلاسل التوريد الرشيقة التي يمكن أن تعمل حتى في أوقات الاضطرابات، وكذلك وجوب أن يصبح الأمن الغذائي محورًا رئيسيًّا لاتفاقيات التجارة الدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى