أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، مع إصدار أوامره للقوات الروسية بالتحرك نحو دونيتسك في إطار مهمة لـ”حفظ السلام”، وسط تصاعد وتيرة القصف المتبادل عبر خط التماس الفاصل بين انفصالي إقليم دونباس المدعومين من موسكو والجيش الأوكراني المدعوم من الغرب، مخاوف من أن شبح الحرب الشاملة يلوح في الأفق، فمساحة الأمل تتضاءل والنافذة تضيق أمام التوصل للتسوية الدبلوماسية، الأمر الذي يستند لمؤشرات عديدة أبرزها اتهام مسؤولين غربيين وتقديرات دوائر استخباراتية غربية روسيا بالسعي لاختلاق ذريعة من أجل غزو أوكرانيا، بل إن البعض رأى في خطوة الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين إعلانًا فعليًّا عن بدء الغزو.
ومما لا شك فيه، سيكون لبلوغ الأزمة مرحلة الصدام العسكري الشامل تداعيات كبرى لن تقتصر فقط على الساحة الأوروبية، فهي أزمة فارقة تعيد تشكيل النظام الدولي، وستكون لها ارتدادات على مناطق أخرى في مقدمتها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نستشرفها في التقرير التالي:
الفرص التصديرية لنفط وغاز الشرق الأوسط إلى أوروبا
تمثل الانقطاعات المحتملة لإمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا في حالة نشوب حرب بأوكرانيا قلقًا كبيرًا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ إذ يشكل الغاز الطبيعي الروسي حوالي 40% من سوق الغاز بأوروبا، وهذا من شأنه أن يزيد من حدة النقص الحالي في الطاقة، ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار حتى بالنسبة للمستهلكين الأوروبيين الذين يعانون أزمة حادة في تكلفة المعيشة.
ومن الممكن أيضًا حدوث اضطرابات في سوق النفط، ناجمة عن العقوبات الاقتصادية – حيث لن يتمكن المستوردون من شراء منتجات الطاقة الروسية – أو بسبب المخاطر المتعلقة بنقل النفط الروسي، لا سيما عبر البحر الأسود والأراضي الأوكرانية.
ونتيجة لذلك تتخذ واشنطن وبروكسل تدابير لتعزيز أمن الطاقة الأوروبي، ففي حين يبدو أن استبدال الغاز الروسي بواسطة غاز الشرق الأوسط حل جذاب، إلا أن هناك عوائق أمام هذا الحل.
صحيح يمكن الاتجاه لاستيراد الغاز من قطر، ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، وبعض منتجي الغاز في شمال إفريقيا مثل مصر التي زادت بالفعل من إمداداتها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، والجزائر التي يمكن أن تزود الاتحاد الأوروبي بـ 7 مليارات متر مكعب إضافية سنويًّا وليبيا، لكن القول أسهل من الفعل لأسباب اقتصادية تارة وسياسية تارة أخرى، فقد كانت قطر وما زالت حتى الآن المحور الرئيسي للجهود المبذولة لإيجاد إمدادات طاقة بديلة، إذ تضغط واشنطن منذ أواخر يناير من أجل إعادة توجيه صادرات الغاز القطري إلى أوروبا، فالإنتاج القطري الذي يقترب من طاقته القصوى يلبي الكثير منه عقودًا مع عملاء رئيسيين في آسيا، وبالتالي إذا فشلت الولايات المتحدة في إقناع شركائها الآسيويين بالإفراج عن بعض مشترياتهم لتسليمها إلى أوروبا، فستكون إمدادات الغاز محدودة، بل وسيتم تسليمها بأسعار السوق الفورية، والتي هي بالفعل في أعلى مستوياتها على الإطلاق، وفقًا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
أما عن الجزائر وليبيا، فيصاحب الاستيراد منهما تعقيدات كبيرة، تهدد بشكل واضح استقرار الإمدادات منهما، فعلى سبيل المثال أدت التوترات المتصاعدة بين الجزائر والمغرب إلى توقف صادرات الطاقة عبر خط الأنابيب الذي يربط الجزائر وإسبانيا، ولا يبدو أن هناك أملًا في التوصل إلى حل سريع بينهما، على الرغم من أن الأزمة الأوكرانية قد تدفع إلى بذل جهود أوروبية أقوى للتوسط لتهدئة التوتر بين الرباط والجزائر.
وفيما يتعلق بليبيا، فإن عدم الاستقرار السياسي والتهديد المستمر بالصراع يجعلها شريكًا مقلقًا، حيث يمكن لروسيا أن تزيد من تعقيد هذه الديناميكيات من خلال الاستفادة من دورها في الملف الليبي، ومن ثم تعطيل تدفقات الطاقة إلى أوروبا.
وبالإضافة إلى مسألة الغاز، تبرز ثمة مخاوف بشأن عدم استقرار سوق النفط، فبعد وقت قصير من إعلان الرئيس بوتين الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك، لامس سعر خام برنت مستوى 100 دولار للبرميل الواحد، حيث سجل 98.2 دولار للبرميل. وقد حذر بنك “جي بي مورغان” الأمريكي من أن أي تعطيل لتدفقات النفط الروسي سيؤدي إلى زيادة سعر النفط “بسهولة” إلى 120 دولارا للبرميل.
ويرى مراقبون أنه في حالة حدوث أزمة في إمدادات النفط، ستكون هناك فرصة لمنتجي الطاقة بالشرق الأوسط، إذ تمتلك المملكة العربية السعودية والعراق والكويت منتجات نفطية مماثلة لروسيا، ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية تمتلك الدول الثلاث حاليًا طاقة فائضة -ما يقرب من 4 ملايين برميل يوميًّا – ولوجستيات يمكن استخدامها لاستبدال بعض النفط الذي توفره روسيا عادةً.
علمًا بأن صادرات تلك الدول الثلاث إلى الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي 2021 كانت أقل بثلاث مرات من صادرات روسيا، ولذلك فإن تقديم يد المساعدة بإرسال المزيد من النفط إلى القارة العجوز من شأنه أن يُؤمّن عقودًا طويلة الأجل في سوق النفط الأوروبية على حساب حصة روسيا في السوق، التي من شأنها أن تنخفض في ظل حزمة العقوبات الغربية التي تستهدف بنوكًا وشركات روسية.
مخاطر بشأن الأمن الغذائي في بعض دول المنطقة
يعتبر حوض البحر الأسود من أهم مناطق العالم بالنسبة للصادرات الزراعية والحبوب، إذ يمر ما يقدر بنحو 12% من إجمالي تجارة الحبوب العالمية عبر مضيق البوسفور كل عام، وتتجه العديد من هذه الشحنات إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة، وتشكل صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا ما يقرب من 29 % من العرض العالمي.
وتجدر الإشارة إلى أن أوكرانيا تصدر 95% من حبوبها عبر البحر الأسود، واتجهت أكثر من 50% من صادراتها من القمح إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عام 2020، حيث تعد أوكرانيا مصدرًا لنصف واردات لبنان من القمح و43% لواردات ليبيا، كما تعتمد مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، بشكل كبير على الواردات من منطقة البحر الأسود. وبالتالي فإن خطر نشوب حرب أو فرض حصار على البحر الأسود من شأنه أن يحد من المنتجات الزراعية المتاحة لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مما يؤدي إلى أزمة غذائية محتملة، فضلًا عن أن استبدال تلك الإمدادات الأوكرانية بواسطة مصدر آخر، قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار؛ التي بلغت بالفعل أعلى مستوى لها منذ 10 سنوات بسبب اضطرابات سلاسل التوريد نتيجة ظروف انتشار وباء كورونا، الأمر الذي يزيد من خطر تهديد الأمن الغذائي.
ويرجح معهد الشرق الأوسط (مركز بحثي مقره واشنطن) أن يكون لارتفاع أسعار الخبز – إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة – تأثير مزعزع بشدة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لا سيما وأن المنطقة تعاني بالفعل من واحدة من أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ويمكن أن تؤدي الزيادات الإضافية في الأسعار إلى تعميق الأزمات الإنسانية لا سيما في اليمن ولبنان اللذين سيواجهان أسوأ العواقب.
وختامًا، يبقى القول بأن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست معزولة عن عواقب الحرب الروسية الأوكرانية المحتملة، وذلك من زاوية تداعياتها على استقرار الأسواق العالمية، لا سيما الزيادة الحادة في أسعار الطاقة والقمح. إلا أن الوضع الراهن يُشكّل فرصة لدول المنطقة خاصة المنتجة للنفط والغاز، فبمقدورها أن تساعد في تخفيف بعض آثار التوقف المحتمل لإمدادات الطاقة الروسية لأوروبا، وبالتالي يمكن أن تمثل جزءًا من الحل الذي يمنح القارة العجوز قدرًا من الاستقلالية في مجال الطاقة، وفي حين أن تلك الدول لن تكون قادرة بمفردها على أن تحل محل روسيا مزود الطاقة الرئيسي لأوروبا، فإنها ستضمن نفوذًا أكبر على الغرب، وهو ما يمثل انتكاسة لجهود الإدارة الأمريكية التي تسعى لتحويل تركيزها بعيدًا عن الشرق الأوسط والاتجاه نحو آسيا.
لكن في المقابل لا بد أن تأخذ دول المنطقة في الاعتبار الدور الروسي المتنامي سياسيًّا وعسكريًّا في الشرق الأوسط، وانخراط موسكو بشكل أو بآخر في العديد من مناطق الصراع والأزمات، وهو ما يستدعي مقاربة دقيقة للغاية تدعم السياسة الخارجية المنفتحة على الشرق والغرب والتي أصبحت نهجًا عامًّا بين دول المنطقة.