تُعد الحاجة إلى الاتصال الإنساني سمة رئيسية في حياة كل الأفراد، نظرًا لأهمية الاتصال كونه من العوامل المساعدة على استقرار الحياة الإنسانية وازدهارها، ويعود له الفضل الأكبر في نمو الفكر الإنساني وتطوره وتقدم الحضارات، وقد تعددت الوسائل والأساليب التي استخدمها الإنسان للتواصل والتعبير عن الأفكار والآراء والمشاعر.
وتعد مواقع التواصل الاجتماعي واحدة من أحدث الأدوات التي يستخدمها الأفراد في التواصل مع بعضهم البعض بما تتيحه من إمكانات لتبادل الآراء والحوار سواء في صورة نصية كالدردشات أو صوتية مثل غرف كلوب هاوس ومساحات تويتر، فهذه الأدوات توفر فرصًا للتفاعل والتعبير عن الذات أمام العالم، وتلغي الحواجز الجغرافية، وتتخطى الفجوات الجيلية.
تغيرات في طرق الاتصال الإنساني
قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، كان الأفراد مقيدين للغاية في وسائل التفاعل مع الآخرين، فكان الأمر يقتصر إلى حد كبير على نطاق دوائر المعرفة الشخصية، إلى أن ظهر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي تحديدًا، والتي غيّرت بشكل جذري الطريقة التي يتفاعل ويتواصل بها الناس في جميع أنحاء العالم.
ويتمثل أحد أكبر التغييرات في طريقة التفاعل مع الآخر وهو العدد الهائل من الأشخاص الذين يمكننا التفاعل معهم، فبفضل المنصات الاجتماعية، أصبح بالإمكان التفاعل مع آلاف الأشخاص في جميع أنحاء العالم في نفس الوقت من خلال جلسات البث المباشر، كما بات بمقدور الشخص الواحد أن يحظى بآلاف الأصدقاء على فيسبوك أو عشرات الآلاف من المتابعين على تويتر. وبعبارة أخرى، تتيح لنا شبكات التواصل الاجتماعي الفرصة لمشاركة الآراء مع جمهور أوسع بكثير.
ومن بين التغييرات كذلك الغياب شبه التام للضوابط على مضمون وطرق توجيه الرسالة الاتصالية، إذ يمكن لأي فرد الآن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتوصيل رسائله إلى الآلاف أو حتى الملايين من الأشخاص دون رقابة على محتوى الرسالة.
وغيّرت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا الطريقة التي نتفاعل بها، مما أفقدنا بعض مهاراتنا الاجتماعية، فبعض مستخدمي مواقع التواصل أصبحوا أقل قدرة على إجراء محادثة عادية أو التفاعل مع الأفراد شخصيًا بسبب الاعتماد على تلك المنصات.
وفي ذات الإطار، تركت منصات التواصل بصمة واضحة على طريقة التواصل الكتابي، وهو ما يمكن تلمسه من خلال مؤشرين، أولهما أن منصات التواصل الاجتماعي جعلت الكتابة أكثر إيجازًا، فعلى سبيل المثال يدفع وضع موقع التدوينات القصيرة تويتر حدًّا أقصى للكلمات بواقع 280 كلمة في التغريدة، المستخدمين الراغبين في التواصل بتكثيف رسائلهم في أقل عدد ممكن من الكلمات، مما جعلهم يركزون على جوهر الرسالة المطلوب إيصالها، وجعل الأولوية لاستخدام جمل أو فقرات أقصر حتى لو على حساب عدم التقيد باتباع القواعد النحوية الصحيحة.
أما عن المؤشر الثاني فيتعلق بجعل الاختصارات أكثر شيوعًا؛ فالاتصال الإنساني عبر منصات التواصل الاجتماعي يدفع الأشخاص لاستخدام اختصارات للألفاظ والمصطلحات باتت شائعة جدًا، لدرجة أننا لا نضطر حتى إلى التفكير مرتين فيما تمثله.
ظاهرة النزوح الاجتماعي
وعلى الرغم من أن البشر أصبحوا أكثر ارتباطًا ببعضهم البعض عن أي وقت مضى بفضل الإمكانات التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي لتسهيل الاتصال الإنساني، لكن الوحدة تظل مشكلة اجتماعية ضخمة ومتنامية. ويُثار هنا تساؤل مفاده، هل تجعلنا وسائل التواصل الاجتماعي أكثر أم أقل عزلة؟ والإجابة ببساطة تعتمد على كيفية استخدام تلك المنصات، حيث تُظهِر الأبحاث أن استخدام المنصات الاجتماعية وحدها لا يمكن أن يعالج الشعور بالوحدة، لكنه يمكن أن يكون أداة لبناء وتقوية العلاقات الحقيقية مع الآخرين، والتي تعتبر مسألة مهمة لحياة سعيدة.
وفي الوقت ذاته، فإن أحد المخاوف الخطيرة المرتبطة بالاتصال عبر المنصات تتمثل فيما إذا كان الوقت الذي يقضيه المستخدم على تلك المواقع يخصم من الوقت الذي يقضيه وجهًا لوجه مع دوائره الاجتماعية، وهي ظاهرة تُعرف باسم “النزوح الاجتماعي- social displacement”.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود العديد من المظاهر السلبية للاتصال الإنساني عبر منصات التواصل الاجتماعي، ومنها مثلا أن نمط الاتصال الكتابي “الدردشة” يفتقر إلى العاطفة والشعور بالطرف الآخر، حيث يجعلك تتساءل عما إذا كانوا يقصدون حقًّا ما يقولونه، بالإضافة إلى أنه يعطي الأشخاص رخصة لارتكاب تصرفات مؤذية من خلف الشاشة، كما يُقلل من مهارات الاتصال وجهًا لوجه، فضلًا عن أن منصات التواصل قد تنقل تعبيرات غير أصيلة عن المشاعر بعبارات ورموز تعبيرية “إيموجي” كتلك المعبرة عن الضحك. ويؤكد روبين دنبار، وهو من علماء علم النفس التطوري في جامعة أكسفورد، في هذا السياق أن الضحك الجسدي الفعلي، وليس الفكرة المجردة لشيء ما مضحك، هو ما يجعل الضحك شعورًا جيدًا.
وتشير دراسة أجرتها الدكتورة كافيري سوبراهمانيام المتخصصة في علم النفس بجامعة ولاية كاليفورنيا للمقارنة بين الرسائل النصية والتفاعلات وجهًا لوجه، إلى أن التفاعلات الرقمية سريعة الزوال، حيث يتم فقدان الشعور بسرعة مقابل الشعور الناجم عن التفاعل وجهًا لوجه.
من جهة أخرى، ربطت دراسات متعددة خلال السنوات الماضية أكثر بين وسائل التواصل الاجتماعي وسوء الصحة النفسية، فهي لم تظهر ارتباطًا فحسب، بل أيضًا علاقة سببية. إذ تشير خلاصات نتائجها إلى أن الأشخاص الذين يقلصون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلى 30 دقيقة يوميًّا يشعرون بأنهم أفضل ويقل إحساسهم بالاكتئاب والقلق بشكل ملحوظ مقارنة بمن يستخدمون تلك المنصات لفترات أطول من الوقت.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأنه أصبحت الشبكات الاجتماعية إحدى الطرق المهيمنة على تواصل الأفراد داخل المجتمع، وهو ما جعلها أشبه بمنتديات حوارية ينظر إليها على أنها بمثابة مرآة تعكس اهتمامات المجتمع وشواغله والقضايا التي تحتل مساحة كبرى من تفكير أعضائه، لكن يبقى القول بأن تفاعل الأفراد من خلال هذا النمط الاتصالي لا بد وأن يكون تفاعلًا مسؤولًا يراعي القيم والعادات، ويتسم بالأمانة والدقة والموضوعية، ويتحلى بآداب الحوار والاختلاف.
3 دقائق