قراءات

العلاقات الخليجية الصينية.. قراءة تحليلية

على مدى العقدين الماضيين، انخرطت الصين بنشاط في ملفات اقتصادية وأمنية تتعلق بمنطقة الخليج العربي، وعملت على تعزيز علاقاتها بالدول الست الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ورغم أن اهتمامها بالمنطقة مدفوع بالطلب المحلي المتزايد على الطاقة، لكن سرعان ما أصبحت بكين شريكًا مهمًا لدول الخليج العربي في العديد من المجالات، بما في ذلك الاستثمار في البنية التحتية، وتجارة السلع والخدمات، والتكنولوجيا الرقمية، وقضايا الدفاع والأمن.
وبموازاة ذلك الاهتمام الصيني، ارتأت الدول الخليجية أن قارة آسيا – ليس فقط الصين، ولكن أيضًا الهند واليابان- ستكون أهم منطقة لازدهارها الاقتصادي في المستقبل، وذلك بمعزل عن تحولات الاستراتيجية الأمريكية إزاء منطقة الخليج، والتي أكدتها خطابات المسؤولين الأمريكيين، ووضع خطوطها العريضة منظرون استراتيجيون، وتنبأ بها محللون وخبراء، فحتى لو استمرت الشراكات ذات الصلة بالأمن والدفاع مع الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى – في المستقبل المنظور- على وضعها الحالي لن يؤثر ذلك في الزخم المتنامي الذي تشهده العلاقات الخليجية الصينية.
المصالح الاستراتيجية للصين في منطقة الخليج العربي
نظرًا لأن الطاقة لا تزال محركًا مهمًا لنموها الاقتصادي، فإن بكين المتعطشة لإمدادات النفط مهتمة باستقرار أسواق الطاقة العالمية، ولا توجد منطقة في العالم أهم من الخليج العربي بالنسبة للصين، التي زاد طلبها على الطاقة بشكل كبير بين 2000 و 2020م، وهي الفترة التي تضاعف فيها حجم اقتصادها خمس مرات. وتعد دول الخليج الست من بين أكبر موردي النفط الخام إلى بكين، ففي عام 2018 ، كانت الصين تشتري ما يقرب من برميل واحد من كل ستة براميل نفط تصدرها دول مجلس التعاون الخليج.
وبحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية، من المرجح أن تضاعف الصين وارداتها النفطية من المنطقة بحلول عام 2035، علمًا بأنه في عام 2020، كان ثلث واردات الصين من الطاقة من دول مجلس التعاون الخليجي، حيث جاءت النسبة الأكبر من المملكة العربية السعودية (15.5%)، تليها عمان (7%)، ثم الإمارات (5.5%)، والكويت (5%)، وفقًا لمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية (تابع لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”).
ووفقًا لتقديرات مجموعة ” Wood Mackenzie” العالمية لأبحاث واستشارات الطاقة، استوردت الصين 9.1 مليون برميل يوميًا من النفط الخام في عام 2020، مع حوالي 3.5 مليون برميل أي (38%) من الحجم الإجمالي من الشرق الأوسط، وفي ظل احتياجات الصين المتزايدة من الطاقة على الأرجح سيزداد اعتمادها على الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط في غضون العقدين المقبلين.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع منطقة الخليج العربي بموقع استراتيجي مؤثر في خطوط الملاحة العالمية التي تمر بها الواردات والصادرات الصينية، فعلى سبيل المثال يمر ما يقرب من نصف واردات الصين من النفط والغاز عبر مضيق هرمز، كما يُعد مضيق باب المندب أكثر أهمية؛ لأن خُمس الصادرات الصينية إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا تعبر هذا المضيق، كما يتدفق من خلاله النفط القادم من الجزائر وليبيا والسودان.
وفي إطار سعيها لتوسيع نفوذها ومصالحها الاقتصادية في الشرق الأوسط، تعهدت بكين بالفعل بتقديم 23 مليار دولار في شكل قروض ومساعدات للشرق الأوسط من خلال منتدى التعاون العربي الصيني، ووقعت اتفاقيات تعاون لمبادرة الحزام والطريق مع 17 دولة عربية، وزادت بشكل كبير من ارتباطها الاقتصادي والدبلوماسي مع الشرق الأوسط، عبر تركيز الاستثمار في المنطقة على الطاقة وبناء البنية التحتية والطاقة النووية ومصادر الطاقة الجديدة والزراعة.
وتعد دول الخليج شركاء مهمين للصين أيضًا من منظور آخر يتعلق بموانئ تلك البلدان ومناطقها الحرة على طول ساحل شبه الجزيرة العربية، والتي تتوافق بشكل جيد مع طموحات “طريق الحرير البحري”، لذلك شرعت الصين في مشاريع لمواءمة المناطق الصناعية في عدد من الدول الخليجية، مثل مشروع مجمع الدقم الصناعي الصيني-العماني، والمنطقة النموذجية الصينية الإماراتية للتعاون في الطاقة الإنتاجية.
نشاط وزاري خليجي مكثف في الصين
تتمتع العلاقات السعودية الصينية بأهمية كبرى تعود إلى مكانة البلدين المحورية على المستوى العالمي، ودورهما القيادي على المستوى الإقليمي، وثقلهم الاقتصادي، فضلًا عن التعاون في ملف مكافحة الإرهاب والتطرف.
وتحظى الصين بمكانة مهمة بالنسبة للاقتصاد السعودي – فهي أكبر شريك تجاري للمملكة، حيث تشارك الشركات الصينية في مجموعة هائلة من مشاريع البناء والبنية التحتية في جميع أنحاء المملكة، كما أن هناك أيضًا الكثير من التآزر بين مبادرة الحزام والطريق الصينية ورؤية السعودية 2030، الهادفة لبناء اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة. وتُعد اللجنة الصينية السعودية المشتركة رفيعة المستوى إطارًا تنسيقيًا لكافة ملفات التعاون المشترك بين البلدين والتخطيط الاستراتيجي في العديد من المجالات دعمًا لأهداف الرؤية الطموحة، وسعيًا لتحقيق الأمن والاستقرار.
وفي هذا الإطار، جاءت مباحثات وزير الخارجية سمو الأمير فيصل بن فرحان مع نظيره الصيني وانغ يي في مدينة ووشي جنوب الصين في العاشر من يناير الجاري، التي استعرضت علاقات الصداقة بين البلدين، وسُبل تعزيزها في جميع مجالات التعاون والتنسيق المشترك، بجانب بحث العديد من القضايا الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وجهود إرساء دعائم السلام بالمنطقة والعالم، بالإضافة إلى تبادل وجهات النظر حيال البرنامج النووي الإيراني، والمفاوضات الدولية المبذولة في هذا الشأن، ودعم كل ما يضمن الأمن والاستقرار في أفغانستان.
وتأتي تلك المباحثات قبل انطلاق اجتماعات لوزراء خارجية السعودية والكويت وعمان والبحرين، إلى جانب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي مع مسؤولين كبار بالصين، وتعد تلك الزيارة نادرة ومكثفة إذ تستمر 4 أيام، ويتوقع أن ينتج عنها مخرجات مهمة، إذ تشير صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية إلى أنها قد تساهم في إحراز تقدم في المناقشات حول اتفاق التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي، علمًا بأن الصين هي الشريك التجاري الأول لمجلس التعاون.
وقد أكد الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية الدكتور نايف فلاح مبارك الحجرف في تصريحات صحفية أنه سيجري استعراض ملف مفاوضات التجارة الحرة بين مجلس التعاون والصين والتحضير لجولة المفاوضات العاشرة، وسبل تعزيز استثمار الفرص الثنائية في المجالات المشتركة.
هذا، ويرى مراقبون أن ملف أمن الطاقة أيضا سيكون حاضرًا بقوة وأحد المحاور الرئيسية لتلك الزيارة الخليجية، فعلى الرغم من التعافي النسبي في أسواق الطاقة، لكن المعالم غير الواضحة لجائحة فيروس كورونا والاضطرابات السياسية التي تطال بعض الدول المنتجة للنفط مثل كازاخستان، أكبر منتج للنفط بآسيا الوسطى، تشكلان مخاوف لكل من المصدرين والمستوردين على حدّ سواء.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن سياسة الصين تجاه دول مجلس التعاون الخليجي تحركها بالأساس دوافع اقتصادية ومصالح استراتيجية تتصل بإمدادات النفط الخام ومشروعات استثمارية ضمن مبادرتها “الحزام والطريق”، وتواكبها أيضًا مساع للعب دور الوسيط في المنطقة من خلال علاقاتها الطيبة مع كافة الأطراف الإقليمية، إذ ترغب الصين في توسيع دورها السياسي في مستقبل الشرق الأوسط عبر مداخل القوة الناعمة الاقتصادية، فهي تتخذ من التنمية منطلقًا لكافة تحركاتها باعتبار أنها المفتاح الرئيسي لحل جميع المشكلات.
وختامًا، يبقى القول إن تعزيز العلاقات الخليجية الصينية يرتكز على محورين أساسيين وهما تحقيق الترابط بين استراتيجيات التنمية، وتعزيز التعاون والتنسيق متعدد الأطراف إزاء الملفات السياسية والأمنية في المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى