توالى الكشف عن وقائع بشأن أضرار وسائل التواصل الاجتماعي على مستخدمي تلك المنصات كأفراد أو على المجتمعات بوجه عام خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما ظهر على سبيل المثال في قضية تأثير إنستغرام على الصحة العقلية للمراهقين، ومسؤولية فيسبوك عن تأجيج العنف السياسي، فيما بدت الحكومات والجهات التنظيمية مغلولة اليد عن التصدي لتلك الأخطار وتجنب تلك الأضرار، بسبب تغييبها شبه التام عما يحدث داخل شركات التواصل الاجتماعي العملاقة نتيجة لعدم إمكانية النفاذ إلى البيانات.
عندما تم إطلاق منصات التواصل الاجتماعي لأول مرة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، فقد وعدت تلك المنصات بجمع الناس معًا ومنح الشخص العادي مكبر صوت للتحدث إلى العالم، ومكّنت وسائل التواصل الاجتماعي الملايين، ثم المليارات من التواصل وتشكيل المجتمعات عبر الإنترنت، وقد مثل ذلك بالنسبة لمجتمع البحث الأكاديمي كنزًا معلوماتيًا وفرصة للنهوض بالمعرفة العلمية؛ نظرًا لكون هذه المنصات تنشئ تلقائيًا سجلاً رقميًا لسلوكيات مستخدميها، مما يوفر فرصًا جديدة غير مسبوقة لمراقبة السلوك البشري، عبر استخدام أدوات تكنولوجية مثل التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي.
لكن هذا المنظور تغير في الولايات المتحدة منذ حوالي خمس سنوات، مع تزايد الوعي بشأن انتشار المعلومات المضللة، فضلاً عن الكشف عن المحاولات الروسية لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتلاعب بالانتخابات الأمريكية عام 2016 والتحريض على الصراع الاجتماعي. ففي أعقاب انتخابات عام 2016، قامت وسائل الإعلام والكونجرس بالتحقيق في كيفية استغلال الجهات الفاعلة الروسية لإمكانيات منصات التواصل الاجتماعي – واجهات الإعلانات الخاصة والمجموعات المغلقة والمشاركات العضوية العادية- لتحقيق تلك الأهداف. كما تضاعفت الأمراض المنسوبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي منذ عام 2016، حيث تم إلقاء اللوم على فيسبوك وتويتر ويوتيوب في كل شيء بدءًا من الاستقطاب مرورًا بالمعلومات المضللة حول كورونا وفقدان الشهية، وصولًا إلى الإبادة الجماعية.
أدوات بحثية مستقلة لدراسة منصات التواصل الاجتماعي
وفقًا لمعهد “بروكينغز” الأمريكي، فإنه نظرًا لأن التوقعات الطوباوية السابقة بشأن وسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى واقع محبط، فقد تطورت الأبحاث حول هذه التقنيات الجديدة، لكن تحكم هذه المنصات في البيانات اللازمة لدراسة هذه الظواهر، أدى إلى محدودية جهود الباحثين الأكاديميين في التعامل مع مقياس وشخصية وأسباب الظواهر المختلفة المنسوبة إلى ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.
ولتوليد هذه الأدبيات الجديدة، لجأ الباحثون إلى الاستطلاعات والتجارب و”المكونات الإضافية للمتصفح- browser plugins” ومجموعة من الأساليب الجديدة الأخرى لمحاولة إلقاء نظرة من الخارج على ما يمكن أن يراه المطلعون على الشركة بسهولة من الداخل، لكن فضيحة “كامبريدج آناليتكا” المتعلقة بجمع بيانات شخصية حول ملايين الأشخاص على موقع فيسبوك من دون موافقتهم واستخدامها لأغراض الدعاية السياسية، أدت إلى تبديد جهود أي منصة لتسهيل وصول الباحثين الخارجيين إلى المحتوى على المستوى الفردي، بعدما تضمنت تلك الفضيحة باحثًا جامعيًا يعمل بصفته الفردية.
فنتيجة لتداعيات هذه الإجراءات على خصوصية المستخدم، دفعت شركة فيسبوك في النهاية غرامة قدرها 5 مليارات دولار إلى لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية، وأغلقت بعض واجهات برمجة التطبيقات التي لطالما استخدمها الأكاديميون للبحث، وباتت هناك عراقيل أمام توفير إمكانيات وصول الباحثين للبيانات، خوفًا من استغلالهم من قبل جهات سيئة أو تسريب البيانات الخاصة بالمستخدمين.
وفي ذات السياق، إذا كانت انتخابات عام 2016 وفضيحة “كامبريدج آناليتكا” تمثل نقطة تحول في القلق العام بشأن وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المخالفات التي كشفت عنها فرانسيس هوغن، الموظفة السابقة لدى فيسبوك أمام لجان الكونجرس حول إضرار سياسات المنصة بالأطفال وتأجيجها للانقسامات وتشجيعها للتنمر، قد أفسحت المجال لطرح مقترحات متنوعة من أبرزها تنظيم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، وإزالة الحصانة القانونية للمنصة بشأن المحتوى الذي ينشئه المستخدمون، وتفكيك فيسبوك وجوجل، وتنظيم الإعلانات.
العوائق الحالية أمام الأبحاث الخاصة بوسائل التواصل الاجتماعي
بالنظر إلى الاهتمام العام الهائل بفهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على جودة الديمقراطية الأمريكية، من المهم ملاحظة أنه على عكس البيانات الإدارية (مثل نتائج الانتخابات والمؤشرات الاقتصادية) أو التي يتم إنشاؤها ذاتيًا (الاستطلاعات والتجارب المعملية)، يتم الآن احتكار بعض أهم البيانات المتعلقة بالسلوك السياسي في عدد قليل من شركات الإنترنت الكبيرة.
ونتيجة لذلك، قد يكون هناك المزيد من البيانات ذات الصلة بالسياسة أكثر من أي وقت مضى، لكن حصة صغيرة منها متاحة للباحثين الخارجيين، مما شكّل دافعًا لهؤلاء الباحثين لتطوير أساليب إبداعية من الخارج للحصول على جزء من تلك البيانات وتوظيفها في البحوث، لكن الحقيقة الراسخة أنه لا يمكن لتلك البيانات مهما كانت دقتها أو حجمها أن تحل محل الوصول إلى البيانات الأولية التي تحتفظ بها الشركات نفسها.
وقد حاول الباحثون خلال العقد الماضي الوصول إلى البيانات من فيسبوك وجوجل ويوتيوب وتويتر، وكان موقع تويتر الأكثر انفتاحًا من بين عمالقة التواصل الاجتماعي الثلاثة الكبار، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن مخاوف الخصوصية المماثلة لا تظهر على منصة تكون فيها معظم التغريدات عامة، كما جرب موقع فيسبوك العديد من برامج مشاركة البيانات البارزة، في حين تميل جوجل ويوتيوب وتيك توك إلى أن تكون الأكثر انغلاقًا تجاه البحث المستقل.
وغالبًا ما تجلب كل هذه الشركات باحثين لمشروع أو آخر، مما يؤدي أحيانًا إلى النشر، ولكن عندما يتعلق الأمر بالبحث المستقل حقًا، يميل الأكاديميون إلى ابتكار جهود من الخارج.
كان لدى فيسبوك طموحات كبيرة حول مشاركة البيانات تمثلت في مشروع “Social Science One”، وهي محاولة لمشاركة بيانات فيسبوك مع الأكاديميين بطريقة آمنة وتراعي الخصوصية. وقد أدت مخاوف الخصوصية إلى إخراج هذه الجهود عن مسارها منذ بدايتها، حيث قرر فيسبوك لاحقًا أنه لا يمكنه إصدار سوى مجموعة بيانات على مستوى عنوان “URL”، مما يعني أنه لن يكون بإمكان الأكاديميين الوصول إلى أي بيانات على المستوى الفردي، فقط معلومات حول الانكشاف والتفاعل مع عناوين “URL”.
في أعقاب صعوبات “Social Science One”، شرع فيسبوك في نموذج مختلف لمشروع بحث يدرس تأثير المنصة على انتخابات 2020، وعمل فريق من الأكاديميين مع باحثي فيسبوك لتحليل البيانات المتعلقة بالانتخابات الأمريكية.
على عكس هذه الجهود، لم ينشئ يوتيوب وجوجل وتيك توك أي برنامج لمشاركة البيانات مع الأكاديميين، لكن هذا لم يمنع الأكاديميين من محاولة دراسة طريقة عمل هذه المنصات، على سبيل المثال، من خلال معرفة كيف ومتى تنتشر روابط مقاطع فيديو يوتيوب على منصات أخرى أو عبر إجراء دراسات تجريبية لمقاطع الفيديو التي توصي بها خوارزمية يوتيوب.
ويحتوي موقع يوتيوب على واجهة برمجة تطبيقات توفر بعض المعلومات حول مقاطع الفيديو التي يمكن أن تكون مفيدة للبحث، على الرغم من أن حدود واجهة برمجة التطبيقات يمكن أن تعيق القدرة على إجراء مثل هذا البحث على نطاق واسع.
كما تتيح ميزة المؤشرات في جوجل أيضًا للجمهور التعرف على الاتجاهات في عمليات البحث، مثل عدد المرات التي يبحث فيها الأشخاص عن اسم مرشح معين، على سبيل المثال، ولكن لا توجد أداة مماثلة لموقع يوتيوب.
وفي النهاية، يظل الباحثون الأكاديميون المستقلون معتمدين على لطف المنصات لإتاحة البيانات. حتى الوصول إلى بيانات يوتيوب وتويتر التي يُفترض أنها عامة يمكن أن ينقلب من خلال التغييرات في القواعد المتعلقة بالبيانات المتاحة من خلال واجهات برمجة التطبيقات، ومقدار البيانات التي يمكن للباحثين جمعها عبر واجهات برمجة التطبيقات ومدى سرعة القيام بذلك.
وتكمن المشكلة بالطبع في أن المنصات قد تشعر بأن لديها القليل من الحافز لمشاركة البيانات مع الباحثين الأكاديميين، فمجرد إتاحة البيانات قد يعرضهم للمسؤولية عن انتهاك قواعد الخصوصية المعمول بها. وعلاوة على ذلك، فإن بعض البحوث ستسلط الضوء على أمور لا ترغب المنصات في كشفها.
تهيئة الطريق لوصول الباحث إلى بيانات المنصات
لكسر هذا المأزق تبدو ثمة حاجة إلى تشريع فيدرالي للشفافية والمساءلة، له ثلاث خصائص أساسية:
تفويض وكالة فيدرالية لإجبار منصات الإنترنت الكبيرة على مشاركة البيانات مع جهات خارجية لا تختارها الشركة، على أن تكون هذه البيانات مماثلة لما يستطيع الباحثون داخل الشركة الوصول إليها.
تقوم الوكالة بفحص الباحثين والمشاريع البحثية التي سيتم منحها إمكانية الوصول إلى بيانات النظام الأساسي.
يجب أن تكون البيانات موجودة داخل الشركة، وأن تحدد اللوائح بالتفصيل عملية الوصول إلى هذه البيانات، ونشر النتائج بطريقة لا تعرض خصوصية المستخدمين للخطر.
وبصرف النظر عن هذه السمات الثلاث الحاسمة، هناك العديد من المسارات المختلفة التي يمكن أن يسلكها التشريع والتنظيم، حيث يمكن أن تكون هيئة الإنفاذ ذات الصلة هي لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية، نظرًا لأنها كانت في الصدارة في التعامل مع كل من الاحتيال وخصوصية المستخدم، أو وكالة حكومية جديدة تمامًا.
وأما تعريف الباحثين، يمكن أن يقتصر على الأكاديميين أو توسيعه ليشمل مجموعات أخرى مثل الصحفيين أو مراكز الفكر إذا كان من الممكن تعريف هذه المجموعات بشكل مناسب بموجب القانون. وفيما يتعلق بعالم الشركات قد يقتصر على أكبر شركات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك ويوتيوب وتويتر وجوجل وتيك توك، وقد يمتد ليشمل شركات التكنولوجيا الكبيرة الأخرى مثل أمازون وآبل. بالإضافة إلى إمكانية تحديد نوع البحث الذي يسمح به هذا القانون من خلال أغراضه (مثل السياسة أو الصحة العقلية) أو يمكن توسيعه ليشمل جميع الأسئلة العلمية المحتملة التي يمكن الإجابة عنها من خلال الوصول إلى بيانات الشركة. أما عن العقوبات المقررة فتشمل كلاً من الشركات غير الممتثلة والباحثين المتورطين في مخالفات كبيرة.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن وصول الباحث إلى البيانات الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي وإخضاعها للبحث والدراسة، يعد مكونًا واحدًا فقط من أجندة أكبر للشفافية التي هي ليست سوى جانب واحد من جوانب تنظيم نشاط عمالقة التكنولوجيا. وبالإضافة إلى وصول الباحث عبر مسار يحافظ على خصوصية المستخدمين، يجب أن تتيح المنصات مزيدًا من المعلومات للجمهور عبر أدوات وواجهات برمجة تطبيقات متاحة للجمهور مثل “جوجل تريندز-Google Trends” أو “كراود تانجل-Crowdtangle” والتي ستسمح لأي شخص باكتساب رؤى حول حجم بعض الظواهر عبر الإنترنت.