تقارير

الرهان الخاسر على إيران في لبنان

أظهر موقف الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي من تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي بشأن الحرب في اليمن، والتي تضمنت “إساءات” تجاه المملكة العربية السعودية ودول تحالف دعم الشرعية باليمن، وعبرت عن “تحيز واضح” لميليشيا الحوثي الإرهابية، مدى عجز تلك الحكومة أمام أزمة دبلوماسية غير مسبوقة تهدد مصالح لبنان الدولة والشعب، وتحدث شرخًا عميقًا في علاقته بدول الخليج العربية، تلك العلاقة الراسخة على مدى التاريخ.

فلطالما كانت دول الخليج وفي مقدمتها السعودية الداعم الأول للبنان حكومةً وشعبًا في أحلك الأوقات، لا سيما الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، إذ أسهمت المملكة بكل جهدها لإطفاء نيرانها عبر العديد من الخطوات تُوجت بمؤتمر الطائف عام 1989، وهو الاسم الذي تُعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وقعها الفرقاء اللبنانيون، وكانت الرياض أيضًا مستثمرًا رئيسيًا في جهود إعادة إعمار البلاد بعد الحرب، ومصدرًا رئيسيًا لإيرادات السياحة في لبنان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ولم يعكر صفو العلاقة بين السعودية ولبنان سوى ممارسات جماعة حزب الله الموالية لإيران، تلك الجماعة التي تدين بالولاء إلى إيران والمنسلخة تمامًا عن الحاضنة الوطنية والعربية، إذ تدور في فلك طهران لتؤدي الدور المرسوم لها من قبل نظام الملالي، ذلك الدور الذي يخدم مصالح إيران دون أي اعتبار لمصلحة لبنان وشعبه وعلاقاته مع أشقائه من الدول العربية.

أزمة قرداحي والوضع الكارثي للاقتصاد اللبناني

تعتبر تصريحات قرداحي المسيئة، ثاني مرة يتسبب فيها وزير لبناني في أزمة مع دول الخليج العربي خلال أقل من 6 أشهر، إذ سبق وأن صدر عن شربل وهبة وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب تصريحات تتضمن إساءات تجاه المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، وسرعان ما قدم استقالته على خلفية تلك الأزمة. ومع مجيء الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي في سبتمبر  الماضي بعد أكثر من عام على فراغ حكومي، أكد ميقاتي في أول تصريحاته عزم حكومته اتباع منهجية حكومية وسياسية جديدة عنوانها استعادة العلاقات مع كل الدول، وخصوصًا الدول العربية، لكن ما حدث جاء على النقيض؛ إذ أدخلت تصريحات وزير الإعلام اللبناني غير المسؤولة والمتجاوزة  بلاده في أزمة ذات تداعيات وخيمة، فتبعتها عاصفة من القرارات والتحركات الدبلوماسية القوية متمثلة في إعلان السعودية حظر جميع الواردات اللبنانية، وطرد سفير لبنان من الرياض، واستدعاء السفير السعودي في بيروت، لتتخذ كل من البحرين والكويت خطوات مماثلة بسحب سفيريهما من بيروت، وطرد سفيري لبنان من الكويت والمنامة، كما سحبت الإمارات أيضًا سفيرها في بيروت، وطلبت من رعاياها مغادرة لبنان، ما وجّه ضربة قوية للبنان في وقت يعاني فيه بالفعل من أسوأ أزمة اقتصادية في زمن السلم على الإطلاق.

ووفقًا لتقرير مرصد الاقتصاد اللبناني الصادر عن البنك الدولي، يعاني لبنان من كساد اقتصادي حاد ومزمن، ومن المُرجّح أن تُصنّف هذه الأزمة الاقتصادية والمالية ضمن أشد عشر أزمات، وربما إحدى أشد ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. ويقدّر البنك الدولي أنه في عام 2020، انكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي في لبنان بنسبة 20.3%، بعد انكماشه بنسبة 6.7% عام 2019، حيث انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي من حوالي 55 مليار دولار أمريكي عام 2018 إلى ما يُقدّر بنحو 33 مليار دولار أمريكي العام الماضي 2020، ولا تزال الظروف النقدية والمالية شديدة التقلب في سياق نظام متعدّد لأسعار الصرف، مما أدى إلى ارتفاع التضخم، ومن المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 9.5% عام 2021.

وتظهر تلك الأرقام والمؤشرات الاقتصادية مدى الانهيار الكارثي للاقتصاد اللبناني، الأمر الذي يستوجب مد جسور التواصل مع دول الخليج العربي لإذابة الجليد في العلاقات والتوترات التي صنعتها سياسة حزب الله، وتحكمه في القرار اللبناني عبر تحالفه غير الخفي مع قصر بعبدا من خلال التيار الوطني الحر الذي يتزعمه جبران باسيل صهر الرئيس اللبناني ميشال عون، فضلًا عن تيار المردة  الذي ينتمي إليه جورج قرداحي  ويصطف أيضًا إلى جانب حزب الله.

خسائر ضخمة لقطاعي الزراعة والصناعة في لبنان

شكّلت التدفقات النقدية من دول الخليج العربي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن، رئة الاقتصاد اللبناني، إذ تعتبر تلك الدول وجهة التصدير الرئيسية للبنان ومصدرًا مهمًا للعملة الصعبة، لذلك ستكلف هذه الأزمة الدبلوماسية لبنان غالياً، لأنه يعتمد على النفط من دول الخليج  العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، كما يعتمد أيضًا أكثر من أي وقت مضى على التحويلات المالية من المغتربين، ويكسب الغالبية العظمى من هؤلاء المغتربين المال في دول الخليج، وفقًا لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

ويقدر مصرف لبنان المركزي أن حوالي 60% من التحويلات تأتي من الخليج العربي، إذ يوجد ما يقرب من 550 ألف لبناني في دول الخليج من بينهم 350 ألفًا في المملكة العربية السعودية وحدها، ولبنان في حاجة ماسة إلى تلك التحويلات وسط توقف الدعم الدولي، والقيود التي فرضتها البنوك على سحب الدولار، وهو ما يعني أن بيروت لن يكون بمقدورها تحمل صدمة الأزمة الحالية لفترة طويلة، في وقت يعيش فيه أكثر من نصف سكان لبنان تحت خط الفقر.

من جهة أخرى، يشكل الحظر السعودي على الواردات من لبنان ضربة قاسية، تكبد بيروت خسائر في الإيرادات تصل إلى 300 مليون دولار سنويًا، فعلى الرغم من أن لبنان ليس دولة مصدرة ولكن 10% من صادراته تذهب إلى المملكة العربية السعودية التي تعتبر أكبر سوق تصدير زراعي للبنان، وفقًا لبيانات الجمارك اللبنانية.

ويزيد من حدة الأزمة الراهنة إعلان اتحاد الغرف السعودية عن قيام جميع الشركات الوطنية بوقف كل تعاملاتها مع الشركات اللبنانية، في بادرة من مجتمع رجال الأعمال والمستثمرين السعوديين؛ ردًا على الموقف الفاتر للحكومة اللبنانية من أزمة قرداحي، إذ إنها لم تقدم إدانة على نحو قاطع عما صدر عن قرداحي، مكتفية بالنأي بنفسها بالقول إن التصريحات لا تمثلها في تناقض غريب كون قرداحي وزيرًا على قوة تلك الحكومة، فكيف يمكن تقبل ذلك التبرير، كما بدا عجز تلك الحكومة وانسحاقها أمام إملاءات حزب الله في المناشدات المتكررة التي وجهها ميقاتي إلى وزير الإعلام بتحكيم ضميره! وتغليب المصلحة الوطنية.

وسيشكّل قرار اتحاد الغرف السعودية صفعة قوية للقطاعين الصناعي والزراعي بلبنان، في ضوء ما تتضمنه بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية التي تشير إلى أن السلع المستوردة من لبنان، تشمل معادن ثمينة وأحجارًا كريمة، وفواكه، وخضراوات، وكاكاو وزيوتًا عطرية ومستحضرات تجميل، بينما تتركز صادرات السعودية للسوق اللبنانية بشكل كبير في اللدائن ومصنوعاتها، وكذلك المنتجات الصيدلانية.

مصالح لبنان مع المملكة بلغة الأرقام

لقد مدت السعودية على مدى عقود يد العون والمساندة إلى لبنان وشعبه بعطاء غير محدود؛ انطلاقًا من حرصها على الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار لبنان كدولة عربية شقيقة، وكذلك لدعم الأمن القومي العربي، فالدور السعودي على الدوام ينطلق من أبعاد عروبية قومية تستهدف مساندة مؤسسات الدولة الشرعية، ودفع عجلة التنمية فيها وتحقيق الرخاء للشعوب، وذلك على النقيض تمامًا من إيران التي تتبنى مشروعًا طائفيًا تخريبيًا لا يجلب سوى الدمار والخراب للأوطان وهلاك الشعوب.

وفي لبنان، لا توجد أدنى مقارنة بلغة المصالح والأرقام والعطاء بين ما قدمته المملكة إلى لبنان وبين ما تقدمه إيران، فعلى سبيل المثال تشير تقديرات دولية إلى أن حجم المساعدات التي قدمتها السعودية للبنان خلال الفترة  ما بين عامي 1990 و2015، تجاوز 70 مليار دولار بشكل مباشر وغير مباشر، بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات وقروض ميسرة وودائع في البنوك والمصارف، فيما لا يتعدى ما قدمته إيران للحكومة اللبنانية الـ100 مليون دولار، في حين تقدم طهران 200 مليون دولار سنوياً لحزب الله، بحسب البعثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن ما تقدمه المملكة من دعم يمر عبر القنوات الحكومية الشرعية وهو دعم موجه للبنان وشعبه بالكامل دون تفرقة على أساس طائفي أو مذهبي، في حين أن الدعم الإيراني لا يمر بتلك القنوات، فهو دعم موجّه لجماعة حزب الله بمعزل عن سلطات الدولة ومؤسساتها، ولعل المثال الأبرز هنا صهاريج الوقود الإيراني التي وصلت إلى لبنان في سبتمبر الماضي في خضم أزمة الطاقة التي تشهدها البلاد، إذ تولى حزب الله عملية إدخال القافلة التي ضمت 80 صهريجًا وأفرغت حمولتها في مخازن محطات تابعة للحزب في بعلبك، قبل أن يتم توزيعها لاحقًا وفق لائحة أولويات حددها حزب الله، اقتصرت على أتباعه.

من جهة أخرى، توجد جالية لبنانية كبيرة مقيمة في المملكة تقدر بنحو 350 ألف شخص، تشكل القوة العاملة الحائزة على إقامة عمل من بينهم أكثر من 100 ألف شخص؛ وفقًا لجمعيات رجال الأعمال اللبنانية ويسهمون بتحويلاتهم إلى بيروت في دعم الاقتصاد اللبناني. في مقابل ذلك، يقيم في إيران نحو ألف لبناني فقط، وهم إما طلاب في ما يسمى بـ”الحوزات العلمية” في مدينة قم أو طلاب بجامعات إيرانية ضمن منح تشرف عليها ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، وأخيرًا هناك لبنانيون من خارج دائرة حزب الله وهؤلاء أغلبهم مهندسون وتقنيون يعملون في شركات أجنبية تعمل في إيران.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تعامل الحكومات اللبنانية المتعاقبة أظهر بما لا يدع مجالًا للشك فشلاً في كبح تأثير حزب الله وأجندته الإيرانية التخريبية على علاقة لبنان بالمملكة ودول الخليج العربي، فالرهان الخاسر على طهران سيُكبد بيروت خسائر فادحة في وقت فيه لبنان أحوج ما يكون إلى تعزيز علاقاته مع محيطه العربي والخليجي من أجل تأمين الدعم اللازم لتخطي المرحلة الصعبة التي تمر بها البلاد، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعيش اللبنانيون تحت وطأتها.

زر الذهاب إلى الأعلى