أدى التطور التكنولوجي في مجال الاتصال إلى ثورة هائلة التأثير انعكست تفاصيلها على الشبكة العنكبوتية، والأقمار الصناعية، والتكنولوجيا الرقمية، وأجهزة الحاسوب وكل ما له علاقة بمخرجات الذكاء الاصطناعي، وشكلت تلك التأثيرات مفاهيم وآليات إعلامية جديدة؛ كان لها الفضل في ظهور خريطة اتصال حديثة تجمع بين المرئي والمسموع والمطبوع، تستطيع نقل المحتوى بسرعة فائقة للمجموعات والأفراد، وتحدث أيضًا حالة من التفاعل المتبادل.
وبات في بعض الأحيان للتكنولوجيا أدوار بديلة عن البشر وهو ما يعرف بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ومن تطبيقاتها في مجال العمل الصحفي ما يسمى بــ”صحافة الروبوت” والتي صارت واقعًا لا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، إذ تمثل صناعة الروبوت الصحفي تحديًا حقيقيًا لمعظم الوظائف في المؤسسات الإعلامية المختلفة، سواء المتعلقة بجمع البيانات وتحريرها وصياغتها والرد على البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي والأدوار المتعلقة بعملية النشر والمتابعة، الأمر الذي يحتم على الصحفيين العمل على تطوير مهاراتهم للتأقلم مع البيئة الجديدة، ليس فقط على مستوى الشكل وإنما المحتوى أيضًا. من هذا المنطلق، سعت دراسة للدكتورة أسماء محمد مصطفي في كلية الإعلام وتكنولوجيا الاتصال جامعة جنوب الوادي، بعنوان “مستقبل الصحفيين في عصر الذكاء الاصطناعي .. صحافة الروبوت نموذجًا” إلى التعرف على صحافة الروبوت ومستقبل الصحفيين في وجود هذه التقنية الرقمية وهل ستقضي تقنيات الذكاء الاصطناعي على وجود العنصر البشري في صناعة الإعلام؟
مشكلة وعينة الدراسة
تمثلت مشكلة الدراسة بشكل رئيسي في أن التحولات التي فرضتها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار بقدر ما أدت إلى تطورات كبيرة وجوهرية على مستوى كفاءة الأداء بقدر ما أصبحت تمثل تهديدًا حقيقيًا لمستقبل الصحفيين والمهنة، في ظل تصاعد المخاوف من تقليل فرص العمل وتنميط الأداء وغياب الحس الإنساني والطابع الإبداعي، وهو الأمر الذي لا يشكل خطورة على مستقبل الصحفيين فقط وإنما مستقبل المهنة ذاتها، الأمر الذي يحتم على الصحفيين العمل على تطوير مهاراتهم للتأقلم مع البيئة الإعلامية الجديدة ليس فقط على مستوى الشكل وإنما المحتوى أيضًا، حيث إنه من المحتمل أن تقود صحافة الروبوت إلى تحولات كبيرة في بنية المؤسسات الإعلامية وطرق عملها، لهذا سعت الدراسة إلى الإجابة عن عدة تساؤلات وهي ما مستقبل الصحفيين في ظل صحافة الروبوت؟ هل ستقضي تقنيات الذكاء الاصطناعي على وجود العنصر البشري في صناعة الإعلام ومن ثم تتخلى المؤسسات الصحفية عن العنصر البشري؟ وهل استعدت المؤسسات الصحفية لصحافة الروبوت؟
واعتمدت الدراسة على إجراء مقابلات مع عينة من الصحفيين والإعلاميين بلغ قوامها 30 مفردة، حيث وضعت استنادا لتلك المقابلات مجموعة من السيناريوهات التي ترسم مستقبل الصحفيين في عصر صحافة الروبوت، وكشفت نتائج التحليل الكيفي باستخدام أسلوب المقابلة عن مجموعة من النتائج من أهمها أن غياب الخصائص البشرية في الروبوت الصحفي هي التي تدفع الفرق الصحفية لتحديد موضوعات يمكن أن نصفها بأنها واقعية بالنسبة لكتاب الروبوت، حيث يتعلق الأمر بمقال عن النتائج الرياضية أو نتائج الانتخابات من خلال تجميع بسيط للحقائق أو الأرقام من دون الحاجة إلى تحليل.
ونوهت الدراسة إلى أنه ليس هناك ما هو أفضل كمثال من روبوت هيليوغراف، حيث الذكاء الاصطناعي “المحلي الصنع” الذي طورته واستخدمته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية لتغطية الأحداث الرئيسة حول مواضيع مثل السياسة أو الرياضة، ويبدو أن هذا الذكاء الاصطناعي قد كتب بالفعل أكثر من 800 مقالة دون أن تتطلب بالضرورة تدخل أي صحفي.
وأشارت الدراسة إلى بعض المعوقات التي تعوق استخدام التقنيات المتطورة في العمل الصحفي، منها عدم وجود أشخاص مدربين على استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي والاستفادة منها، وكذلك عدم التوصل إلى مفهوم محدد لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والوقوف على مدى جدواه في العمل الصحفي، وأيضا وقوف المعوقات المادية كعائق كبير أمام استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي.
من جهة أخرى، ذكرت الدراسة أن “السرعة الفائقة” التي تتميز بها المؤسسة في نشر الأخبار عند الاعتماد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أهم أسباب اعتماد المؤسسات الصحفية لتقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير المضامين الصحفية، مشيرة إلى أن المبحوثين أعربوا عن القلق من أن الذكاء الاصطناعي قد يقوم بتقديم معلومات غير دقيقة إذا حدث خلل بالنظام، خاصة وإن كان المسؤول عن ذلك النظام لا يمتلك الخبرة، فالتطبيق إذا ما تم برمجته بشكل غير صحيح أو عن طريق عناصر غير مدربة فسيؤدي بالتأكيد إلى خلل وتقديم معلومات غير صحيحة.
كما أشارت الدراسة إلى أن توظيف الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى التدريب المستمر لممارسي العمل الصحفي، حيث يتوقف الجهد المطلوب من الصحفي لتوظيف الذكاء الاصطناعي لتطوير المضامين الصحفية على خبرته بالتكنولوجيا والشريحة العمرية المنتمي إليها.
سيناريوهات مستقبلية
جاءت نتائج سيناريوهات الدراسة متنبئة بالوضع المستقبلي كما يلي: السيناريو الأول:
يستبعد أن تحل الروبوتات قريبًا محل الصحفي المتمرس فهي لا تزال غير قادرة على التمييز بين الفوارق البسيطة وقراءة ما بين السطور، فضلًا عن عدم جاهزية المؤسسات الصحفية لتوظيف الروبوت في إداراتها الإخبارية المختلفة بسبب عدم وجود التمويل الكافي والاستثمار في هذه التقنية، ويعني ذلك أن هناك تحديا اقتصاديا كبيرا قد يؤدي إلى تراجع مثل هذه التقنية، وعلى الرغم من سيطرة الروبوتات على العديد من المهن والصناعات الأخرى، لكن لا يزال العاملون في حقل الصحافة في جميع أنحاء العالم يشعرون بدرجة عالية من الأمان الوظيفي، لذلك ستبقى الحاجة للإنسان في تنفيذ المهام الإعلامية مهما تطورت التكنولوجيا الخوارزمية، فالإنسان قادر على أن ينافس الروبوتات ويتفوق عليها مهما كانت درجة تطورها.
السيناريو الثاني:
يقوم على احتفاظ الصحفي الإنسان بما يميزه، والصحفي الآلي بما يميزه، ويتعايش الاثنان معًا تحت مظلة الإعلام، ووفقًا لهذا السيناريو فإن كل الاحتمالات واردة فقد ترتفع الجودة وتزداد التنافسية، وقد تفتقر القصص الصحفية إلى طابعها العاطفي والإنساني، ويُكتفَى بأن تكون الصحافة مجرد سرد بياني أو إحصائي نتيجة استخدام الروبوت.
السيناريو الثالث:
يتعلق بـ”صحافة الروبوت” والتعامل مع الموضوعات الواقعية، فالذكاء الاصطناعي ليس دائمًا ذكيًا بما يكفي للتعامل مع الموضوعات الصحفية المعقدة التي تتطلب من الصحفيين الكثير من التحضير والكتابة. وفي الوقت الحاضر من المستحيل تفسير مهارات أو عواطف معينة أو إعادة إنتاجها بواسطة الذكاء الاصطناعي.
لكن هذا السيناريو يفترض إمكانية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة بالاعتماد على الأقمار الصناعية التي تخترق سرعة الإنترنت، واستعمال كاميرات تصويرية “3D”، واستخدام الروبوتات التي تغطي الأحداث في الأماكن الأكثر خطورة والتي يصعب على الإنسان الوصول إليها مثل مناطق الحروب والحرائق، وفي قاع البحر والفضاء، وفوق ناطحات السحاب.
توصيات الدراسة
في إطار ما توصلت إليه الدراسة من نتائج، فقد قدمت عدة مقترحات من شأنها تفعيل دور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحفي، وخاصة من ناحية تطوير المضامين الصحفية الخاصة بما لا يؤثر على مستقبل الصحفيين المهني، وقد جاء في مقدمة هذه التوصيات:
– التوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في كافة المجالات في المؤسسات الإعلامية، والإفادة القصوى منها حيث توفر الوقت والجهد، وتتميز بالسرعة والدقة الفائقة في الأداء.
– ضرورة الاهتمام بإدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي بالشكل المطلوب في المؤسسات الصحفية على اختلاف طبيعة سياستها التحريرية، والاعتماد عليها في جمع وتحرير الأخبار وإخراجها بالشكل المناسب.
– سن تشريعات وقوانين تنظم كيفية الإفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي بالشكل الأمثل بما يخدم العمل الصحفي، ويؤدي إلى تطوير المؤسسة الصحفية بشكل عام.
– عمل دورات تدريبية للعاملين بالمؤسسات الصحفية؛ لتطوير كفاءتهم لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي مع ضرورة التركيز على الدور البشري المتعلق بتفعيل تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
– السعي لتوفير الإمكانيات المادية، وإدخال المزيد من الأجهزة المتطورة وتفعيلها داخل منظومة العمل الصحفي، وتوظيفها بالشكل الأمثل في تطوير المضامين الصحفية للنهوض بالمؤسسة، وجعلها قادرة على منافسة الوسائل الأخرى.
– الاستعانة ببعض الخبرات العلمية المدربة في مجال الذكاء الاصطناعي للعمل بالمؤسسات الإعلامية وتدريب العاملين بها.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنه رغم تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتوظيفها في العمل الصحفي، لكن يبقى الصحفي وحده قادرًا على إعطاء بُعد إنساني لنقل المشاعر في القصص والتحقيقات والتقارير الإخبارية، فلا يمكن للذكاء الاصطناعي فهم تلك المشاعر، حتى لو كان في بعض الأحيان قادرًا على نسخ هذا الأسلوب.
كما أن الذكاء الاصطناعي غير قادر على وضع عناوين للمواد الصحفية وصياغة موضوعات تتضمن توجيه رسائل إلى المجتمع، وهذه إحدى المهام الرئيسة للصحافة، وكذلك عدم قدرة “صحافة الروبوت” على مراعاة الدلالات المختلفة للمفردات اللغوية، لذلك فالمدخل الأكثر ملاءمة هو توظيف التكنولوجيا بما يخدم الصحفي ويسهل عليه أداء مهامه ويجعله أكثر تفرغًا للشق الإبداعي من المهنة، فصحافة الروبوت لن تكون بديلًا بأي حال عن الصحافة التي يمارسها البشر، لأن الصحافة منتج إبداعي تعبيري يحمل رسالة في تشكيل الفكر والثقافة، وليست منتجًا آليًا.