تقارير

تدقيق المحتوى المكتوب والمرئي على منصات التواصل الاجتماعي

بالقدر الذي ساهم فيه التطور التكنولوجي في تسهيل التواصل وتداول المعلومات والبيانات بين الأفراد في شتى أنحاء العالم، ارتبط كذلك بظاهرة سلبية آخذة في التنامي خلال السنوات الأخيرة، ألا وهي انتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة التي يتم من خلالها خداع قطاعات ليست بالقليلة من مستخدمي الإنترنت ورواد مواقع التواصل الاجتماعي.

وعلى خلفية ذلك المشهد وتعقيداته والمخاطر التي تحدق بالأفراد والمجتمعات، تسارعت وتيرة الجهود الأكاديمية والتقنية من أجل التثبت من الحقائق المنشورة سواء كانت نصوصًا أو مواد مرئية، انطلاقًا من واقع يشير إلى أن الوسائط المتعددة باتت تنشر المعلومات بشكل فيروسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، كما تلعب دورًا أساسيًا في الحياة الرقمية للأفراد والمجتمعات الأمر الذي ينعكس على حياتهم في الواقع وإن كان بدرجات متفاوتة.

التمييز بين المعلومات المضللة والخاطئة على منصات التواصل الاجتماعي

تمثل الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة وكيفية مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي إحدى السمات الأساسية للعالم الرقمي، واتجهت بعض الدراسات الأكاديمية إلى التمييز في هذا الإطار بين نوعين من المعلومات وهما “المعلومات الخاطئة-Misinformation” و”المعلومات المضللة- Disinformation”، فقد وجد الباحثون في جامعة “إنديانا” الأمريكية أن هذين النوعين من المعلومات غالبًا ما ينتشران على نطاق واسع، لأن التحميل الزائد للمعلومات وشغف المستخدمين تجاه تلك المعلومات يحدان من قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تمييز المعلومات على أساس الجودة.

ونظرًا لأن وسائل التواصل الاجتماعي هي عبارة عن منصة عامة، يمكن لأي شخص – بما في ذلك المنافذ الإخبارية – نشر أي شيء دون أن يكون مسؤولًا عن تدقيق الحقائق، فالأمر يُترك للمستخدمين للتمييز بين المعلومات الصحيحة والمعلومات المضللة في خلاصاتهم الإخبارية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ما يميز المعلومات المضللة عن  المعلومات الخاطئة هو نية الشخص أو المنفذ الإخباري الذي يشاركها، فالثانية لا يتوفر فيها عنصر التعمد، بعكس المعلومات المضللة التي تتسم بالتعمد.

وتوجد مجموعة متنوعة من الأسباب التي تجعل حسابات وسائل التواصل الاجتماعي سواء الخاصة بالأفراد أو بعض الكيانات تنشر معلومات مضللة، حيث يكون الهدف من تلك الخطوة زيادة حركة المرور عبر المواقع الإلكترونية، أو بناء المزيد من المتابعين لصفحتهم أو أعمالهم، أو التحريض على استجابة عاطفية ما، أو خلق مصدر إلهاء.

الطب الشرعي الرقمي وفحص المحتوى المرئي

وقد أدى نشر أدوات التحرير سهلة الاستخدام التي يمكن الوصول إليها من قبل شرائح واسعة من الجمهور إلى تزايد المخاوف بشأن إمكانية الاعتماد على الوسائط الرقمية، وقد تضخمت تلك المخاوف مؤخرًا من خلال تطوير فئات جديدة من تقنيات الذكاء الاصطناعي القادرة على إنتاج صور ومقاطع فيديو مزيفة عالية الجودة دون الحاجة إلى أي معرفة تقنية من جانب المستخدمين مثل تطبيق “التزييف العميق– Deepfakes”. ولذلك أضحى تطوير أدوات للحفاظ على مصداقية الصور ومقاطع الفيديو التي يتم مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت حاجة ضرورية لم يعد بالإمكان تجاهلها.

وفي هذا الإطار، بحثت عدة دراسات في مجال “الطب الشرعي للوسائط المتعددة -multimedia forensics” أو ما يسمى أيضًا بـ”الطب الشرعي الرقمي- Digital Forensics”، عن طرق لاكتشاف التلاعبات المختلفة وتحديد مصدر تلك الوسائط، إذ سعى المجتمع الأكاديمي إلى توسيع نطاق تحليل الأدلة الجنائية للوسائط المتعددة ليشمل الأنظمة المفتوحة على شبكة الإنترنت، والتي تعد بمثابة بيئة خصبة يتم خلالها استخدام أدوات التحرير للتلاعب وتوليد معلومات مرئية مزيفة، تصاحبها عمليات مشاركة واسعة النطاق عبر قنوات الاتصال على الإنترنت.

ويعني امتداد التحليل الجنائي إلى عالم منصات التواصل الاجتماعي القدرة على مواجهة التحديات التكنولوجية الكبيرة المتعلقة بعملية التحميل والمشاركة للمواد المرئية، وتركزت الجهود الأكاديمية في هذا الإطار على ثلاثة جوانب رئيسية وهي تقنيات الطب الشرعي التي تقوم بتحديد مصدر الوسيط (الصورة أو الفيديو)، ثم التحقق من نزاهة الوسائط التي تم تحميلها على شبكات التواصل الاجتماعي، ودور الخوارزميات في انتشار ذلك المحتوى.

ويمكن أن تمثل القدرة – ولو جزئيًا- على استرجاع المعلومات حول الوسيط الرقمي المتداول من حيث المصدر والتلاعب وعمليات المشاركة، رصيدًا قيمًا يدعم وكالات إنفاذ القانون في تعقب الجناة المسؤولين عن نشر المحتويات المرئية الخادعة، وبشكل عام يساعد في الحفاظ على مصداقية الوسائط الرقمية ومواجهة تأثيرات المعلومات المضللة.

ويمثل استخدام الأساليب القائمة على  “الشبكات العصبية العميقة-A deep neural network” اتجاهًا بحثيًّا واعدًا لتحليل الصور الرقمية، كما تم تطبيق تلك الأساليب مؤخرًا على البيانات المكانية والزمانية مثل مقاطع الفيديو، ومع ذلك فإن هذه الأساليب تعاني من العديد من أوجه القصور، حيث يتطلب استخدامها كميات كبيرة من بيانات التدريب عالية الجودة، والتي تتطلب عادةً مرحلة جمع بيانات تستغرق وقتًا طويلًا.

وعلى الرغم من تكريس الجهود البحثية في هذا المجال بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، فإن التحليل الجنائي لمقاطع الفيديو الرقمية يقع في مرحلة أقل تقدمًا بكثير من الصور الثابتة، وبالتالي يمثل إشكالية كبرى، بالنظر إلى كون مقاطع الفيديو الرقمية تساهم بقوة في الانتشار الفيروسي للمعلومات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت.

ولم تتوقف الجهود البحثية عند حد المحتوى المرئي فقط، بل امتدت لتشمل المحتوى النصي المكتوب، حيث طورت شركة “بايت دانس” التكنولوجية الصينية، نظامًا لمساعدة الكاتب على التحقق من دقة المعلومات الواردة في كتابته، بحيث يفحص النظام النص المكتوب للتأكد من خلوه من أي معلومات خاطئة، وذلك استنادًا إلى قاعدة بيانات تحتوي على معلومات.

وللتغلب على إشكالية قدرة النظام على استيعاب كمية ضخمة من البيانات، يتم جمع المعلومات المكتوبة في النص بشكل آلي، ثم إرسالها إلى خوارزمية الذكاء الاصطناعي، والتي بدورها تقوم بالتحقق أثناء الكتابة.

إطار متعدد الوسائط لمكافحة المحتوى المضلل المركب

تتمثل إحدى الصعوبات الكامنة في عملية تدقيق المحتوى واكتشاف التضليل، أن المحتوى يمكن أن يكون مضللاً بطرق مختلفة، فلا يكون التلاعب بالصور ومقاطع الفيديو فقط أو تصوير محتوى اصطناعي، بل قد يكون المحتوى أصليًّا ولكنه مستخدم في سياق خاطئ أي يرتبط بحدث خاطئ، (نطاق جغرافي أو زمني غير صحيح)، ولهذا السبب، تلجأ معظم أطر مكافحة المحتوى المضلل إلى الاعتماد على أسلوب متعدد الوسائط عند التعامل مع المحتوى المركب وفيه تتم معالجة أنواع مختلفة من المعلومات معًا ويشمل ذلك ما يلي:

“الإشارات المرئية-Visual cues”: تعني المكون المرئي للمحتوى المركب، ومن أمثلة ذلك الصور المرفقة بتغريدة أو بأخبار عبر الإنترنت.

“الإشارات النصية-Textual cues”: أي المكون النصي للمحتوى المركب ويشمل على سبيل المثال نص تغريدة أو الأخبار عبر الإنترنت وكذلك الوسوم والإشارات.

“إشارات الانتشار- Propagation cues”: يقصد بها البيانات الوصفية المتعلقة بتنسيق ونشر المحتوى المركب من خلال منصات التواصل الاجتماعي، مثل عدد ونسبة الصور لكل منشور، وعدد مرات إعادة النشر، وعدد التعليقات.

“إشارات المستخدم- “User cues: هي البيانات الوصفية المتعلقة بالملف الشخصي للمستخدم المرسل، ومن أبرزها عدد الأصدقاء أو المتابعين، تاريخ تدشين الحساب، ومعدل تكرار النشر، توافر المعلومات الشخصية وصورة الملف الشخصي.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التحرير جعل أساليب التلاعب بالوسائط متاحة على نطاق واسع وسهلة الاستخدام من قبل كافة الأشخاص، الأمر الذي فتح المجال أمام فرص غير مسبوقة لتأثيرات المعلومات المضللة المرئية والتي تعد بمثابة عنصر داعم للمعلومات المضللة النصية، وهو ما شكل حافزًا من أجل بذل المزيد من الجهود لتعزيز تقنيات الطب الشرعي الرقمي لفحص تلك المواد المرئية، وأيضًا تعد دافعًا لتفكير المجتمع البحثي في تطوير حلول استباقية وأدوات وقائية لتجنب خطر الوقوع في فخ المعلومات المضللة والإسهام في انتشاره، وذلك عبر تطوير أنظمة تهدف إلى ضمان سلامة النصوص المكتوبة وخلوها من أي معلومات خاطئة، ويبقى نجاح مثل تلك الأنظمة مرهونًا بالقدرة على  التدريب على كمية كبيرة من البيانات لاكتساب الخبرة اللازمة لاكتشاف الخطأ ومن ثم إتاحة الفرصة لتصحيحه.

زر الذهاب إلى الأعلى