يكابد كل من العراق ولبنان حاليًا أزمتين خانقتين أدتا إلى تأجيج الاحتقان والاحتجاجات الشعبية على أوضاع معيشية متردية في ظل تدهور اقتصادي وتردي الخدمات، فبعد سنوات من التغلغل الإيراني عبر دعم الميليشيات المسلحة في البلدين، واستخدام طهران لهما كورقة ضغط في مساوماتها مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي والصاروخي، أصبح العراق ولبنان مهددين بالسقوط في توصيف الدول الفاشلة على وقع الأزمات المتلاحقة التي ضغطت بشكل حاد على المواطنين وأشعلت ثورة غضب تجاه المسؤولين عن تلك الأوضاع.
ويتبلور الموقف الإيراني إزاء العراق ولبنان انطلاقًا من محدد رئيسي هو العلاقة التي تجمع نظام الملالي مع الحكومتين العراقية واللبنانية والاستحقاقات الانتخابية المقبلة، إذ تتراوح الاستراتيجية الإيرانية بين تأجيج وتخفيف الأزمات وفقًا لرؤيتها للوضع الذي يحافظ على مصالحها.
وثمة خطورة يفرضها الوضع المتأزم في العراق ولبنان، الذي لن يؤثر بالسلب فقط على استقرار الشرق الأوسط، بل إن التهديدات الناجمة عن الأزمتين، ومنها منح تنظيم “داعش” الإرهابي فرصة لإعادة تنظيم صفوفه مجددًا بالعراق، وانفجار موجة نزوح كبيرة من لبنان، تشكل خطرًا على أوروبا أيضًا.
تقليص إيران لواردات الطاقة إلى العراق والضغط على الكاظمي
كان لاعتماد العراق على واردات الطاقة من إيران عواقب جيوسياسية ومصدر للتوترات المستمرة مع الولايات المتحدة، حيث استثنت واشنطن تلك الواردات من العقوبات المفروضة على إيران، ولكنها اشترطت على بغداد العمل على أن تصبح أكثر استقلالية في مجال الطاقة، وفقًا لوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية.
وتلبي واردات الغاز والكهرباء من إيران ما يصل إلى ثلث احتياجات العراق من الطاقة، حيث يتم إدخال الغاز إلى العراق من خلال خطي أنابيب يستخدمان لتوليد الطاقة في محطات الكهرباء في البصرة والسماوة والناصرية وديالى.
وتخلفت بغداد عن سداد متأخرات يقدر إجماليها بقيمة 4 مليارات دولار بسبب الأزمة الاقتصادية التي يشهدها العراق، كما أن خطة الدفع المعقدة المصممة للتهرب من العقوبات الأمريكية أدت إلى تباطؤ التحويلات، فلا يمكن للحكومة العراقية دفع الأموال لإيران مباشرة مقابل الواردات، ولكن يمكنها دفع ثمن بضائع وأدوية وغيرها من النفقات المتعلقة بالبعثة الدبلوماسية لطهران والشركات الإيرانية العاملة في العراق، فعلى سبيل المثال قامت بغداد مؤخرًا بشراء لقاحات لطهران.
وحسب تقديرات المحللين، فإن بغداد تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة الإيرانية، خاصة في ذروة أشهر الصيف، حيث تتراوح واردات الغاز من إيران بين 1.5 و1.8 مليار قدم مكعبة في اليوم.
ويعمق من أزمة انقطاع الكهرباء بالعراق، تزايد الهجمات المنسقة التي تستهدف خطوط نقل الكهرباء الرئيسية في البلاد، إذ بلغ عدد الهجمات التي استهدفت تلك الشبكات 35 هجومًا خلال العام الجاري، ولم تقتصر الهجمات على خطوط نقل الطاقة بل شملت محطات توليد الكهرباء.
وقد استغلت إيران الاعتماد العراقي على واردات الطاقة القادمة من طهران كورقة لممارسة ضغوط على حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، إذ خفضت إمداداتها من الغاز إلى بغداد إلى خمسة ملايين متر مكعب في اليوم بعدما كانت تبلغ خمسين مليونًا بسبب عدم دفع ديون مستحقة، ما أدى إلى أزمة في الكهرباء تزامنت مع الطقس الحار – حيث يبلغ متوسط درجات الحرارة حاليًا 50 درجة مئوية – الأمر الذي دفع المحافظات الواقعة في جنوب العراق إلى تقصير ساعات العمل بسبب الحرارة الشديدة.
وتأتي تلك الضغوط في وقت ينتهج فيه الكاظمي سياسة أكثر انفتاحًا على المحيط العربي أخرجت العراق على نحو كبير من العباءة الإيرانية، فيما تربطه علاقة متوترة مع المجموعات المسلحة والميليشيات الموالية لطهران، ترتفع وتيرتها مع اقتراب إجراء الانتخابات التشريعية العراقية المبكرة المقررة في 10 أكتوبر المقبل.
الدعم الإيراني لحزب الله اللبناني في مواجهة الاحتقان الشعبي
وعلى النقيض من الموقف الإيراني من العراق، يأتي دورها في الأزمة اللبنانية الراهنة، حيث سارعت طهران إلى إرسال ناقلات نفط إلى بيروت في 26 يونيو الماضي، وجاءت تلك الخطوة غداة خطاب للأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله قال خلاله إن وعده بالحصول على وقود مجانًا من إيران ما زال قائمًا. ويظهر ذلك الموقف بوضوح رغبة نظام الملالي في تخفيف وطأة الضغوط على حزب الله في ظل تصاعد الغضب الشعبي من الحزب وشركائه الذين قادوا لبنان إلى الهاوية، فلا تزال جهود رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري تراوح مكانها لتشكيل حكومة جديدة خلفًا لحكومة حسان دياب المستقيلة والمستمرة في تصريف الأعمال منذ كارثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي.
وفي ظل تلك الحلقة المفرغة، تتصاعد المخاوف من أن تزداد الأوضاع سوءًا في الأشهر المقبلة، مع انخفاض احتياطيات المصرف المركزي اللبناني، وعدم وجود حل في الأفق للأزمة السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد، ومن مؤشراتها إعلان الحكومة اللبنانية رفع أسعار المحروقات بنسبة تجاوزت 30%، في إطار رفع الدعم جزئياً عن الوقود مع نضوب احتياطي الدولار لدى المصرف المركزي، وانخفاض مخزون الأدوية، وحليب الأطفال في الصيدليات، وتراجع مخزون المستلزمات الطبية في المستشفيات، وفقدان المواد الغذائية المدعومة.
كما أن الجيش اللبناني نفسه لم ينج من تلك الأزمة الخانقة التي دفعته إلى حذف اللحوم من وجبات الطعام التي تقدم للمجندين، وتخفيض راتب الجندي العادي إلى أقل من 100 دولار بعدما كان نحو 800 دولار قبل بدء الأزمة في صيف عام 2019، بل إنه في مسعى لتوفير عائدات مالية للقوات المسلحة، أطلقت القوات الجوية اللبنانية رحلات جوية مخصصة للمدنيين للتجول فوق لبنان على ألا يتجاوز عدد ركاب الرحلة الواحدة التي تبلغ مدتها 15 دقيقة ثلاثة أشخاص، مقابل بدل مادي قيمته 150 دولارًا تدفع نقدًا.
سيناريو حرب أهلية وموجة نزوح تنطلق من لبنان نحو الغرب
ووفقا لمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، فإن حجم التداخل بين القضايا السياسية والاقتصادية في لبنان يشير إلى حجم المخاطر المنتظرة، والتي تستوجب ضرورة تجنب هذا الوضع الكارثي، إذ يرسم تقرير حديث للبنك الدولي صورة صارخة للوضع الراهن بتأكيده أن الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان ربما ستكون الأكثر حدة على مستوى العالم منذ منتصف القرن الـ19، واصفا الوضع بأنه “كساد متعمد”، ملقيًا باللائمة على النخبة الحاكمة.
واستعرض التقرير جملة من المؤشرات والإحصاءات الدالة على ضخامة المشكلة، حيث انخفض إجمالي الناتج المحلي في لبنان بنسبة 40% تقريبًا بين عامي 2018 و2020، وارتفعت البطالة من 28% في فبراير 2020 إلى 40% في ديسمبر من العام ذاته، وواصلت الليرة اللبنانية انهيارها محطمة مستوى قياسيًّا للهبوط في الشهر الماضي، إذ بلغ سعر الدولار الواحد 17 ألف ليرة لبنانية في السوق السوداء، رغم أنه لا يزال مربوطًا رسميًا عند 1500 ليرة. كما انخفضت الواردات السلعية بنسبة 45% حيث أدى التضخم إلى زيادة مخزون العملة المتداولة بنسبة 197%، ونتيجة لذلك يعيش الآن أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر.
كما حذرت منظمة اليونيسيف من أن ما يقرب من 80% من العائلات اللبنانية ليس لديها طعام أو مال لشراء الطعام، بينما وصلت تلك النسبة في أسر اللاجئين السوريين إلى 99%، علما بأنه يوجد في لبنان أكبر عدد من اللاجئين مقارنة بعدد السكان، فهناك ما يقدر بـ 1.5 مليون لاجئ سوري في لبنان البالغ عدد سكانه 6 ملايين نسمة فقط بالإضافة إلى عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين.
ويثار هنا تساؤل مفاده “لماذا يجب أن يهتم العالم بما يحدث في لبنان، على الرغم من كونه بلدًا متوسطيًّا صغيرًا ومضطربًا، والإجابة ببساطة أن لبنان يعد من ركائز الاستقرار في المنطقة، فعلى مدى العقد الماضي كان بمثابة ملاذ آمن للاجئين القادمين من سوريا التي مزقتها الحرب، كما أن لبنان المنقسم بشدة بين الطوائف المتناحرة تزداد توتراته عندما تصبح الحياة أكثر صعوبة مما يثير مخاوف من شبح حرب أهلية، لن تؤدي سوى إلى مزيد من تمزيق المنطقة.
فانهيار لبنان وتفكك الدولة سيؤدي لنزوح جماعي لملايين الأشخاص، وهو ما تترتب عليه تداعيات دولية جسيمة على عالم رفض بالفعل تدفقات النازحين السوريين على مدى السنوات العشر الماضية. وبالتالي فإن تقاعس المجتمع الدولي عن اتخاذ أي إجراء بشأن هذه القضية لن يؤدي فقط إلى استمرار معاناة اللبنانيين، إلى جانب اللاجئين السوريين والفلسطينيين الموجودين على أرضه، بل يسمح بتطور وضع أسوأ بكثير.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن ما يشهده العراق ولبنان من أوضاع معيشية سيئة وانهيار في قدرة الدولة على توفير الخدمات واتخاذ خطوات تنموية، هو نتاج طبيعي لاستنزاف طاقاتهما عبر ميليشيات مسلحة تخوض حروبًا بالوكالة لصالح إيران.
وتمارس طهران استراتيجية تقوم على دعم حلفائها في مواجهة الضغوط الشعبية، كما هو الحال مع حزب الله، في مقابل الضغط على الأطراف السياسية التي تنتهج سياسة مناهضة للهيمنة الإيرانية وهو ما يتجسد في حكومة الكاظمي في العراق.
وأخيرًا، يبقى القول إن العالم لا يمكنه تحمل صدمة انهيار الدولة في كل من العراق ولبنان، ولا التأثير اللاحق لذلك الوضع على الجهود المبذولة لتحقيق استقرار منطقة الشرق الأوسط، لذا لا بد من تحرك دولي فاعل يحشد كافة الجهود لمساندة مؤسسات الدولة الوطنية في كل من العراق ولبنان في تلبية احتياجات ومطالب المواطنين المشروعة، وقطع الطريق على أي محاولات إيرانية لاستغلال تلك الأوضاع الصعبة في البلدين من أجل تحقيق أهداف تخدم المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة.