تقارير

السياسة الأمريكية تعقد الأزمة اليمنية

شغل الملف اليمني مكانة متقدمة في اهتمامات إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن بمنطقة الشرق الأوسط، فمع بداية عهده الرئاسي اتخذ بايدن سلسلة قرارات لإنهاء الحرب في اليمن، لكن تأثيرهاجاء معاكسًا تمامًا للأهداف التي توختها، حيث يشهد الواقع على الأرض تصعيدًا عسكريًّا غير مسبوق، وضحايا أكثر وأزمة إنسانية متفاقمة، لتثير هذه البداية الفاشلة المخاطر بشأن مصير الأزمة الإنسانية الأسوأ على مستوى العالم؛ وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
ومن هذا المنطلق، يرى مراقبون للشأن اليمني وتقديرات مراكز أبحاث غربية أنه إذا كانت الولايات المتحدة جادة في إنهاء الحرب، فعليها أن تغيّر تكتيكاتها على الفور، وتُمارس مزيدًا من الضغط على ميليشيا الحوثي التي ترفض كافة دعوات وقف إطلاق النار، وأيضًا على إيران الداعم الرئيسي للحوثيين.
قراءة أمريكية غير متأنية للمشهد اليمني
ووفقًا للمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، فإن السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط تركزت حول اليمن منذ البداية، ففي أوائل فبراير الماضي أنهت الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية للتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وقامت بتعيين تيموثي ليندركينغ مبعوثًا خاصًّا إلى اليمن، وشطب الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
وفي حين كانت هذه الخطوات – بحسب الرؤية الأمريكية- تهدف إلى تعزيز فرص الحل الدبلوماسي، إلا أن واقع الأمر أنها لم تعكس قراءة متأنية لديناميكيات الحرب سريعة التغير، فقد مثلت عن غير قصد حوافز للحوثيين، إذ رأى العديد من قادة الحوثيين في الخطوات الأمريكية تشجيعًا على توسيع نطاق عملهم العسكري، ما يعني عمليًّا أن القرارات الأمريكية الأخيرة حملت بشكل ضمني دعوة لتوسيع الحرب التي دخلت مؤخرًا عامها السابع.
فبعد ثلاثة أيام فقط من خطاب بايدن حول السياسة الخارجية الأمريكية الذي تطرق فيه للأزمة اليمنية في الرابع من فبراير الماضي، استأنف الحوثيون حملتهم العسكرية على مدينة مأرب، ذات الأهمية الاستراتيجية، وهي آخر معقل شمالي تحت سيطرة القوات الحكومية اليمنية، وأكبر تجمع للنازحين داخليًّا، وهم نحو مليوني يمني فروا من بطش الحوثيين.
وتعد المعارك الدائرة في مأرب واحدة من أعنف المعارك منذ بداية الحرب اليمنية، حيث تقاتل القوات الحكومية اليمنية بمساعدة القبائل المحلية، ودعم جوي من التحالف العربي لصد هذا الهجوم.
واللافت أن قرارات إدارة بايدن لم تشجع على اشتعال القتال في مأرب فقط، بل شهدت تعز، وهي مدينة رئيسية أخرى في وسط اليمن، اشتباكات مسلحة بعد توقف المواجهات العسكرية فيها على مدى ثلاث سنوات.
ويشير المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية إلى أنه بلا شك توجد عوامل محلية وراء تلك التطورات، لكن القرارات الأمريكية قصيرة النظر لعبت دورًا بارزًا في إعادة إشعال الحرب في تعز مع آثار مدمرة، بما في ذلك فقدان المدنيين أرواحهم، وتجنيد المزيد من اليمنيين في دوامة حرب لا نهاية لها.
مراوغات الحوثيين وكارثة محتملة لناقلة النفط صافر
كما أن التصعيد العسكري الأخير أثّر سلبًا على وتيرة المفاوضات حول كارثة بيئية وشيكة بسبب ناقلة صافر النفطية العالقة قبالة سواحل الحديدة، فبعد عدة تأخيرات ومفاوضات مطولة مع الحوثيين، تمكنت الأمم المتحدة في نوفمبر الماضي من التوصل إلى اتفاق يسمح لوحدات الصيانة بدخول الناقلة وتقييم حالتها. وكان من المفترض أن يبدأ الفريق عمله في وقت سابق من الشهر الماضى، إلا أن الحوثيين راوغوا مجددًا بتأجيل تلك الخطوة، كما رفضوا في الوقت ذاته المبادرة السعودية للتسوية في اليمن، والتي تنص على وقف إطلاق النار وافتتاح مطار صنعاء الدولي، وإجراء محادثات للسلام برعاية الأمم المتحدة، في امتداد لموقف الحوثيين المعيق لأي جهد للسلام، إذ سبق وأن رفضوا خطة أمريكية لوقف إطلاق النار على مستوى اليمن، ووقف هجمات الطائرات من دون طيار على الأراضي السعودية.
لم تؤثر قراءة الحوثيين لتغيير السياسات الأمريكية سلبًا على اليمن وحده، بل أيضًا على الديناميكيات الإقليمية، إذ كثف الحوثيون اعتداءاتهم بالطائرات المسيرة المفخخة والصواريخ الباليستية على المملكة العربية السعودية، فمن بين أكثر من 500 هجوم نفذته الميليشيات الحوثية ضد المملكة منذ بداية الحرب، وفقًا لتقديرات التحالف العربي، شنّ الحوثيون عشرات الهجمات منذ أن أصبح بايدن رئيسًا، شملت تلك الهجمات جازان ونجران وأبها وجدة والرياض، وكانت الهجمات الأخيرة على مصافي النفط في مدينتي رأس تنورة والرياض بشرق البلاد.
نحو استراتيجية أمريكية جديدة للتسوية في اليمن
ويرى المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية أنه يتعين على إدارة بايدن تجنب الوقوع في فخ البيانات الدبلوماسية غير المصحوبة بأفعال مفيدة، مشيرًا إلى أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن غريفيث ظل يفعل ذلك منذ عام 2018 دون جدوى، لذلك من الأجدر أن تبني الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة على محورين أساسيين، الأول يتمثل في أن السلام مستحيل دون خلق بيئة مواتية على الأرض، ولن يتحقق هذا عندما يرى الحوثيون الإجراءات الأمريكية على أنها مزيد من التمكين لهم ضد خصومهم، ولذلك فإن صد الهجوم الحوثي على مأرب يعد بداية أساسية، فهو لن يؤدي فقط إلى بناء قناعة لدى الحوثيين بأن الحل العسكري غير فعال، بل سيقودهم إلى المفاوضات، وسيمنع أيضًا حدوث أزمة إنسانية ضخمة، إذ سيؤدي انتصار الحوثيين في مأرب إلى تضخيم قوتهم داخل اليمن مما يجعل السلام بعيد المنال.
أما عن المحور الثاني الذي تشتد الحاجة إليه فهو فصل اليمن عن الملفات الإقليمية التي غرق فيها، فمقاربة إدارة بايدن تربط الملف بمفاوضاتها مع إيران، إلا أن الأجدى هو تبني طريق محلي يساعد في تغيير الجغرافيا السياسية في اليمن، ووضع نهاية جادة للحرب، إذ إن تدويل الصراع يطيل أمده إلى ما لا نهاية، ولعل هذا هو السبب في أن مبادرات وقف إطلاق النار المتكررة لا يكتب لها النجاح.
وفي هذا الإطار، يرى السفير الأمريكي السابق لدى اليمن جيرالد فيرستين أن إدارة الرئيس بايدن يمكن أن تلعب دورًا مهمًّا من خلال التعاون مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن غريفيث في تحريك المسار التفاوضي للتوصل إلى حل سلمي للصراع اليمني وبدء عملية طويلة لإعادة الإعمار.
وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول إن إدارة الرئيس بايدن سعت إلى إحياء المسار السياسي لعملية السلام باليمن خلال الأيام المائة الأولى من ولايته، لكنها لم تعكس فهمًا عميقًا لديناميكيات الصراع، فحتى الآن، أدت سياسة بايدن إلى تكثيف الحرب فقط، دون أن تلوح في الأفق نهاية، وأثبتت أنها ليست سياسة تضع أُسسًا لتسوية الأزمة، لذلك فإن واشنطن بحاجة إلى إعادة صياغة سياستها نحو اليمن، حيث يجب أن تستثمر في جهود الاستقرار من خلال دعم السلطات المحلية، وتعزيز نماذج الحكم الرشيد، فضلاً عن فصل اليمن عن الملفات السياسية الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وفي مقدمتها المسار الخاص بجهود إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.

زر الذهاب إلى الأعلى