تقارير

اتفاق التعاون الاستراتيجي الصيني الإيراني.. رؤية تحليلية

وقعت كل من الصين وإيران في السادس والعشرين من مارس الجاري اتفاقية بعنوان “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، تغطي مجموعة متنوعة من الأنشطة الاقتصادية ومدتها 25 عامًا، في خطوة لاقت احتفاءً كبيرًا من جانب المسؤولين الإيرانيين، وقلقًا في بعض الأوساط الغربية، حيث فسرت الاتفاق على أنه تحدٍ إيراني للعقوبات الأمريكية، وإشارة إلى أن الصين تحل محل النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.
وتأمل طهران عبر تلك الاتفاقية وما تتضمنه من ضخ استثمارات صينية إلى التخفيف من حدة الضغوط الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأمريكية التي نجحت في خنق الاقتصاد الإيراني، وأدت لتراجع الصادرات النفطية التي تشكل مصدر الدخل الأكبر لطهران، في حين تستهدف بكين من وراء الاتفاق الحصول على إمدادات نفطية منتظمة بأسعار منخفضة من إيران، وإدراج الأخيرة في مشروعها التنموي لإحياء طريق الحرير. لكن العديد من المراقبين يرون أن الاتفاق ليس بتلك الدرجة من الخطورة المتصورة لدى بعض الدوائر السياسية الغربية، إذ توجد ثمة مؤشرات عديدة تدل على أنه يحمل دلالة رمزية أكثر من كونه اتفاقًا فعّالًا على المستويين السياسي والاقتصادي.
جذور اتفاق التعاون الاستراتيجي بين بكين وطهران
وترجع جذور اتفاق التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران إلى اقتراح أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته لطهران في عام 2016، لكن المفاوضات سارت ببطء في البداية، إذ كانت إيران قد توصلت للتو إلى اتفاقها النووي لتخفيف العقوبات الاقتصادية مقابل فرض قيود صارمة على أنشطتها البحثية النووية، وبدأت الشركات الأوروبية تتدفق على إيران باستثمارات وعروض لشراكات مشتركة لتطوير حقول الغاز والنفط، لكن هذه الفرص تبخرت بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في مايو 2018، وفرض عقوبات جديدة أدت لهروب الاستثمارات الأوروبية، ما أجبر إيران على النظر شرقًا.
وفي ذلك التوقيت وجه المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي بإحياء المحادثات مع الصين، وعين السياسي المحافظ ورئيس البرلمان الإيراني السابق، علي لاريجاني مبعوثًا خاصًّا لإتمام الاتفاق.
ووفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تعالت أصوات معارضة تشكو من افتقار المفاوضات للشفافية ووصفت الصفقة بأنها بيع لموارد إيران، حيث قامت بمقارنتها بالاتفاقات أحادية الجانب التي أبرمتها الصين مع دول مثل سريلانكا.
وأبدى أنصار هذا التيار مخاوف من الاندفاع نحو الصين في لحظة ضعف اقتصادي وعزلة دولية، مستندين في ذلك إلى أن المشاريع الاستثمارية الصينية أثقلت كاهل العديد من الدول في إفريقيا وآسيا بالديون، ومن أبرز قادة ذلك التيار الرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، الذي وصف في خطاب ألقاه في أواخر يونيو الماضي، اتفاق الشراكة بين إيران والصين بأنه “صفقة سرية مشبوهة”.
وتشير مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، إلى أن المعارضين للشراكة مع الصين ينظرون بقلق بالغ إزاء مرافق الموانئ المقترحة في إيران، ومن بينهم ميناء جاسك الواقع شرق مضيق هرمز، ما سيمنح الصينيين موقعًا استراتيجيًّا في منطقة يمر عبرها الكثير من نفط العالم.
في المقابل، يرى مؤيدو الاتفاق أن على إيران أن تكون براغماتية وتعترف ببروز الصين الاقتصادي المتزايد، ومن هؤلاء علي شريعتي، المحلل الاقتصادي الذي كان حتى وقت قريب عضوًا في غرفة التجارة الإيرانية، حيث أشار إلى أن طهران ظلت لفترة طويلة جدًا في تحالفاتها الاستراتيجية تضع كل البيض في سلة الغرب، دون أن يسفر ذلك عن نتائج، معتبرًا أنه إذا غيرت إيران سياستها ونظرت إلى الشرق، فلن يكون الأمر بهذا السوء.

تباين الرؤى الإيرانية للاتفاق بين الاحتفاء والمعارضة
وفي هذا الإطار، روّج المسؤولون الإيرانيون للاتفاقية مع بكين باعتبارها اختراقًا، إذ وصف حسام الدين أشينا، كبير مستشاري الرئيس الإيراني حسن روحاني، الاتفاقية في تغريدة على حسابه بموقع التدوينات القصيرة “تويتر” بأنها “مثال على الدبلوماسية الناجحة” وتجاوز العزلة، كما اعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة أن الاتفاقية “خارطة طريق” للتعاون التجاري والاقتصادي والنقل، مع التركيز بشكل خاص على القطاع الخاص في البلدين.
لكن الاتفاقية قوبلت – كما هو متوقع- بالانتقادات داخل إيران بأن الحكومة يمكن أن تقدم من خلالها الكثير من التنازلات للصين.
وتشير صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية إلى أن الاتفاق يمكن أن يعمق نفوذ الصين في منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تمثل الشغل الشاغل للولايات المتحدة لعقود، لافتة لغموض الاتفاق، حيث لم تعلن إيران عن تفاصيل الاتفاقية، ولم تقدم الحكومة الصينية أيضًا أي تفاصيل، لكن الخبراء قالوا إنه لم يتغير إلى حد كبير عن مسودة من 18 صفحة حصلت عليها الصحيفة العام الماضي.
وتفصل المسودة 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية في عشرات المجالات، بما في ذلك البنوك والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات على مدى السنوات الـ 25 المقبلة. في المقابل، ستحصل الصين على إمدادات منتظمة من النفط الإيراني بأسعار منخفضة.
ووفقًا لشبكة “سي.إن.بي.سي” الإخبارية الأمريكية، فإن الاتفاق يدخل إيران في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي خطة بنية تحتية بمليارات الدولارات تهدف إلى الامتداد من شرق آسيا إلى أوروبا، ما سيؤدي إلى توسيع النفوذ الاقتصادي والسياسي للصين بشكل كبير وهو أمر يثير المخاوف في الولايات المتحدة.

قيود أمام تنفيذ اتفاق التعاون الصيني الإيراني
ووفقًا لوكالة بلومبرغ الأمريكية، فبالرغم من كل الضجيج الإيراني حول الاتفاقية، فإنها ليست اتفاقية شراكة بقدر ما هي “سند إذني- a promissory note” يتبنى علاقات اقتصادية وسياسية وتجارية أفضل بين البلدين على مدى ربع قرن.
وكانت مراسم الإعلان ذات دلالة في حد ذاتها، حيث وقع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على الاتفاق مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارة أجراها إلى طهران التي كانت إحدى محطات جولة شملت ست دول في الشرق الأوسط (السعودية وتركيا وإيران والإمارات وسلطنة عُمان والبحرين)، ويشير هذا إلى أن بكين تنظر للاتفاق على أنه ذو وزن أقل من الاتفاقات مع دول أخرى كبنجلاديش، فعندما يريد الرئيس الصيني شي جين بينغ الإشارة إلى اهتمامه بتعميق النفوذ الصيني في مكان ما، فإنه يضع توقيعه على الاتفاقات.
كما أن الاتفاقية نفسها تفتقر إلى التفاصيل، فالصين سوف تستثمر في إيران، وطهران بدورها ستزود بكين بالنفط بأسعار منخفضة، لافتة إلى أن مسودة إيرانية للاتفاق تم تسريبها الصيف الماضي كانت غامضة للغاية، لدرجة أنها أدت إلى تكهنات بأن بكين ملتزمة بضخ استثمارات تتراوح ما بين 400 و800 مليار دولار، في قطاعات تشمل البنوك والبنية التحتية والرعاية الصحية وتكنولوجيا المعلومات.
لكن كل هذا يبقى مجرد كلام، ما دام أن إيران لا تزال خاضعة للعقوبات الاقتصادية المتعددة التي فرضتها إدارة ترامب، والتي لم تخفف إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أي منها حتى الآن، ورغم أن بايدن يبدي انفتاحه على التراجع عن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، لكن طهران رفضت جميع شروطه للعودة الأمريكية إلى الاتفاق، في وقت تطالب فيه بكين وهي أحد الموقعين على الاتفاق النووي، واشنطن بالعودة إلى الاتفاق دون أي شروط.
وقالت وكالة بلومبرغ، إنه يمكن تصور أن بايدن سوف يخفف بعض القيود عن الاقتصاد الإيراني كحافز لاستئناف المحادثات النووية، لكن من المرجح أن تظل معظم العقوبات سارية خلال المفاوضات، حيث ستبقى العديد من القيود المفروضة على أساس دعم إيران للإرهاب، حتى لو اتفق الطرفان على المسائل النووية.
وبالنسبة لبكين، هناك أيضًا عوامل جيوسياسية يجب وضعها في الاعتبار عند النظر في مستقبل ذلك الاتفاق، فالرئيس الصيني حريص بلا شك على اكتساب المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط، نظرًا لأهمية المنطقة لتأمين إمدادات بلاده من النفط على المدى الطويل، ولطموحه في إنشاء طريق حرير حديث، لكن الصين كانت مستثمرًا حذرًا دومًا.
وفي ذات الإطار، تضع الشراكة مع إيران بكين في قلب الخلافات الإقليمية، لذا فعلى الأرجح سيوازن الصينيون بين فرص الاستثمار في إيران وانعكاسات ذلك على العلاقة مع القوى الإقليمية الأخرى.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن المضي قُدمًا في اتفاق التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران بحسب التسريبات المنشورة عن بنوده الغامضة، لن تكون مسألة سهلة على الإطلاق نتيجة لاعتبارات تتعلق بالسياق الدولي والإقليمي، لذلك على الأرجح لن يتجاوز هذا الاتفاق حدود رمزيته السياسية.

زر الذهاب إلى الأعلى