دراسات

أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل.. قراءات

قبل 17 عامًا صدر كتاب “أمريكا التي تعلمنا الديمقراطية والعدل” للدكتور فهد العرابي الحارثي، والذي يتمحور حول فكرة مركزية تتعلق بتحليل السلوك الأمريكي ومدى ارتباطه بالقيم المتصلة بحقوق الإنسان والديمقراطية، التي تُنصب الولايات المتحدة نفسها الحارس الأمين على تطبيقها في شتى أنحاء المعمورة، كاشفًا عن إشكالية واضحة هنا تتعلق بنظرة الولايات المتحدة إلى منجزها الثقافي على أنه الأمثل والأنجع، وسعيها إلى فرضه بالقوة على الغير، رغم أن ذلك السلوك يتعارض في جوهره مع منطق الديمقراطية ذاتها.
وقد عمد الكتاب لتشريح تلك الإشكالية إلى مجموعة من المستويات، أولها الاعتقاد الأمريكي بأن قيم العدل والحرية والديمقراطية قيم أمريكية خالصة، وأن باقي الثقافات الأخرى ليست على شيء منها، وإن كانت لديها قدر من تلك القيم فهي لا ترقى إلى مستوى الفهم والممارسة الأمريكية، وهو ما يعكس حالة من الاستعلاء القومي والثقافي التي تتسم بها الولايات المتحدة. أما المستوى الثاني فيتمثل في اتجاه الولايات المتحدة لإعادة صياغة وترتيب أوضاع العالم وفق نموذجها الخاص، وتحديدًا عبر تصورها الخاص للعولمة- التي تُعتبر في الواقع “أمركة”-، بينما يتصل المستوى الثالث بالتحركات العسكرية الأمريكية، التي لم يكن يومًا ما هدفها نشر الديمقراطية أو تعميم العدل أو دعم الحرية، بل تحكمها دائما مصالح واشنطن السياسية والاقتصادية ولا شيء غيرها.
ويعتبر كتاب الدكتور فهد العرابي الحارثي، كتابًا موسوعيًّا يحمل بين دفتيه قراءة تحليلية تقدم رؤية تأسيسية لفهم السياسة الأمريكية ومنطلقاتها، كاشفًا لازدواجيتها وتناقضاتها، عبر رحلة تمتد بين التاريخ والواقع تنعكس في عرض سلسل وواضح للأفكار التي تثير شغف واهتمام القارئ للانتقال بين صفحاته التي تخطت الـ480 صفحة دون أن تفتر همته، كما يثري معارفه بالمعلومات الموثقة.
أحداث 11 سبتمبر تحيي عقيدة الهيمنة الأمريكية.. وتطلق السياسة الانفرادية
اتخذ الكتاب من أحداث 11 سبتمبر 2001، نقطة انطلاق في تحليل السياسة الأمريكية وحركتها على المسرح الدولي، باعتبار أن تلك الأحداث جعلت المناخ مهيأ لإحياء عقيدة “جديدة- قديمة” عند الأمريكيين مبنية على تصور لا يقبل بأن تكون الولايات المتحدة في موقع أقل من موقع القوة المهيمنة على مقدرات الكوكب، وذلك بعد إنهاء المنافسين المحتملين أو إضعافهم أو إقصائهم وجعلهم كباقي العالم تابعين لها، لتصبح أمريكا المرشد والمُعلِّم والوصي، وفي الوقت نفسه الشرطي الذي يشهر عصاه الغليظة بكل اعتزاز لمعاقبة من يخرج عن إرادته أو لا يلتزم بما يسنه من أنظمة وقوانين أو ما يصدره من تعليمات وأوامر، فلم تعد هناك حاجة إلى مؤسسات عقيمة بليدة مثل الأمم المتحدة أو أي منظمات أخرى دولية أو إقليمية، كما تحولت العولمة إلى تعميق “الأمركة” وأداة أساسية في تنفيذ مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم.
واستعرض الكتاب الانعكاسات المباشرة لأحداث 11 سبتمبر على السياسة الخارجية الأمريكية، إذ إنها كرست نهج السياسة الانفرادية الأمريكية في تقويم الأحداث والتعامل معها والتصرف حيالها، وباتت واشنطن على قناعة بأن مصالحها لن تكتمل إلا بفرض رؤيتها الخاصة على الجميع دون الحاجة إلى التعاون مع دول العالم الأخرى سواء المتنافسة معها كالصين وروسيا أو الحليفة لها كالاتحاد الأوروبي واليابان، فهي تحدد الأهداف والاستراتيجيات المطلوب تحقيقها خلال مرحلة ما، ثم تنطلق خارجيًّا لتطبيقها دون أي اهتمام بالمعارضات أو الامتعاضات التي تبديها الدول الأخرى.
ومن الأمثلة على السياسة الانفرادية الأمريكية، رفضُ الولايات المتحدة الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية لما قد تُجر إليه من محاكمات للأمريكيين الذين اقترفوا جرائم ضد الإنسانية حول العالم، وتبقى المنطقة العربية الساحة الأكثر إبرازًا لفجاجة السياسة الأمريكية الانفرادية التي تحيد أي طرف يريد التدخل في قضية الشرق الأوسط (الصراع الفلسطيني الإسرائيلي) سواء كانت هيئات مثل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أو دولًا مثل فرنسا وروسيا.
أمريكا تقنن مصادرة الحريات على أراضيها.. وتضع العالم تحت الأحكام العرفية
ويلفت الكتاب إلى ظاهرة نشأت بعد أحداث 11 سبتمبر سماها بـ”ظاهرة عولمة الأمن المقاوم للإرهاب”، إذ وجدت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع مواجهة أعدائها من أهل الإرهاب إلا ببناء ائتلاف دولي عريض، لكن في ضوء ضوابط محددة، ومنها أن تتحكم في الائتلاف وتديره وتوجهه، الأمر الذي يؤكد النزعة الدائمة لتكون شرطي العالم.
والجدير بالذكر هنا أن التعاطف الشديد الذي أحيطت به الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر لم يمكنها من إعلان حربها العالمية على الإرهاب فحسب، بل مكنها أيضًا من أن تقود هذه الحرب وتصنع خططها واستراتيجيتها، فضلًا عن أخذها الحق لنفسها بالانفراد بتعريف الإرهاب وتحديد من هم الإرهابيون، واختيار زمان ومكان مواجهتهم، ما أدى إلى تنامي ظاهرة عسكرة الحياة الإنسانية، التي تعني تقديم مطلب الأمن على سائر المطالب، وبالتالي اتخذت ذلك ذريعة لقمع الحريات العامة واختراق الخصوصيات بالتنصت والتجسس، والتجاوز على مبادئ حقوق الإنسان والتسامح في استخدام العنف ضد الفئات الاجتماعية المهمشة والتمييز العنصري ضد بعض الشعوب، بل إن الولايات المتحدة أعلنت الأحكام العرفية على مستوى العالم، إذ قررت أن باستطاعة السلطات الأمريكية محاكمة أي مواطن في أي دولة من دول العالم بتهمة الإرهاب في محكمة عسكرية وسرية.
ويشير الكاتب إلى أن ذلك الوضع ترجم داخليًا عبر تقنين تلك الإجراءات الاستثنائية، حيث صدر “قانون باتريوت- ACT USA Patriot” الذي وسع صلاحيات السلطات الفيدرالية في أعمال التنصت والتفتيش والاحتجاز دون اتهام، وأباح فحص سجلات الأفراد دون إذنهم، وتجميد أموالهم وترحيل المشتبه فيهم، واستكمل ذلك القانون بسلسلة من القرارات التنفيذية الخاصة بتأجيل تنفيذ أحكام القضاء، والامتناع عن نشر بيانات المعتقلين، وإنشاء المحاكم العسكرية.
وبذلك ضربت الولايات المتحدة بدستورها عرض الحائط بعد أحداث 11 سبتمبر، وقننت انتهاك حقوق الإنسان، وصادرت الحريات بشكل رسمي، وتحت ستار الحرب على الإرهاب انتهكت أمريكا حرمة الجامعات أيضًا، حيث كثفت السلطات الفيدرالية تعاونها مع شرطة الجامعات مما أدى إلى تجدد المخاوف على الحريات الطلابية والأكاديمية، كما تعرض المسلمون في أمريكا إلى حوادث تمييز في المؤسسات والمطارات.
المبالغة والتزييف في تقارير الاستخبارات لخدمة السياسة الأمريكية
ويسلط الكتاب الضوء على مسألة في غاية الأهمية ألا وهي المبالغات الكبيرة في التقارير الاستخباراتية الأمريكية والتي تأتي من أجل خدمة أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، ولعل الحرب على العراق عام 2003 خير شاهد على ذلك، عبر التقارير الأمريكية والبريطانية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل في العراق، وعلاقة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بتنظيم القاعدة، إذ سرعان ما اتضح للعالم بأسره حجم المبالغات في مسألة أسلحة الدمار الشامل، وأن كل ما قالته الحكومتان الأمريكية والبريطانية لم يكن صحيحًا.
وقدم الكتاب تحليلًا وافيًا للأسباب والدوافع التي جعلت الولايات المتحدة تتخذ قرار الحرب على العراق، والتي عكست رغبة جامحة في السيطرة على الثروة النفطية، واستشهد الكتاب في هذا السياق بما قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بأن الفظائع الإرهابية في سبتمبر 2001 وفرت للولايات المتحدة ذريعة للتسريع في تنفيذ الخطط التي كانت طويلة الأمد، وهي خطط الهيمنة التي تعد الثروة النفطية العظمى للعراق نقطة مفصلية فيها، كون بغداد مكونًا مركزيًّا من مكونات مصادر النفط في الخليج العربي، لافتًا إلى أن العراق لا يمثل إلا حلقة ضمن المخطط الأمريكي الهادف لإعادة تشكيل المنطقة برمتها بدعوى نشر قيم الديمقراطية داخلها.
ويعد الاقتصاد من الحيوية والأهمية بمكان في ضمان القوة وحمايتها ودعمها وهو مسألة مصيرية يتوقف عليها مستقبل الولايات المتحدة كله، من حيث تأكيد استمرار القوة المنفردة، والاستئثار بكل المقومات الأساسية للهيمنة، لذلك يعد التدخل من أجل الاستحواذ على المواد الخام جزءًا أصيلًا في السياسات الأمريكية، وهو ما أكده المؤرخ الأمريكي ريتشارد إيميرمان بأن القوة والأمن الأمريكيين يعتمدان بشكل أساسي على الحصول على المواد الأولية من العالم، وبالتدخل في أسواقه الداخلية، وبالأخص في دول العالم الثالث التي يجب أن تبقيها الولايات المتحدة تحت السيطرة الشديدة.
ويشير الكتاب إلى أن الوجود الأمريكي في المنطقة والمساعي للتحكم في منابع النفط يوفر ذلك دعمًا مستمرًّا للاقتصاد الأمريكي، ومصدر قوة لواشنطن على مستوى العالم، فمن خلاله يكون بإمكانها أن تحدد الأحجام المقبولة للمنافسين مثل الصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا، لأن من المصلحة الاستراتيجية الأمريكية أن يبقى جميع هؤلاء في متناول يدها وليس من سبيل إلى ذلك أفضل من البترول الذي يمثل عصب الحياة والمفتاح السحري لمستقبل أكثر قوة، والولايات المتحدة حريصة على إعادة ترتيب أوراق الحالة الاقتصادية في العالم بما يخدم اقتصادها، وتدرك أن النظام الاقتصادي العالمي متعدد القطبية ليس في صالحها، وترى أن الاتحاد الأوروبي والصين واليابان ما زالوا يشكلون مزاحمة لها على مستوى التفرد الاقتصادي.
التدخل بذريعة نشر الديمقراطية في مناطق.. ودعم الاستبداد في أخرى
لقد أفرد الكتاب مساحة كبيرة لسرد وقائع تاريخية توثق بالأدلة القاطعة حقيقة أن الولايات المتحدة منذ نشأتها لم تكن أبدًا حسنة السمعة أو ذات تاريخ نظيف فيما يتعلق بمنافسيها، فهي لم تكن تشغل بالها بالسيطرة على بلدان منفردة وإنما كانت تأخذ الأقاليم بـ”الحزمة”، وهو السلوك الذي دأبت عليه منذ أن فرغت من ترتيب أوضاعها الداخلية فوق ترابها الوطني في النصف الثاني من القرن الـ19.
لقد اتخذت الولايات المتحدة من الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ذريعة للتدخل في أمريكا اللاتينية، في حين أنها كانت تهدف إلى توسيع دائرة الأسواق المفتوحة أمامها، ويشهد على ذلك أن التدخلات لم تفعل أكثر من دعم أو تنصيب من كانوا من أشهر منتهكي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في تلك المنطقة، فهي لم تتردد في زرع بعض الديكتاتوريات إذا تطلبت مصالحها ذلك، لتدير بهذه الطريقة ظهرها لكل القيم التي تنادي بها، وتزعم أنها تعمل على ترسيخها في العالم، ومن أمثلة ذلك ما حدث في تشيلي، حيث دعمت الديكتاتور أوغستو بينوشيه.
أما في أوروبا، لم يكن موقف الولايات المتحدة محايدًا في الحرب العالمية الأولى لأن نتائج الحرب كانت ستحسم مستقبل القرن العشرين كله، فقد كانت تلك الحرب والتدمير المتبادل بين الدول الأوروبية بمثابة منجم ذهب للولايات المتحدة التي لم تسرع للتدخل سوى في أواخر الحرب عام 1917، فكان كل ما يهمها منع حدوث انتصار ألماني يصنع على الساحة إمبراطورية جديدة في عنفوان شبابها، وفي الحرب العالمية الثانية دخلت الولايات المتحدة الحرب متأخرة أيضًا، إذ إنها لم تتدخل مباشرة ضد هتلر إلا في عام 1944، فدخلت الحرب لكي تقطف ثمار النصر بأقل تكاليف ممكنة، مع عدم إضاعة الفرصة التي تمكنها من صياغة نظام عالمي جديد يخدم مصالحها.
واللافت أن الولايات المتحدة سعت لإخفاء شبهة الهيمنة عبر إنشاء مجموعة من المنظمات التي تعمل على بسط نفوذها في المجال الاقتصادي، إذ أسست هيئات دولية عبر نظام بروتن وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) التي تحولت لأذرع للسياسة الأمريكية، تفرض من خلاله على العالم معايير اقتصادية تكفل بتعميم النموذج الرأسمالي.
وبموازاة ذلك، فقد سعت الولايات المتحدة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى فرض نفوذها وهيمنتها على المستعمرات السابقة في آسيا وأفريقيا، حيث تحاول استغلال النفط والمعادن النفيسة والمواد الخام في تلك البلدان، وليس من المستغرب سقوط المئات من القتلى والمصابين في حروب تم إشعالها في القارة الأفريقية عبر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه”، بينما كان الهدف المعلن دائمًا هو تعميم الليبرالية الاقتصادية وقيم السوق والديمقراطية.
وربما اتخذ الوضع في آسيا مظهرًا مختلفًا، حيث كان للولايات المتحدة بعض الغزوات التي تمثلت في أنواع من الاحتلال العسكري أو دعم أنظمة ديكتاتورية وإسقاط أنظمة وطنية، ما تؤكده تجارب فيتنام وتايوان والفلبين وإندونيسيا واليابان وباكستان.
التحكم في الأمم المتحدة وتحديد أطر حركتها.. وإلغاؤها كما في حرب العراق
توقف الكتاب في أكثر من موضع بين جنباته إلى هيمنة الولايات المتحدة على المنظمات والمؤسسات الدولية وفي صدارتها الأمم المتحدة التي وصفها بأنها فكرة أمريكية خالصة لم يكن الغرض منها سوى استخدام الغطاء الدولي وسيلة لتحقيق أغراض الأمن القومي الأمريكي، واستند في مسار البرهنة على تلك الفكرة إلى ما ذكره الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي في أحد مؤلفاته بأن المنظمة تُستغل من خلال استخدام الترهيب والتهديدات وحق النقض “الفيتو”، كما أنها تُستغل أيضًا في تشريع تحركات أمريكا وتشكيل الائتلافات وفرض العقوبات، وعندما يتصدى الرأي العام العالمي للولايات المتحدة فإنها تعامل المنظمة باحتقار كبير.
ويعود الكتاب من جديد إلى المسألة العراقية التي كانت بمثابة خيط ناظم يصل بين محاوره، مشيرا إلى أنها أوصلت الأمم المتحدة إلى أقصى مستوى دراماتيكي في تاريخها كله، فقد ألغت الولايات المتحدة المنظمة تماما في ذلك الملف، ولم تستطع المنظمة التفوه بكلمة واحدة والقوة الأعظم تغادر طاولة الاجتماعات في مارس 2003 وتتجه إلى الحرب.
ويخلص ذلك إلى أن الولايات المتحدة أصبحت صاحبة الكلمة النهائية في مصير المنظمة، فهي التي تستطيع أن تمنحها الهامش الذي يمكنها أن تتحرك فيه، والقادرة على تعطيلها وإلغاء أثرها وإحراجها كلما رأت أو استشعرت أنها تعرقل من انطلاقها أو تقف حجر عثرة في الطريق نحو أهدافها وتحقيق غاياتها حتى لو كانت غير مطابقة للقوانين والأعراف الدولية. كما نوه بأن الولايات المتحدة ترفض دومًا العمل الجماعي وتربط المشاركة الاستثنائية بشرطين أولهما أن تتم المشاركة تحت قيادة أمريكية وثانيهما أن تحقق الولايات المتحدة أقصى فائدة ممكنة.
الحرب الاستباقية والسيطرة الإمبراطورية على العالم
وتطرق الكتاب إلى فكرة الحرب في الاستراتيجية الأمريكية والتحولات التي طرأت عليها، بالتركيز على مفهوم الحرب الاستباقية الذي طرحه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن وصاغه في وثيقة استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة التي تعطي واشنطن الحق في المبادرة بالاعتداء لمنع أي تهديد لأمنها، وهو ما يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة التي تسمح باستخدام القوة العسكرية فقط للدفاع عن النفس في حالة وقوع هجوم عسكري ضد إحدى الدول الأعضاء في المنظمة، وهكذا فإن الولايات المتحدة بموجب تلك الوثيقة ستتحرك لضرب أي تهديد محتمل للأمن الأمريكي دون انتظار لتبلور هذا التهديد بالفعل.
وهكذا تشكلت السياسات الدفاعية التي تقوم على الحروب الاستباقية، وأصبح من المقبول لدى الرأي العام الأمريكي خصوصًا التفكير في إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب وتنظيم الأولويات فيها، ومن ذلك مراجعة مستقبل بعض الحلفاء الاستراتيجيين، لكن تبقى المصالح الأمريكية في المنطقة تتمثل في 3 مصالح أساسية وهي: منع أي قوة أخرى من السيطرة عليها، واستمرار ضمان الحصول على البترول بأسعار معقولة، وحماية إسرائيل.
ويشير الكتاب إلى أن تحول أمريكا من جمهورية ديمقراطية إلى إمبراطورية شرسة مستبدة تسعى إلى السيطرة على العالم ليست تهمة توجه إليها من الخارج، بل إن ذلك الواقع بات يلحظه الأمريكيون داخل الولايات المتحدة ذاتها، حيث تبلور تيار فكري داخل الثقافة السياسية الأمريكية يتهم الولايات المتحدة بالتحول من جمهورية ديمقراطية تناصر حق الشعوب في تقرير مصيرها إلى إمبراطورية تعتمد استعمال القوة العسكرية في سبيل السيطرة على العالم، فهي لا تتردد في استخدام القوة بدلا من الدبلوماسية العاقلة القائمة على التعاون والاحترام المتبادلين لحل المشكلات المستعصية حلًّا عادلًا وسلميًّا.
فظائع الاستعمار والقتل.. الوجه الآخر المغيب للتاريخ الأمريكي
من جهة أخرى، تعتقد أمريكا أن دورها في هذا العالم هو دائمًا دور المنقذ المخلص، فهي تحكم البلدان التي لا تستطيع حكم نفسها وتقود العالم كله إلى ما فيه خيرها وصلاحها، ولا تعدُّ كل ما خاضته من حروب أو غزوات عسكرية نوعًا من الاستعمار المعروف تاريخيًّا، بل إن الأمريكيين أقنعوا أنفسهم والعالم بأسره بأن تاريخهم لا يتضمن سجلًّا استعماريًّا كبقية الدول الاستعمارية الأخرى، زاعمين أنهم لم ينتهكوا الحريات وأن حروبهم كانت دائما لخير البشرية!
ويسلط الكتاب الضوء على حقائق تاريخية تدحض هذا الوهم الأمريكي المحض، فالولايات المتحدة دخلت الحرب ضد المكسيك واحتلتها ثم اقتطعت حوالي نصف أراضيها (ولايتا كاليفورنيا وأريزونا حاليًا)، كما احتلت بورتوريكو وجزر هاواي وضمتها إليها، واحتلت دولًا عديدة في مناطق متفرقة في العالم لمدد متفاوتة مثل كوبا وهندوراس وبنما والفلبين.
كما ارتكبت الولايات المتحدة فظاعات طويلة من القتل والتعذيب في الداخل والخارج، فالتاريخ في القرنين الـ18 و19 في الأساس هو تاريخ القضاء على الهنود الحمر، حيث استخدم الأمريكيون أكثر الطرق بشاعة لإبادة سكان البلاد الأصليين ومنها نشر مرض الجدري بين قبائل الهنود الحمر، ما أودى بحياة أكثر من 100 ألف طفل وشيخ وامرأة، فضلًا عن التمثيل بجثث القتلى، وقد كان الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون من عشاق التمثيل بالجثث.
إن سجل الولايات المتحدة بحق الإثنيات والعرقيات سجل مخز، ومن ذلك العبودية البشعة التي عانى منها الأمريكيون الأفارقة أثناء تجارة الرقيق، واستمرار سياسات التمييز العنصري المعززة بالقانون حتى أواسط الستينيات من القرن الماضي.
كما امتدت تلك الجرائم الشنيعة إلى خارج الحدود الأمريكية على الرغم من الشعارات البراقة عن نشر الحريات، وهو ما حدث في قصف مدينتي هيروشيما ونجازاكي في اليابان بالقنبلة الذرية في أغسطس عام 1945، وفي فيتنام التي فقدت أكثر من مليون نسمة في الغزو الأمريكي لأراضيها، وقد كانت أعظم غنائم المحاربين الأمريكيين هي التذكارات التي يجمعونها من جثث الضحايا مثل الجماجم وفروات الرؤوس والأذن.
وينوه الكتاب إلى أن أمريكا دعمت أنظمة نكلت بخصومها أسوأ تنكيل وارتكبت مجازر وحشية في حق مواطنيها، إذ اعتبرت أن الفاشية شبه متوافقة مع المصالح الاقتصادية الأمريكية بما يعني توافقها مع المفهوم الأمريكي للديمقراطية، فالفاشيون كانوا العامل الأقوى في الضغط على البلاشفة ومواجهتهم، ولذا وصف الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت الزعيم الإيطالي موسوليني بـ”الجنتلمان الإيطالي اللطيف”، كما ساندت واشنطن الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو أثناء حكمه لإسبانيا، وتورطت بشكل مباشر في رعاية حركة طالبان ضد نفوذ القوى الإقليمية بتلك المنطقة لتحقيق مصالحها، ولم تضع في حسبانها آنذاك أي وزن لاعتبارات تتعلق بممارسات طالبان وحقوق الإنسان في أفغانستان والتي كانت من أساسيات الخطاب الأمريكي الممهد للحرب على أفغانستان عام 2002.
وأخيرًا.. يظهر العرض السابق مدى التناقض الصارخ بين الخطاب الأمريكي العام المستند إلى القيم، والممارسة السياسية المتجردة تمامًا منها سواء في الداخل أو الخارج، فالسيطرة والهيمنة على الموارد الاقتصادية وقيادة زمام العالم هدف رئيسي في الاستراتيجية الأمريكية لا يتم الحياد عنه حتى ولو كان تحقيقه على حساب أرواح ملايين البشر أو يعصف بالشعوب إلى دوائر التناحر والاقتتال.

زر الذهاب إلى الأعلى