تقارير

التراشق الإيراني التركي في العراق

شهدت العلاقات التركية الإيرانية توترات متصاعدة خلال الأيام القليلة الماضية على خلفية مساعي أنقرة لشن حملة عسكرية لطرد المسلحين الأكراد من منطقة سنجار شمال العراق، إذ تتمتع تلك المنطقة بأهمية استراتيجية، وتُعد محورًا للصراع على النفوذ بين أنقرة وطهران في مدينة الموصل الغنية بالنفط.
وأشعلت تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الشرارة الأولى التي أطلقت حربًا كلامية مع تركيا، حين أعرب ظريف عن رفض طهران الوجود العسكري لتركيا في سوريا والعراق، واصفًا سياسات أنقرة تجاه دمشق وبغداد بالخاطئة، وترافقت تلك الانتقادات اللاذعة مع تحركات ميدانية للميليشيات العراقية الموالية لإيران في سنجار تحسبًا لهجوم تركي.
واتخذت التوترات بين أنقرة وطهران منحى أكثر وضوحًا حينما تبادل الطرفان استدعاء السفيرين، عقب تراشق دبلوماسي بين السفير الإيراني ونظيره التركي لدى العراق، والمفارقة المثيرة أن كُلًّا منهما ادعى في هجومه على الآخر حرصًا على وحدة وسيادة العراق.
استدعاء السفيرين وتبادل الاتهامات بين أنقرة وطهران
ففي العاشر من فبراير الماضي، بدأت تركيا توغلًا عسكريًّا في منطقة غارا الجبلية في شمال العراق في عملية أطلقت عليها عملية “مخلب النسر-2″، لكنها انتهت سريعًا بعد أربعة أيام فقط، حينما أعلنت وزارة الدفاع التركية مقتل 13 تركيًّا كانوا محتجزين لدى حزب العمال الكردستاني، وإثر ذلك تعهّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتوسيع العمليات ضد الحزب.
ودفعت تلك التطورات السفير الإيراني لدى بغداد إيرج مسجدي للتحذير بأن على القوات التركية ألا تشكّل تهديدًا أو تنتهك الأراضي العراقية، قائلًا إن بلاده لا تقبل إطلاقًا أن تتدخل تركيا أو أي دولة أخرى في العراق عسكريًّا، أو أن تتقدّم وتحظى بوجود عسكري في العراق”، متسائلًا: “ما علاقة سنجار بتركيا؟ على العراقيين حل المسألة بأنفسهم”.
من جانبه سارع السفير التركي لدى بغداد فاتح يلدز للرد قائلًا في تغريدة على حسابه بموقع التدوينات القصيرة تويتر: إن نظيره الإيراني “آخر شخص يحق له إعطاء تركيا دروسًا” بشأن احترام حدود العراق.
وعلى الفور استدعى مسؤولون في الخارجية التركية السفير الإيراني محمد فرازمند لإبلاغه باحتجاج تركيا، وأنها تتوقع من إيران أن تقف إلى جانبها في “الحرب على الإرهاب”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة جماعة إرهابية، بينما اتهم وزير الداخلية التركي سليمان صويلو إيران بإيواء عناصر من حزب العمال الكردستاني على أراضيها.
وأثارت تلك المواقف التركية حفيظة وزارة الخارجية الإيرانية التي استدعت بدورها السفير التركي في طهران، دريا أورس، وأبلغته احتجاجها الرسمي، واصفة تصريح صويلو بـ”غير المقبول”، وتصريح السفير التركي لدى العراق بـ”غير المبرر”.
استنفار عسكري للميليشيات الموالية لإيران في سنجار
وانعكست الحرب الكلامية بين أنقرة وطهران، على تحركات عسكرية ميدانية في العراق، فبينما كانت تركيا تستهدف معسكرات حزب العمال الكردستاني في منطقة غارا ، نشرت ميليشيا الحشد الشعبي العراقية المدعومة من إيران ثلاثة ألوية في مدينة سنجار، التي تقع إلى الغرب من الموصل على طول الحدود السورية.
وأصدرت عدة وحدات من الحشد الشعبي وميليشيات أخرى – بما في ذلك منظمة بدر وعصائب أهل الحق وأصحاب الكهف – بيانات تتعهد فيها بالدفاع عن سنجار ضد الغزو التركي، وانتشر 10 آلاف عنصر إضافي من الميليشيات، بمن فيهم مقاتلون من عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله في سنجار في الأسابيع الأخيرة، بحسب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.
وهكذا بدا شمال العراق ساحةً للتنافس والصراع المكشوف بين تركيا وإيران على النفوذ والسيطرة، فبينما تتخذ أنقرة من وجود حزب العمال الكردستاني في سنجار ذريعةً لتوغلها في الأراضي العراقية بدعوى حماية الأمن القومي التركي من خطر الإرهاب، إلا أن حساباتها تذهب أبعد من ذلك وتحديدًا إلى الموصل الغنية بالنفط. أما إيران فتتذرع بالحاجة إلى منع إحياء تنظيم “داعش” الإرهابي، لكنها أيضًا لديها أطماعها وحساباتها الأوسع.
أطماع أردوغانية عثمانية.. ونفوذ عسكري لحلفاء إيران
تعتبر الموصل محط أطماع تاريخية لدى الحكومات التركية المتعاقبة، فقد خسر العثمانيون ولاية الموصل لصالح البريطانيين في عام 1918 عندما واجهت الإمبراطورية العثمانية هزيمة كارثية في الحرب العالمية الأولى، وبعد عامين ظهرت الموصل داخل الحدود الوطنية المستهدفة من قِبل تركيا، لكنها تخلت عن المطالبة بها بتوقيع معاهدة أنقرة عام 1926 (وقعتها تركيا مع بريطانيا والمملكة العراقية لتسوية نزاعها معهما بشأن السيادة على الموصل) مقابل تدفق 10% من عائدات النفط في الموصل إلى خزائن تركيا على مدار 25 عامًا، إلا أن تلك الصفحة طويت في عام 1986 عندما ألغى رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال متأخرات عراقية في لفتة للتودد إلى الرئيس العراقي صدام حسين.
وعادت تلك الأطماع لتبرز بقوة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث تعمد مرارًا وتكرارًا التشكيك في المعاهدات التي أدت إلى تفكك الإمبراطورية العثمانية وتثبيت الحدود الحالية لتركيا، فحزب أردوغان يميل إلى النظر نحو الموصل في الإطار الإداري العثماني باعتبارها ولاية الموصل التي تتألف من مناطق الموصل وكركوك والسليمانية، وفقًا لموقع “المونيتور” الأمريكي.
وقد سعى حزب العدالة والتنمية عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لتوسيع النفوذ التركي وكبح نفوذ إيران في الموصل من خلال تعزيز العلاقات التجارية مع كردستان العراق، وإقامة روابط مع التركمان عبر الجبهة التركمانية العراقية ومع شخصيات من العرب السنة مثل محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي.
وفي عام 2014 بينما كان أهالي الموصل يفرون منها هربًا من تنظيم “داعش” الإرهابي، وصف قادة حزب العدالة والتنمية مقاتلي داعش بأنهم شباب غاضبون يثورون على السياسات الطائفية للحكومة العراقية الموالية لطهران، ولكن سرعان ما سقطت القنصلية التركية في الموصل في قبضة داعش واحتجز عناصر التنظيم 49 شخصًا بينهم القنصل رهائن لأكثر من ثلاثة أشهر.
وسعت أنقرة إلى إحياء نفوذها في الموصل، من خلال قيام القوات التركية المتمركزة في معسكر بعشيقة بالقرب من الموصل بتدريب ميليشيا الحشد الوطني بقيادة أثيل النيجفي، كي يشارك الفصيل في تحرير المدينة، وأبدت أنقرة معارضةً قويةً لمشاركة وحدات الحشد الشعبي في الهجوم، إلا أن خطة تركيا لكسب النفوذ عبر الحشد الوطني لم تؤت ثمارها.
وتحاول تركيا حاليًا الوجود في المنطقة عبر الهيئات العامة المشاركة في العمل الإنساني، إذ لم تتلق حتى الآن موافقة بغداد على إعادة افتتاح قنصليتها رغم أنها استأجرت مبنى جديدًا بدلًا من المبنى الذي دمر خلال عمليات التحالف الدولي ضد “داعش”، وقامت بتعيين قنصل عام.
في المقابل، اكتسبت إيران نفوذًا كبيرًا في الموصل عبر حلفائها من ميليشيات الحشد الشعبي، التي تعاونت مع وحدات مقاومة سنجار (ميليشيا أيزيدية أنشأها حزب العمال الكردستاني) في عملية تحرير سنجار من قبضة داعش.
ويحظى دور الحشد الشعبي بتقدير من جانب التركمان الشيعة والأيزيديين والأقليات الأخرى في المنطقة، الأمر الذي أفسح المجال أمام إيران لزيادة نفوذها ومتابعة المشاريع الاقتصادية أيضًا، وإن كان الغضب السني من الميليشيات الشيعية في الموصل يتنامى بشكل مطرد مع استمرار الصراع على السلطة والصراع الطائفي، والفساد الذي يعوق تعافي المدينة.
وبحسب العديد من المراقبين، تترجم تركيا العلاقة بين ميليشيا الحشد الشعبي ووحدات مقاومة سنجار إلى رابط بين إيران وحزب العمال الكردستاني، كما تغذي تلك العلاقة مخاوف لدى حكومة إقليم كردستان العراق من قبول بغداد وطهران لوجود حزب العمال الكردستاني في سنجار لمنع عودة قوات البيشمركة الكردية إلى المناطق المتنازع عليها.
ويُعزز من تلك المخاوف تعثر تطبيق اتفاقية سنجار، التي وقعتها الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان في 10 أكتوبر الماضي التي تنص على إخراج حزب العمال الكردستاني من المنطقة، واستعادة القوات الفيدرالية العراقية السيطرة على المنطقة.
وقد وجدت بغداد صعوبة في تنفيذ التغييرات المرجوة على البنية التحتية الأمنية المحلية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن حزب العمال الكردستاني قد اندمج داخل وحدات مقاومة سنجار.

وتأسيسًا على ما سبق، يُظهر التراشق الدبلوماسي والحرب الكلامية الراهنة بين تركيا وإيران حقيقة أن الطابع التعاوني بين سياسات البلدين خلال الفترة الأخيرة لم يكن يعبر عن توافق استراتيجي بل مجرد تعاون براجماتي مرحلي ليس أكثر، أبعدهما عن حافة صدام قادم لا محالة، فكل منهما يحمل مشروعًا للسيطرة والهيمنة ونهب ثروات شعوب المنطقة، يرتكن إلى أبعاد قومية، حيث الرغبة في إحياء إمبراطورية فارسية بالنسبة لإيران وإمبراطورية عثمانية بالنسبة لتركيا، فضلًا عن توظيف البعد الديني كأداة، حيث النزعة الطائفية لدى نظام الملالي بطهران، وفكرة الخلافة المسيطرة على العثمانيين الجدد في أنقرة.

زر الذهاب إلى الأعلى