في خطوة غير مسبوقة، حجبت شركة فيسبوك المحتوى الإخباري عن المستخدمين في أستراليا، كإجراء تصعيدي من عملاق التواصل الاجتماعي؛ ردًّا على تشريع يقترب البرلمان الأسترالي من إقراره يلزم شركات التكنولوجيا بدفع أموال للمنافذ الإعلامية مقابل استخدام محتوى المنافذ الإعلامية.
رد فعل رسمي من الحكومة الأسترالية
لكن اللافت أن قرار فيسبوك امتد ليشمل صفحات رسمية لجهات حكومية تعنى بالشؤون الصحية والسلامة خلال الكوارث وشبكات الرعاية الاجتماعية، وهو ما أثار حفيظة الحكومة الأسترالية التي صدر عن مسؤوليها تصريحات قوية تدين تصرف فيسبوك، إذ وصف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون تلك الخطوة بأنها تعني إلغاء فيسبوك للصداقة مع أستراليا، فيما اعتبر وزير المالية الأسترالي جوش فريدنبرغ خطوة فيسبوك بأنها “غير مجدية واستبدادية”.
وفي أول رد فعل عملي رسمي على خطوة فيسبوك، قررت الحكومة الأسترالية سحب جميع الإعلانات التي كانت تخطط لعرضها على الموقع، والتى تقدر قيمتها بنحو 8.3 مليون دولار أمريكي سنوياً. وتُثير خطوة فيسبوك العديد من التساؤلات حول التداعيات المحتملة بالنسبة لكل من فيسبوك ومستخدمي الموقع في أستراليا والمنافذ الإعلامية ومدى تأثر صناعة النشر.
احتدام الخلاف حول مشروع قانون المساومة الإعلامية الأسترالي
يعكس قرار فيسبوك حالة من الاندفاع مع اقتراب البرلمان الأسترالي من إقرار تشريع يلزم شركات التكنولوجيا على دفع أموال لناشري الأخبار نظير عرض محتواهم، حيث أقر مجلس النواب مشروع القانون الأسبوع الماضي، بينما يخضع حاليًا للمناقشة في مجلس الشيوخ.
كانت هناك حاجة ماسة إلى هذا التشريع لضمان تمويل الصحافة بشكل صحيح بعد أن استحوذت الشركات الرقمية العملاقة على نصيب الأسد من عائدات الإعلانات بعيدًا عن الوسائط الإعلامية التقليدية، فمقابل كل 100 دولار من الإنفاق الإعلاني عبر الإنترنت، يذهب 53 دولارًا إلى جوجل و28 دولارًا لفيسبوك، بحسب لجنة المنافسة والمستهلكين الأسترالية (ACCC).
وجاء هذا التشريع نتاجًا لتحقيق أجرته لجنة المنافسة والمستهلكين استمر 18 شهرًا، وخلص إلى وجود خلل في توازن القوى بين المنصات والشركات الإعلامية التي هددت جدوى الأعمال الإخبارية.
وعلى هذا الأساس، اقترحت اللجنة قانون “المساومة الإعلامية الجديد- the new media bargaining law” لضمان حصول شركات وسائل الإعلام الإخبارية على تعويض عادل مقابل استخدام المحتوى الذي تنتجه، حيث يمنحهم القانون إطارًا للمساومة والتوصل إلى اتفاق ملزم. وإذا لم يتمكنوا من الاتفاق، فيقوم محكم بتحديد مستوى المكافأة.
ويُعاقب على مخالفة القانون- بما في ذلك عدم المساومة بحسن نية- بغرامة قدرها 10 ملايين دولار أو ما يعادل 10% من حجم أعمال الشركة في أستراليا.
ويحظى التشريع بدعم من كافة المنافذ الإخبارية الأسترالية سواء الكبرى أو الصغرى، إذ يوجد إجماع على أن شركات مثل فيسبوك وجوجل تجني الأموال من الأخبار والتحليلات التي تقدمها المنافذ الإخبارية، وأن المستخدمين سيجدون أن هذه المنصات أقل فائدة بكثير إذا لم تظهر أي أخبار في خلاصاتهم أو في نتائج بحثهم.
في المقابل، يجادل عملاق وسائل التواصل الاجتماعي بأن ناشري الأخبار يستمدون قيمة أكبر من مشاركة الأخبار أكثر منه، فالمحتوى الإخباري لا يشكل سوى 4% من المشاركة على المنصة، بينما تحصل العديد من المواقع الإخبارية على جزء كبير من حركة المرور الخاصة بهم من خلال الإحالات عبر فيسبوك.
حجب فيسبوك للأخبار كوسيلة لانتزاع تنازلات في الصيغة النهائية للقانون
ووفقًا لصحيفة “الجارديان” البريطانية فإن شركة فيسبوك أرادت عبر قرار حجب المحتوى الإخباري عن المستخدمين في أستراليا إحداث صدمة للحكومة ووسائل الإعلام الأسترالية، وإرسال رسالة قوية إلى الجهات التنظيمية في كل مكان في العالم.
لكن الوقع يشير إلى أن تلك الخطوة حولت الانتباه بعيدًا عن التشريع – الذي يراه فيسبوك أنه تشريع معيب- إلى تهور فيسبوك في استخدام سلطته عبر المنصة في إخفاء الصفحات فجأة دون سابق إنذار، لا سيما الصفحات الرسمية المعنية بتوفير خدمات للمواطنين، مثل صفحات الجهات الصحية التي تحظى حاليًا بمتابعة وأهمية كبيرة مع استعداد البلاد لإطلاق حملة التطعيمات ضد كورونا الأسبوع المقبل، وهو ما يؤكد أن مسؤولي فيسبوك لم يفكروا فيما إذا كان التوقيت مناسبًا لخطوة الحجب.
وفي هذا الإطار، ترى إميلي بيل، مديرة مركز تاو للصحافة الرقمية في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا أنه على مدى السنوات الثلاث الماضية، قام فيسبوك وجوجل بتقديم منح إلى المنظمات الصحفية وغرف الأخبار بمعدل 100 مليون دولار سنويًّا لكل منهما، مما جعلهما أكبر مانحين وداعمين للصحافة، لكن هذه الأموال لا تمثل التزامًا عميقًا لإنتاج أخبار تتسم بالنزاهة، ولكنها جزء من تحركاتهما كجماعة ضغط ضد أي محاولة للتنظيم الخارجي.
أما موقع “كونفيرذيشن- The Conversation” الأمريكي، فاعتبر خطوة فيسبوك بأنها محاولة أخيرة للحصول على تنازلات في التشريع المطروح للنقاش في البرلمان الأسترالي، إذ يرغب فيسبوك أن يوضح للحكومة الأسترالية قدرته على الإضرار بالمصالح الوطنية إذا لم تعجبه القواعد التنظيمية.
من جهته، سعى فيسبوك لتبرير ذلك الحظر للصفحات الحكومية من منظور قراءة ذاتية للتشريع الأسترالي المقترح، قائلا إن الحظر نابع من صياغة التشريع الذي لا يوفر إرشادات واضحة بشأن تعريف المحتوى الإخباري، لذلك اتخذت الشركة تعريفًا واسعًا من أجل احترام التشريع بصيغته الحالية.
وأثار حظر تلك الصفحات انتقادات واسعة لفيسبوك، فعلى سبيل المثال وصفت مديرة “هيومن رايتس ووتش” في أستراليا، إلين بيرسون أن “قطع الوصول إلى معلومات حيوية عن بلد بأكمله في عز الليل أمر غير مقبول”. ومع تصاعد حدة الانتقادات، أعلن فيسبوك أنه سيعيد الصفحات غير الإخبارية مجددًا.
تداعيات القرار على موقع التواصل الاجتماعي والمستخدمين والمنافذ الإخبارية
صحيح أنه قد يكون من المبكر التنبؤ في الوقت الراهن بتأثير قرار فيسبوك على مستقبله، لكن يمكن القول إن حظر المواقع المهمة التي تخدم المصلحة العامة للأستراليين بين عشية وضحاها سيلحق ضررًا بالغًا بسمعة فيسبوك.
كما قد تصب الخطوة لصالح مزيد من متابعة الأخبار عبر منصات أخرى، وتعمق من مشكلة تواجه فيسبوك تتعلق بعمر المستخدمين، حيث يلجأ الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا إلى إنستغرام وسناب شات وتيك توك للحصول على الأخبار والمعلومات، فهؤلاء الشباب قد يكون لديهم ملفات شخصية على فيسبوك، لكنهم ليسوا مستخدمين نشطين.
بالإضافة إلى ذلك، في الوقت الذي تستهدف فيه إجراءات فيسبوك بالأساس توجيه رسالة إلى الحكومة الأسترالية، إلا أنها بعثت برسالة أيضًا إلى المستخدمين الأستراليين، الذين سيجدون على الأرجح طرقًا أخرى للحصول على أخبارهم.
وتعد تجربة إسبانيا مع شركة جوجل نموذجًا قابلاً للقياس عليه، فبعدما قرر محرك جوجل في عام 2014 حظر صفحة الأخبار الخاصة به “Google News” في إسبانيا بسبب قانون جديد يجبر أي موقع ينشر محتويات لمواقع إخبارية بدفع مبالغ مادية لقاء استخدام ذلك المحتوى، جادل البعض بأنه هذا الوضع سيكون له تداعيات سلبية حادة على صناعة النشر، وهو ما لم يحدث في الواقع.
ويشير يوهانس مونتر، مدير العلاقات الخارجية في “News Media Alliance” (اتحاد تجاري يمثل حوالي ألفي صحيفة في الولايات المتحدة وكندا) إلى أن مراجعة البيانات بشأن حركة المرور على المواقع الإخبارية الإسبانية من عام 2014 حتى عام 2019 ظلت دون تغيير إلى حد كبير، بل إن العديد من المواقع الإخبارية سجلت زيادة في العدد الإجمالي للزائرين الشهريين، فعلى سبيل المثال كان زوار موقع صحيفة “الباييس” الإسبانية 8,5 مليون زائر شهريا في أكتوبر 2014 قبل إغلاق أخبار جوجل، بينما في ديسمبر 2015 ارتفع هذا العدد إلى 16,6 مليون زائر.
أما بالنسبة للمستخدمين في أستراليا، فستؤثر هذه الخطوة على وصولهم إلى المعلومات الحيوية المتعلقة بحالات الطوارئ ووباء كورونا، ومن المتوقع أن تؤدي لانتشار المعلومات المضللة، لأن “خلاصات الأخبار- news feed” على فيسبوك ستكون فارغة من الأخبار التي تنتجها منافذ إعلامية موثوقة على يد محررين محترفين في إطار سياسات تحريرية تراعي القواعد المهنية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عددًا كبيرًا من الأستراليين يناقشون الأخبار على فيسبوك، سواء من خلال موجز الأخبار الخاص بهم أو في مجموعات، وتعد القدرة على الحصول على معلومات واقعية من المواقع الإخبارية جزءًا من المشاركة السياسية والاجتماعية اليومية التي تسهلها منصات التواصل الاجتماعي.
واللافت في هذا السياق، أن تداعيات الحظر تتعارض مع التعهد الذي قطعه فيسبوك بمعالجة قضية انتشار المعلومات المضللة.
وفيما يتعلق بالتداعيات على المنافذ الإخبارية، فإن المؤسسات الإخبارية الكبرى التي لديها موارد وعلاقات قوية مع جماهيرها لن تتأثر كثيرًا على المدى الطويل، لأنها كانت قد خطت خطوات في الابتعاد عن فيسبوك منذ وقت طويل ما يجعلها أقل تأثرًا بتقلباته، لكن صغار الناشرين الذين لديهم موارد منخفضة سيكونون أكثر تأثرًا من فرط اعتمادهم على فيسبوك للوصول إلى الجمهور وسيلة لزيادة حركة المرور إلى مواقعهم عبر الإحالات الواردة من فيسبوك.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن قرار فيسبوك بحجب المضامين الإخبارية من المنصة في أستراليا يسلط الضوء على خطورة الاعتماد على نشر الأخبار عبر شبكات توزيع غير موثوقة وغير منظمة، وأنه تذكير بأن فيسبوك ليس لديه دوافع حقيقية لدعم الصحافة من خلال دفع مقابل لاستخدام منتجاتها، وذلك عكس ما يظهره في المنح التي يقدمها للمؤسسات الإعلامية وغرف الأخبار.
ولذلك من الأهمية بمكان أن تولي الحكومات اهتمامًا كافيًا لإنتاج حلول رقمية تحقق الاتصال واسع النطاق مع المواطنين، وتكون بديلة لشركات مواقع التواصل العملاقة.
في التحليل الأخير لقد دعمت قرارات فيسبوك في أستراليا -عن غير قصد- الطرح الداعي لمزيد من التنظيم لمواقع التواصل الاجتماعي وتحكمها في المحتوى الإخباري، كما أظهر الحاجة الماسة لتطوير المؤسسات الإعلامية منصات بديلة لعرض محتواها.