ترجمات

دور وسائل التواصل الاجتماعي في صناعة العنف ونشر التضليل

أدى انتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى العالم إلى تزايد تأثيرها في السياقات المجتمعية، سواء بالإيجاب أو السلب. وقد خضع تأثير تلك المنصات على المجتمع الواقعي إلى مزيد من التدقيق مؤخرًا بعد أعمال الشغب الدامية في مبنى الكونجرس الأمريكي في 6 يناير الماضي، فهي مثال على العنف الذي يرى خبراء الأمن القومي أن جزءًا كبيرًا منه جرى تأجيجه على منصات التواصل الاجتماعي.
وتلعب منصات التواصل الاجتماعي الآن دورًا رئيسيًّا في وصم الفئات المستهدفة، وإضفاء الشرعية على العنف، بل وحتى تجنيد القتلة، إذ إنها منحت الأصوات العنصرية المحرضة على العنف منصة عامة لمخاطبة الجمهور، وأضحت موطنًا لخطابات الكراهية والتحريض، ونظريات المؤامرة والمعلومات المضللة، بينما تختفي الأصوات المعتدلة واللغة المقيدة الضرورية لبناء السلام والتعايش.
منصات التواصل الاجتماعي ساحات عامة فعلية
وفقًا لمجلس العلاقات الخارجية- (CFR) Council on Foreign relation” (مؤسسة بحثية أمريكية)، فإن منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر وغيرهما أصبحت ساحات عامة فعلية وليست افتراضية في العديد من البلدان، وهو ما يؤكده العدد الهائل للمستخدمين والنطاق الواسع لانتشارهم حول العالم، إذ تشير أحدث تقديرات مؤسسة الأبحاث التسويقية “we are social” في يناير 2021، إلى أن موقعي “فيسبوك” و”يوتيوب” هما الأكثر شعبية بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فلدى فيسبوك 2,7 مليار مستخدم نشط، أما يوتيوب فلديه 2,3 مليار.
وبينما يبلغ عدد مستخدمي “واتس آب” 2 مليار شخص، يستخدم “فيسبوك ماسنجر” 1,3 مليار، مقابل 1,2 مليار لإنستجرام والعدد ذاته لتطبيق “وي تشات”، فيما يبلغ عدد المستخدمين النشطين لـ “تيك توك” 700 مليون مقابل 400 مليون لموقع التدوينات القصيرة “تويتر”.
وينوه مجلس العلاقات الخارجية إلى تبني الحكومات حول العالم أساليب مختلفة لتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أن الأنظمة الأساسية الأكثر شيوعًا والتي تدير معظمها شركات أمريكية، لها سياسات لضمان اعتدال المحتوى.
وتتسم تلك السياسات المتعلقة بالمحتوى بقدر كبير من التماثل، حيث إنها تمنع المشاركات التي تمتدح العنف أو تشجع عليه، وأيضًا المشاركات التي تتضمن محتوى جنسيًّا صريحًا، وكذلك التي تحتوي على كلام يحض على الكراهية كمهاجمة شخص بسبب عِرْقه أو جنسه.
وتتوافق المنصات بشكل عام مع قوانين البلدان التي تعمل فيها، والتي يمكن أن تقيد الكلام، كما تلجأ إلى استخدام برامج الإشراف المدعومة بالذكاء الاصطناعي لفحص المشاركات ورصد أي انتهاكات، حيث يشير مركز ستيرن للأعمال وحقوق الإنسان التابع لجامعة نيويورك إلى أن فيسبوك يستعين بـ15 ألف شخص في عملية فحص المحتوى.
وقد أعلن فيسبوك خلال النصف الأول من العام الماضي عن حجب 40 مليون منشور عنيف، و32 مليون قطعة تتضمن خطاب كراهية، بينما حذف يوتيوب 1,9 مليون محتوى عنيف و1,2 مليون محتوى يروج للعنف والتطرف، أما تويتر فقال إنه تصدى إلى 955 ألف سلوك يحض على الكراهية.
بالإضافة إلى ذلك اتخذت المنصات الرئيسية خطوات للحد من المعلومات المضللة، مثل التحقق من صحة المنشورات، ووسم حسابات وسائل الإعلام التي تديرها الدولة، وحظر الإعلانات السياسية.
الانتقائية في تطبيق القواعد المعنية بالمحتوى الضار
في المقابل، يرى النقاد أن منصات التواصل الاجتماعي لا تطبق قواعدها بشكل مستمر وعلى الجميع، فعلى سبيل المثال، سمح كل من تويتر وفيسبوك بالحسابات التي اعتبرا أنها تخدم المصلحة العامة، وعلى وجه التحديد حسابات السياسيين مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بنشر محتوى مسيء أو مضلل، وأنه إذا تم نشره من قبل مستخدم عادي لكان مصيره الحذف.
وقد قامت الشركات في حالة ترامب بإلحاق عمليات التحقق من الحقائق ببعض منشوراته، وهي خطوة كانت مثار انتقاد بعض الخبراء الذين يتتبعون وسائل التواصل الاجتماعي والمعلومات المضللة؛ إذ اعتبروها غير كافية، إلى أن حظرت المنصتان الرئيسيتان في نهاية المطاف ترامب في أعقاب أعمال الشغب في مبنى الكابيتول، لكن هذا القرار لم يوقف الانتقادات إليهما لا سيما لعدم اتخاذ إجراءات مماثلة في الخارج.
ولم يكن موقع يوتيوب هو الآخر بعيدًا عن مرمى الانتقادات، حيث لاحقته اتهامات بمعاملة المستخدمين النجوم “star users”، الذين يدرون المزيد من الأرباح بطريقة أكثر تساهلاً، وأيضًا لعدم مسارعته لإزالة مقاطع الفيديو التي تتضمن ادعاءات كاذبة عن تزوير الانتخابات الأمريكية وغيرها من المعلومات المضللة.
واعتبر النقاد أن الشركات لم تبادر للتصدي للكلام المسيء أو المحرض على العنف لأنها تعتمد على الإعلانات التي تتطلب الحفاظ على تفاعل المستخدمين- حتى ولو كان التفاعل في مسار سلبي-، وفي المقابل يجادل السياسيون في بعض البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة بأن شركات وسائل التواصل الاجتماعي قد بالغت في تطبيق الاعتدال على حساب حرية التعبير.
من جانبها، جادلت شركات وسائل التواصل الاجتماعي بأن سياساتها صعبة التنفيذ، حيث قد يكون من الصعب أحيانًا التمييز بين خطاب الكراهية والهجاء أو التعليق، ورأت بعض الشركات أنه لا ينبغي أن يقع على عاتقها مسؤولية كتابة قواعد الإنترنت ودعت إلى تنظيم حكومي للمسألة.
تجارب الحكومات حول العالم.. واستراتيجية مقترحة لمواجهة الأخبار الزائفة
ويشير مجلس العلاقات الخارجية، إلى تبني الحكومات حول العالم لطرق مختلفة للتعامل مع هذه القضية، وهو ما يتضح في نماذج من أبرزها:
الولايات المتحدة: تتمتع شركات وسائل التواصل الاجتماعي بحماية قوية وهي ذاتية التنظيم إلى حد كبير، وهناك دعوات متزايدة لتدخل التنظيم الحكومي.
ألمانيا: يُلزم قانون يُعرف باسم “NetzDG” شركات وسائل التواصل الاجتماعي بإزالة المحتوى “غير القانوني الواضح” بسرعة، بما في ذلك خطاب الكراهية، وإلا سيُفرض على الشركات غرامات كبيرة.
أستراليا: يطالب القانون المنصات بإزالة “المواد العنيفة” بسرعة أو مواجهة غرامات كبيرة، وقد تم تمرير القانون بعد الهجوم الإرهابي على مسجدي مدينة كرايستشيرش، والذي تم بثه مباشرة على فيسبوك.
روسيا: يتم مراقبة وسائل الإعلام على الإنترنت من قِبل هيئة رقابية حكومية ويتم تقييدها بشكل منتظم، وقد تحرك البرلمان لحظر المنصات الأمريكية، لافتًا إلى أنها خطوة جاءت ردًّا على فرض الولايات المتحدة رقابة على وسائل إعلام حكومية روسية.
الصين: لديها مجموعة من قوانين الرقابة التي تُعد ضمن الأكثر تقييدًا في العالم، حيث تم حظر العديد من المنصات الغربية، أما المنصات الصينية فتخضع لرقابة شديدة.
الهند: تُعفى منصات التواصل الاجتماعي بشكل عام من المسؤولية، ولكن يمكن إجبارها على إزالة المحتوى، وتشهد الهند عمليات متكررة لإغلاق الإنترنت، وتتحرك الحكومة لتأكيد سيطرة أكبر على بعض المنصات.
البرازيل: منصات وسائل التواصل الاجتماعي متاحة دون قيود، ومع ذلك يدرس البرلمان مشروع قانون تخشى الجماعات الحقوقية أن يقوض حرية التعبير.
إثيوبيا: يلزم القانون الفيدرالي شركات وسائل التواصل الاجتماعي إزالة خطاب الكراهية أو المعلومات المضللة في غضون يوم واحد، وقد قامت الحكومة في بعض الأحيان بحظر الوصول إلى المنصات.
من جهته، اقترح “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية-European Council on Foreign Relations ” (مؤسسة فكرية أوروبية مستقلة) استراتيجية لمواجهة تحدي الأخبار الزائفة، تقوم على مسارين: الأول يتمثل في معالجة المشكلات الخاصة ببيئات المعلومات الوطنية، فعلى سبيل المثال تعتبر معركة الدفاع عن هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” وتحسين خدمتها أكثر أهمية من أي شيء تفعله الحكومة البريطانية بشأن فيسبوك أو تويتر. ولذلك يوصي المجلس بمضاعفة ميزانية إعلام الخدمة العامة، وتأكيد استقلاليته عن الحكومة، وتكليفه بتعزيز الساحة الرقمية العامة لمواطني الغد.
أما المسار الثاني فيقوم على عمل منسق لكتلة حرجة من الديمقراطيات تضم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وذلك من منطلق أنه لا توجد دولة واحدة قادرة بمفردها على مواجهة القوى العظمى الخاصة في العالم الرقمي الممثلة في الشركات العملاقة مثل فيسبوك وجوجل وأمازون وتويتر وغيرها.
ويشير المجلس الأوروبي إلى أن الولايات المتحدة تعد رائدة في مجال تحديد الاتجاهات الرقمية في العالم، بينما الاتحاد الأوروبي رائد في وضع المعايير، ومن هنا تأتي أهمية الجمع بين مصمم الاتجاهات وواضع المعايير.
ويؤكد أيضًا على حقيقة مفادها أن منصات التواصل الاجتماعي تعد بمثابة جهة توزيع للمحتوى الذي يقدمه الآخرون، وهي في أحسن الأحوال تكون أدوات مساعدة مهمة في البحث عن الحقيقة، وفي أسوأ الأحوال ساحة كبرى لنشر الأكاذيب.

وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي باتت ساحة عامة يتم من خلالها طرح الآراء وتشكيل الاتجاهات وتكوين القناعات، وأدت إلى تلاشي الحدود بين الواقع الافتراضي والواقع الفعلي في العصر الراهن.
وقد أدى رواج نظريات المؤامرة والأخبار المضللة عبر مواقع التواصل إلى أخطار حقيقية في الواقع، قد تمثل تهديدًا للأمن والاستقرار في بعض المجتمعات، حيث وفّرت تلك المنصات مناخًا مواتيًا يُسهّل من عملية نشر الأفكار المتطرفة والعنصرية، التي كانت محركًا أساسيًّا للعديد من الهجمات الإرهابية.
ويتطلب التعامل مع تلك الإشكالية توفّر نهج يقوم على التكامل والتنسيق بين شركات مواقع التواصل الاجتماعي والحكومات؛ وفقًا لإطار مرجعي تشريعي يحدد بدقة ووضوح الأدوار والمسؤوليات.

زر الذهاب إلى الأعلى