تقارير

استراتيجية أردوغان لقمع وتدجين الإعلام في تركيا

شهدت تركيا على مدى السنوات الأربع الماضية انهيارًا حادًّا في الحريات، وحملات قمعية تشنها حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طالت مختلف المؤسسات في الدولة، سواء العسكرية أو المدنية وعلى رأسها قطاع الإعلام والصحافة، فمنذ محاولة الانقلاب في يوليو 2016 وحتى الآن لا تزال مساحة التعددية الإعلامية تتقلص، حيث استغلت الحكومة التركية تلك المحاولة لتكون أداة للتخلص من الخصوم السياسيين والمعارضين، والقضاء على أي منصة تعبر عن رأي مخالف.
واتبعت الحكومة التركية سياسة ممنهجة استهدفت تشديد القبضة على وسائل الإعلام التقليدية، وتعزيز هيمنة وسائل الإعلام الموالية للحكومة على المشهد الإعلامي، وترهيب وسجن الصحفيين وتقديمهم للمحاكمات، بجانب إصدار تشريعات للتحكم في منافذ الإعلام الجديد.
وبينما تؤكد كافة التقارير والمؤشرات الدولية المعنية بحرية الصحافة على أن تركيا باتت أكبر سجّان للصحفيين في العالم، خرج أردوغان مطلع العام الحالي بتصريح مثير للجدل أكد خلاله أن أنقرة لن تتخلى أبدًا عن حرية الصحافة، لكنها في المقابل لن تسمح إطلاقًا بما سماه استغلال هذا المفهوم للإساءة للدولة في الداخل والخارج.
ويعكس الشق الثاني من التصريحات تناقضات أردوغان، فهذه العبارة تنسف تمامًا ما قبلها، وتعبر بشكل حقيقي عن تصور أردوغان لحدود الدور الذي يرسمه لحركة الإعلام، وهو الدوران في فلك نظامه وسياساته فقط.
استحواذ مجموعات استثمارية موالية لأردوغان على ملكية غالبية وسائل الإعلام
ووفقًا لمرصد البلقان والقوقاز (مؤسسة بحثية مقرها في تورينو بإيطاليا)، كان قطاع الإعلام من بين أبرز القطاعات التي استهدفتها السلطة، حيث تم إغلاق 170 نافذة إعلامية أو إخضاعها لسيطرة الحكومة منذ محاولة الانقلاب عام 2016.
وشهد عام 2018 نقطة التحول الرئيسية في نظام ملكية وسائل الإعلام في تركيا، عبر صفقة بيع مجموعة دوغان الإعلامية إلى مجموعة “ديميرورين- Demirören” الصناعية التي أسسها أردوغان ديميرورين، وهو رجل أعمال معروف بصلته الوثيقة بالحكومة التركية.
وشملت الصفقة الاستحواذ على بعض وسائل الإعلام الأكثر شعبية، مثل شبكة تلفزيون “سي إن إن تورك” وصحيفة “حرييت” ووكالة أنباء دوغان، وكان لها تأثير سلبي على توزيع الصحف المستقلة الصغيرة في جميع أنحاء البلاد.
وتشير مبادرة “Media Ownership Monitor” المعنية بتتبع ملكية وسائل الإعلام، إلى أن حوالي 71% من وسائل الإعلام في تركيا تعود ملكيتها إلى 4 شركات قريبة من الحكومة وهي: “كلايون- Kalyon” و”تراكوز -Turkuvaz” و”دوجوش- Doğuş” و”ساينر-Ciner”، بالإضافة إلى مجموعة “ديميرورين – Demirören” التي تمتلك مع مجموعة “ألبيراق-Albayrak” (مملوكة لعائلة صهر أردوغان) ومجموعة “Ihlas”، أكثر 40 صحيفة في تركيا.
وتُعد قناة فوكس التركية، التابعة لشركة “والت ديزني- Walt Disney” الوحيدة من بين 10 شبكات تلفزيونية بقيت خارج هذا الهيكل، وتعتبر برامجها الإخبارية الأكثر انتشارًا وموثوقية كمصدر للأخبار، وفقًا لتقرير “Digital News” الصادر عن مؤسسة رويترز.
ولما كان أكثر من 70% من السكان يحصلون على الأخبار من التلفزيون، فإن هذا يدل على حجم الطلب الجماهيري على مصدر إخباري مستقل، ويؤشر ذلك على فقدان الثقة في وسائل الإعلام التركية نتيجة لخضوعها بطريقة أو أخرى للهيمنة الحكومية.

تركيا أكبر سجن للصحفيين في العالم
أما عن واقع حال المشتغلين بالإعلام والصحافة في تركيا، فتصف منظمة العفو الدولية تركيا بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم، حيث يوجد أكثر من 80 إعلاميًّا في السجن، بينما يواجه 245 غيرهم محاكمات أمام القضاء.
ويشير “المعهد الدولي للصحافة- International Press Institute” (منظمة عالمية معنية بتعزيز وحماية حرية الصحافة) إلى استخدام عمل الصحفيين – التقارير الإخبارية والمقالات – كدليل ضدهم في 73% من هذه القضايا، حيث يتم اتهام الصحفيين لا سيما أولئك الذين يعملون في وسائل الإعلام الموالية للأكراد بإهانة رئيس الدولة وتعريض الأمن القومي للخطر. كما أصبحت الدعاية الإرهابية، أو الانتماء لمنظمات إرهابية التهمة الأكثر شيوعًا في السنوات الأخيرة.
ولم تقتصر معاناة الصحفيين والإعلاميين في تركيا على الرقابة الحكومية، بل أيضًا تتزايد المعاناة من حالة الرقابة الذاتية التي تمنع الأشخاص من التعبير عن رأيهم، والتي ترتفع حِدَّتها في جنوب شرق البلاد، حيث توجد الأغلبية الكردية.
وفي هذا الإطار، تقول الصحفية خديجة كامير من مدينة ديار بكر إن فشل عملية السلام مع الجماعات الكردية في أغسطس 2015 والاشتباكات التي تلت ذلك، جعلت المواطنين أقل استعدادًا للتحدث مع الإعلام.
وكان المواطنون في تلك المنطقة لا يخشون التعبير عن آرائهم المعارضة أو غضبهم، لكن منذ محاولة الانقلاب وما أعقبها من حملات حكومية لتسريح الموظفين وإدراج الأشخاص في قوائم الإرهاب، أصبح من المستحيل تقريبًا أن يعمل الصحفي في الميدان، حيث يسود شعور بعدم الأمان، لدرجة أن المواطنين لم يعودوا على استعداد للتحدث.
ويبدو أن جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” أتاحت فرصة أخرى لتجريم حرية الرأي والتعبير وممارسة الصحافة، حيث أدت الانتقادات الموجهة لإدارة السلطات لحالة الطوارئ الصحية إلى توجيه اتهامات إلى 12 صحفيًّا بتهمة التحريض على “عصيان القوانين” وهي تهم عقوبتها السجن لمدة تتراوح بين عامين وأربعة أعوام.
وأصبح نهج السلطات التركية الذي يقوم على التنكيل بالصحفيين واضحًا للغاية في منتصف أبريل من العام الماضي عندما أطلقت سراح 90 ألف سجين ضمن خطة للحد من خطر الإصابة بالفيروس في السجون التركية، بينما استبعدت الصحفيين والنشطاء وغيرهم من سجناء الرأي.
تحكم الرئاسة التركية في الجهات المعنية بتنظيم العمل الإعلامي
لقد أدى تحول النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي لزيادة صلاحيات الرئيس التركي على حساب سلطات البرلمان ومؤسسات الدولة الأخرى، وباتت أي مؤسسة عامة الآن مرتبطة قانونًا بالرئاسة، وهو الأمر الذي طال الجهات المعنية بتنظيم العمل الإعلامي والصحفي.
فعلى سبيل المثال لا يمكن حاليًا إصدار البطاقات التي تثبت عضوية الصحفيين في نقابتهم المهنية إلا من قِبل مديرية الاتصالات التابعة لرئاسة الجمهورية التركية، كما أن مديرية الاتصالات على اتصال مباشر مع المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون (RTÜK) ووكالة الإعلان في الصحافة (BIK)، وتكشف العديد من الممارسات تحكم الرئاسة التركية في قرارات تلك الجهات.
وعلى الرغم من أن وكالة الإعلان في الصحافة (BIK) ملتزمة قانونًا بتوزيع الإعلانات الرسمية على جميع الصحف المطبوعة، وهو ما يمثل مصدر دخل مهمًّا بالنسبة للصحف، فإن هناك قدرًا من التعسف في طريقة توزيعها، كما يتضح في حالة صحيفتي المعارضة “Evrensel” و”Birgün”، اللتين حُرمتا مؤخرًا من عائدات الإعلانات بعد اتهامهما “بانتهاك المبادئ الأخلاقية للصحافة”.
وفي ذات الإطار، يفتقر المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون (RTÜK) إلى الاستقلالية، ويخضع لسيطرة ممثلي حزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية، حيث يستخدمان اللوائح الحالية كأداة عقابية تعسفية ضد وسائل الإعلام المستقلة، ومن أمثلة ذلك تعليق البث الذي يعتبرونه مسيئًا، وهو ما حدث مؤخرًا لشبكتي “Tele1” و”Halk TV”، بعدما فُرض عليهما حظْر بث لمدة 5 أيام.
وقد أصدر المجلس 90 عقوبة على وسائل الإعلام المستقلة، بما في ذلك وقف البث وغرامات إدارية بين يوليو وسبتمبر الماضيين فقط، وفقًا لتقرير مراقبة وسائل الإعلام الصادر عن جمعية الصحفيين التركية.
الرقابة تتوغل إلى فضاء التواصل الاجتماعي
وفي محاولة لتجاوز تلك القبضة الحكومية التركية المحكمة على وسائل الإعلام وتقديم رواية مستقلة للأحداث، انتشرت وسائل الإعلام عبر الإنترنت حيث القنوات على يوتيوب والمواقع الإخبارية والبودكاست، إلا أنه سرعان ما أصبح الإنترنت أيضًا هدفًا للرقابة، من خلال إزالة المحتوى، وحظر صفحات الإنترنت أو حجب مواقع بالكامل كما حدث في حالة موقع ويكيبيديا، الذي تعذر الوصول إليه في تركيا طيلة الفترة من أبريل 2017 إلى يناير 2020.
كما قامت حكومة أردوغان بإنشاء وحدة لمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، وأطلقت تطبيقًا يسمح للمواطنين بالإبلاغ عن المنشورات التي يعتبرونها دعاية إرهابية.
وبحسب وزارة الداخلية التركية، فقد تم التحقيق في 14186 حسابًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وحوكم 6743 شخصًا بسبب منشوراتهم على هذه المنصات الاجتماعية في الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي.
ولجأت السلطات التركية لإحكام حصارها لوسائل الإعلام الجديد عبر إصدار قانون للرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي دخل حيز التنفيذ مطلع نوفمبر الماضي، حيث ألزم القانون الشركات المالكة للمنصات الاجتماعية بتعيين ممثلين محليين لها في تركيا.
وتمكّنت الحكومة التركية بالفعل من إجبار فيسبوك ويوتيوب وتيك توك على تعيين ممثلين لها بعد تهديدات مالية وجهتها لها، من بينها منع دافعي الضرائب الأتراك من الإعلان لديها إذا لم تقم الشركات بتعيين ممثل محلي لها. وبالفعل فرضت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية حظراً على الإعلانات عبر مواقع “تويتر” و”بيرسكوب” و”بينتريست” لعدم امتثالها للقانون الجديد.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن تركيا تشهد عملية قمع منهجي للإعلام والصحافة، يتم من خلال توظيف أدوات مؤسسية وتشريعية لتهديد العشرات من المؤسسات الصحفية والتنكيل بالصحفيين والزج بهم في السجون باتهامات فضفاضة على شاكلة إهانة أردوغان ودعم الإرهاب، فضلاً عن استعانة أردوغان بحلفائه من رجال الأعمال من أجل السيطرة على وسائل الإعلام عبر صفقات استحواذ، ما يضمن له أدلجة المشهد الإعلامي، ليسود إعلام الصوت الواحد المعبر عن سياسات ومصالح أردوغان الضيقة، وليس مصالح الشعب والدولة التركية.

زر الذهاب إلى الأعلى