سعت التنظيمات الإرهابية على اختلاف مشاربها خلال السنوات القليلة الماضية إلى استغلال وتوظيف التقنيات الرقمية في خدمة مجموعة من الأهداف الأساسية؛ أبرزها نشر الفكر المتطرف، وتجنيد الأتباع، وتنسيق التحركات في نطاق من التكتم والسرية.
ولم يكن من المستغرب أن تصبح تطبيقات الرسائل المشفرة قناة الاتصال المفضلة لدى المتطرفين، وفي مقدمة تلك التطبيقات يأتي تليجرام، الذي يتيح خاصية تشفير الرسائل، بحيث لا يستطيع أي شخص آخر التدخل في المحادثات بما فيهم فريق عمل التطبيق، بالإضافة إلى حفظ كافة المحادثات في الجهاز الخاص بصاحبها دون رفعها لخوادم “تليجرام” في السحابة، فضلًا عن توفير ما يسمى بـ”عدّاد التدمير الذاتي” للرسائل والملفات.
ويُثير ذلك الوضع مجموعة من الإشكاليات المتصلة بالعلاقة بين الدول والشركات التكنولوجية المالكة للتطبيق، حيث تخوض العديد من الحكومات محادثات معها بشأن التعاون معًا لفك تشفير التطبيق من أجل مجابهة التطرف الذي ينتشر بكثافة في هذا الفضاء المظلم.
طفرةٌ غير مسبوقة في حجم استخدام التطبيق بعد أحداث الكونجرس
ويُعتبر تطبيق تليجرام مفضلًا لدى المتطرفين اليمينيين، فهو جيد التصميم، ويحتوي على الكثير من المميزات للاتصال الجماهيري، بالإضافة إلى الدردشات المشفرة ومشاركة الملفات، وفقًا لشبكة “فوكس” الإخبارية الأمريكية.
وقد شهد التطبيق إقبالًا كثيفًا على استخدامه بعد أحداث اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير الماضي، حيث أعلنت شركة تليجرام أنها تجاوزت 500 مليون مستخدم نشط على مستوى العالم، إذ انضم 25 مليون مستخدم جديد بعد مرور 72 ساعة فقط على تلك الأحداث.
ووفقًا لبيانات شركة “Sensor Tower” المتخصصة في تتبع تطبيقات التواصل الاجتماعي، فإن معدل تثبيت التطبيق بالولايات المتحدة في الأسابيع الأولى من هذا العام سجَّل ارتفاعًا بنسبة 700% مما كان عليه في نفس الفترة من عام 2020، بينما كان معدل تنزيل تطبيق “سيغنال- Signal” – المنافس لتليجرام والمعروف برسائله المشفرة من طرف إلى طرف-خلال أول 18 يومًا من العام الحالي مطابقًا تمامًا لعدد عمليات التثبيت في الفترة ذاتها من العام الماضي.
كما أضحى تليجرام التطبيق الأكثر تنزيلًا في متجر “جوجل بلاي-Google Play” في الولايات المتحدة، بعدما كان سيغنال في الصدارة سابقًا.
ولجأ المتطرفون اليمينيون الأمريكيون إلى الانضمام لتليجرام بأعداد كبيرة بعد طردهم من تويتر وفيسبوك و “بارلر- Parler”.
جدير بالذكر، أن بارلر كان التطبيق المفضل لدى المتطرفين حتى وقت قريب، لكن الوضع تبدل بعدما قامت شركات التكنولوجيا الكبرى بحجب التطبيق على خلفية اتهامه بعدم مكافحة المحتوى العنيف، إذ إنه صار محظورًا على متاجر تطبيقات جوجل بلاي وآبل.
خُطوات خجولة لمكافحة المحتوى المتطرف على تليجرام
ويتألف تليجرام من ثلاثة مُكوّنات رئيسية، أولها القنوات العامة والخاصة، وهي في الغالب عمليات بث أحادية الاتجاه يُمكن لعدد غير محدود من الأشخاص متابعتها.
كما يحتوي التطبيق أيضًا على مجموعات عامة وخاصة، حيث يُمكن لما يصل إلى 200 ألف شخص التواصل من خلالها، ومن المعلوم أن المجموعات الأكبر عددًا تعمل على تسهيل انتشار الأخبار المزيفة، والدعوات إلى العنف بسرعة أكبر.
ويُمثل هذا الرقم الضخم ميزةً لتليجرام مقارنة بالعدد المسموح به في المجموعات الموجودة على تطبيق سيغنال (يصل إلى ألف عضو) و “واتس آب” (256 عضوًا)، حيث حد واتس آب من قدرة المجموعات على إعادة توجيه الرسائل إلى مجموعات أخرى من أجل وقف انتشار المعلومات المضللة، بعد دوره في تضخيم العنف في كل من الهند وميانمار.
أمَّا المكون الثالث في تليجرام فيتمثل في “المحادثات السرية- Secret Chats” ، حيث يمكن للأشخاص إجراء محادثات فردية مشفرة من طرف إلى طرف، ما يعني أن المتسللين أو الشرطة لن يتمكنوا من رؤية محتوى هذه الرسائل.
وترى ميغان سكوير، أستاذة علوم الكمبيوتر بجامعة إيلون وزميلة مركز”Southern Poverty Law Center ” المتخصص في شؤون التطرف عبر الإنترنت، إن ما يوفره تليجرام من تواصل اجتماعي وميزات الرسائل يجعله ملائمًا جدًّا للمتطرفين عبر الإنترنت.
وتُشير سكوير إلى أن التطبيق يُمكّن من نشر التطرف وتجنيد الأشخاص عبر منصة واحدة، وهذه الميزات تجعله أيضًا شائع الاستخدام بين المُحتجين أيضًا. علمًا بأنه قد تم استخدام تطبيق تليجرام من قِبل حركات الاحتجاج في هونغ كونغ وعناصر تنظيم “داعش” الإرهابي على حدٍّ سواء.
ووفقًا لأمارناث أماراسينغام، الباحث في شؤون الإرهاب والتطرف بجامعة كوينز الكندية، فإن تليجرام بات منصةً رئيسيةً يلجأ إليها المتطرفون بعد تراجع تويتر وفيسبوك وإنستغرام عن استضافتهم.
وعلى هذا، واجه تليجرام انتقاداتٍ متزايدةً تتهمه بالتقاعس عن مواجهة الفكر المتطرف عبر المنصة، الأمر الذي دفعه لمحاولة احتواء تلك الانتقادات بخطوة نادرة اتخذها منتصف الشهر الماضي، عبر حجب عشرات القنوات العامة بسبب التحريض على العنف، مشيرًا إلى أن هذه القنوات انتهكت شروط الخدمة.
وكان من بين القنوات المحجوبة، قناة عرضت في الأيام السابقة على حفل تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، كيفية صنع وإخفاء بنادق وقنابل محلية الصنع.
كما أوضح مؤسس تطبيق تليجرام، رائد الأعمال الروسي بافيل دوروف، أن التطبيق أزال “مئات” الدعوات إلى العنف على القنوات العامة، بعد رصد زيادة طفيفة في الشكاوى بالولايات المتحدة.
لكن لا تزال هناك العديد من القنوات والمجموعات العامة التي تحتوي على خطاب الكراهية، ونظريات المؤامرة والميمات العنصرية.
وتوجد حاليًا قناتان تضمان في اسمهما كلمة “Proud Boy” ما يشير إلى اعتناقهما أفكار حركة “براود بويز” اليمينية المتطرفة، التي صنفتها كندا قبل أسبوع جماعة إرهابية. وتضم كل قناة ما يقرب من 40 ألف متابع، أغلبهم اشترك في القناتين في الأسابيع الأخيرة.
وعلى خلفية ذلك، رفع “التحالف من أجل شبكة أكثر أمانًا- Coalition for a Safer Web” (منظمة غير ربحية) دعوى قضائية ضد شركة آبل تطالب بحظر تليجرام من متجر التطبيقات التابع لها – على غرار ما فعلته آبل مع تطبيق بارلر-، مشيرة إلى فشل تليجرام في إزالة المحتوى العنيف والمتطرف من التطبيق.
غيابُ الرقابة على القنوات الخاصة مُحفِّزٌ لإقبال المتطرفين على استخدام تليجرام
ويُوجد ثمة سبب للاعتقاد بأن تليجرام لا يتعامل مع الإشراف على المحتوى بجدية مثل الأنظمة الأساسية الأخرى، فعلى عكس فيسبوك وتويتر لا توجد طريقة لتتبع البلاغات على تليجرام، ومعرفة ما حدث لها.
كما أن هناك عدم اهتمام بالتعاطي السريع مع البلاغات، فعلى سبيل المثال تُشير ميغان سكوير إلى أنها أبلغت تليجرام عن بيان يدعو إلى قتل المسلمين منذ ما يقرب من عامين، ولا يزال البيان موجودًا.
كما لفتت سكوير أيضًا لتقديمها بلاغًا للتطبيق عن قيام فتى بنشر عنوانها على تليجرام، دون أدنى استجابة، وربما يعود ذلك لأن التشهير ليس من بين الفئات الخمس للمحتوى غير اللائق الذي يمكن الإبلاغ عنه.
وبجانب التراخي في مكافحة المحتوى الضار، يتيح تليجرام على عكس الأنظمة الأساسية الأخرى تخزين الملفات، وهي ميزة تجذب المتطرفين الذين يرغبون في مشاركة مقاطع الفيديو والبيانات المتطرفة.
والجدير بالذكر أن شروط خدمة تليجرام تحظر الترويج للعنف على القنوات العامة، ولكنها لا تذكر أي شيء عن الترويج للعنف على القنوات أو المجموعات الخاصة.
وتُعتبر سهولة الاستخدام من بين العوامل التي تقف وراء شعبيته الكبيرة بين المتطرفين، فهو أيسر بكثير من التطبيقات الأخرى الشائعة بين المتطرفين، مثل “جاب- Gab” و”بارلر- Parler”.
وبالنسبة للمتطرفين يعتمد اختيار منصات الاتصالات على تأثيرات الشبكة، مما يعني أنها تُصبح أكثر فائدة كلما زاد عدد الأشخاص الموجودين عليها، لذلك يعد تليجرام تطبيقًا مفضلًا من منظور اتساع نطاق المستخدمين.
ختامًا.. يمكن القول إن تطبيق تليجرام بات الملاذ الأول للمتطرفين حول العالم في ظل سياسته المتراخية، التي تتزامن مع إحكام العديد من تطبيقات التواصل الاجتماعي رقابتها على المحتوى الذي يحض على العنف والكراهية والتطرف.
ويُنذر ذلك الوضع بأن يتحول تليجرام إلى مجموعة من غرف الصدى التي تعمل على زيادة التطرف لدى هؤلاء الأشخاص، أو تعريض المستخدمين العاديين إلى خطر الوقوع كفريسة في براثن الفكر الإرهابي والمتطرف.
وتتطلب مواجهة ذلك الخطر وقفة حازمة من جانب الجهات التنظيمية في مختلف الدول؛ لدفع التطبيق على التعديل من سياساته المتراخية في مجال مكافحة التطرف سواء اليميني أو التطرف الديني، حتى لو تطلب ذلك حظر التطبيق كوسيلة لإجباره على اتخاذ خطوات فاعلة وتحسين إجراءاته الداخلية بخصوص تلك القضية الحيوية التي تمس الأمن القومي والسلم الاجتماعي.
وتُعد تجربة إندونيسيا مثالًا واضحًا على التعامل الحاسم، إذ أدى حظر الحكومة للتطبيق إلى قيام الأخير بحذف محتوى يُمثّل دعايةً متطرفةً من قِبل تنظيم “داعش” الإرهابي.