ترجمات

هل يُسهم إحياءُ واشنطن لمسار الحدِّ من التسلُّح في لَجْم طهران؟

في الوقت الذي تصوغ فيه إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن سياستها تجاه إيران، تدور نقاشات حادة في واشنطن والعديد من العواصم الدولية حول ما إذا كانت العودة المباشرة إلى الاتفاق النووي الإيراني ستكون كافية لتخفيف التهديدات الصادرة من إيران، حيث يُصرّ العديد من الخبراء على وجوب أن يتعامل الرئيس بايدن أيضًا مع سياسات إيران الإقليميّة وصواريخها جنبًا إلى جنب مع الاتفاق النووي.
والحقيقة أن فريق بايدن لا يحتاج إلى البدء من الصفر لإطلاق مثل هذا الجهد، فقبل ثلاثين عامًا قادت الولايات المتحدة أول محاولة شاملة لمعالجة الأمن الإقليمي من خلال إنشاء مجموعة عمل تهتم بالحد من التسلح والأمن الإقليمي (ACRS) في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، ورغم تعثُّر المحادثات وسط انهيار عملية السلام، لكنها تقدم دروسًا مهمة للوضع الحالي، حتى وإن كانت منطقة الشرق الأوسط أكثر فوضوية حاليًا مما كانت عليه قبل 30 عامًا، بسبب تزايد التدخلات الإيرانية في المنطقة، والانقسامات العربية الداخلية، والدور المعقد لتركيا، والوجود الروسي الأكبر.
ووفقًا لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، تبرز ثلاثة دروس لإدارة بايدن تعكس ما نجح – وما لم ينجح فيه – من خلال فريق العمل المعني بالحد من التسلُّح والأمن الإقليمي، وهي كالتالي:
تَشاركُ الأطراف الرئيسية في الهدف النهائي لعملية الأمن الإقليمي
من الضروري أن تتشارك الأطراف الرئيسية في الهدف النهائي لعملية الأمن الإقليمي، فتجربة عام 1991 تشير إلى أن برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي – الذي كان سرًّا مكشوفًا لفترة طويلة – شكَّل نقطة خلاف رئيسية مع الوفود العربية، وعلى رأسها مصر ضمن فريق العمل المعني بالحد من التسلُّح والأمن الإقليمي.
وبينما جادلت إسرائيل بأنها لن تُناقش نزع السلاح النووي إلا بعد تأمين السلام مع جيرانها، واعتبرت خُطوة تشكيل فريق العمل المعني بالحد من التسلُّح والأمن الإقليمي طريقًا نحو تلك الوجهة، اعتقدت الدول العربية أن إسرائيل لن توافق أبدًا على نزع سلاحها، مما تسبب في فقدان الثقة في العملية برُمتها.
وتشير هذه التجربة إلى أن النهج القائم على تدابير بناء الثقة ليس بديلًا عن صياغة رؤية مشتركة، وهذا يتطلب من الجميع أن يقولوا كلمتهم، فقد فشلت الجهود التي بذلت عام 1991 أيضًا حينما ظلت إيران والعراق ولبنان وليبيا وسوريا خارج العملية.
وهذا يعني أن الأمل في إمكانية ضم الأطراف الإقليمية الرئيسية تباعًا بمرور الوقت أمر محفوف بالمخاطر، لأنه يُعرِّض العملية لهجمات محتملة في كل خطوة من قِبل المُشكِّكين، وسط عدم وجود ضمان بأن الأطراف الخارجية الأخرى ستنضم.
وفي حين كان يمكن للولايات المتحدة عندما كانت القطب الأوحد في النظام الدولي أن تجمع كل الأطراف في ذات القاعة، فإنها ستحتاج اليوم إلى مساعدة روسيا وأوروبا على الأقل لعقد اجتماعات تضم جميع الأطراف حول الطاولة.
أهميةُ وضوح الرؤية الأمريكية لأولويات الأطراف الإقليمية
وبينما تحتاج الأطراف الإقليمية إلى مشاركة الهدف النهائي في تلك العملية، يجب أن يكون لدى حكومة الولايات المتحدة أيضًا رؤية واضحة لأولويات كل دولة على المديين القريب والمتوسط، فعلى سبيل المثال خلال عملية مجموعة عمل الحد من التسلح والأمن الإقليمي كانت المسارات الثنائية لما بعد مدريد (مفاوضات إسرائيل مع الفلسطينيين والدول العربية الأخرى) هي الأولوية بالنسبة لواشنطن، بينما كان الهدف من المسار متعدد الأطراف (بما في ذلك مجموعة الحد من التسلح) هو إضفاء الشرعية على قدرة الفلسطينيين على التفاوض مع إسرائيل.
وكان الهدف الأساسي بالنسبة لمصر هو نزع سلاح إسرائيل، أما بالنسبة للأردن، فكان تعزيز الأمن الإقليمي، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فيما كانت تهدف إسرائيل إلى الحصول على اعتراف وإقامة علاقات مع الدول العربية. وقد أعاقت هذه الأهداف والتوقعات المُتباينة والمُتضاربة في بعض الأحيان التقدم في عمل فريق الحد من التسلُّح والأمن الإقليمي.
وعندما يتعلق الأمر بالأولويات الفورية للأطراف الإقليمية فيما يتعلق بالحالة الإيرانية الراهنة، فإن مصدر القلق الأساسي يتركَّز حول الملف النووي ومخاوف أمنية أخرى.
لقد ركَّز الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 على البرنامج النووي من أجل التوصل إلى اتفاق مُلزِم، لكنه ترك الأطراف الإقليمية المهمة غير راضية عن جوانب أخرى لدور إيران في المنطقة.
وعلى الرغم من قلق الدول العربية من إمكانية بناء قنبلة نووية إيرانية، فإن المخاوف من قدرات الصواريخ الإيرانية، والاعتداءات من خلال أذرع طهران، تمثل مصدر قلق أكثر إلحاحًا على الرغم من أن العديد من تلك الأذرع الإيرانية جلبت صواريخ بعيدة المدى، أو طورت قدرات التصنيع المحلية، لذلك يجب أن تُراعي دبلوماسية إدارة بايدن مدى القلق الشديد لدى الأطراف الإقليمية بشأن القضايا الخارجة عن النزاع النووي.
استغلالُ التحوُّلات الهيكلية والدور الفاعل للقادة في المنطقة
لقد أثارت اتفاقيات تدشين العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية تفاؤلًا حَذِرًا بأن عملية أمنية إقليمية جادَّة قد تكون مُمكنة بالفعل. وفي حين أن مثل هذه التحوُّلات الهيكلية مهمة، فإن دور الأشخاص مهم كذلك.
ففي السابق لعب وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر دورًا أساسيًّا في مجموعة عمل الحد من التسلُّح والأمن الإقليمي عام 1991، بما في ذلك الحصول على موافقة مؤسسة أمنية إسرائيلية مُتشككة في الخطوة، بعد التهديد بوقف تمويل إعادة توطين المهاجرين اليهود القادمين من الاتحاد السوفيتي ما لم يشارك الإسرائيليون في مؤتمر مدريد.
الآن، ونظرًا لطول أمد النزاع مع إيران، وانعدام الثقة المُتبادل العميق في المنطقة في الوقت الحالي، فإن الاستثمار السياسي من قِبل قادة المنطقة مطلوب مرةً أخرى؛ لتجاوز خُطوات بناء الثقة الشكلية، والاتجاه نحو صياغة رؤية مُشترَكة للمنطقة.
وبالرغم من أن التوصل إلى خارطة طريق دبلوماسية إقليمية أشمل ولا تقتصر على الاتفاق النووي الإيراني سيكون أمرًا معقدًا، لكنّ فريق بايدن لديه ثروة من الخبرة المتراكمة والدروس المستفادة لتوجيه هذه العملية، والتي ينبغي أن يستفيد منها إلى أقصى حد، فمن خلال الاستفادة من دروس تجربة مجموعة عمل الحد من التسلُّح والأمن الإقليمي يتوجب على فريق بايدن متابعة عملية تشمل جميع الأطراف الرئيسية منذ البداية، وتُعالج مخاوفهم الأمنية، وتدعمها رؤية طويلة المدى.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن إدارة بايدن في أيامه الأولى في البيت الأبيض لم تُظْهر اندفاعًا نحو المفاوضات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وتشير تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أمام مجلس الشيوخ إلى أن الخطوط العامة التي تعتزم الإدارة الأمريكية انتهاجها تجاه طهران تُراعي العديد من المحددات التي استعرضتها مجلة فورين بوليسي الأمريكية في هذا التقرير.
وقد أكد بلينكن على الرغبة في اتفاق نووي مع إيران أطول وأكثر رسوخًا، كما تعهَّد بالتشاور مع الحلفاء الإقليميين، وفي مقدمتهم دول الخليج العربي في حالة استئناف المفاوضات مع إيران.
إن إدارة الرئيس بايدن تواجه اختبارًا صعبًا في منطقة الشرق الأوسط عنوانه الرئيسي هو إيران، لا سيما وأن تركيبة تلك الإدارة وكبار مسؤوليها سبق وأن خدموا في ظل إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، فقد عادوا من جديد بعد غياب 4 أعوام ليواجهوا تحديات سياسية ساهموا أنفسهم في رسمها وتنفيذها، والنموذج الأكثر وضوحًا هنا الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
وعلى الأرجح سيلجأ هؤلاء المسؤولون على نحو خاص والإدارة الأمريكية بوجه عام إلى التحرك بشكل متأنٍ، وعبر مسارات مختلفة عما حدث في ظل إدارة أوباما، مدفوعين بحجم التغيرات الهائلة التي طرأت على الساحة الإقليمية، فالشرق الأوسط بتحالفاته وصراعاته وتعقيداته الآن مختلف تمامًا عمَّا كان قبل 4 سنوات.
لقد أثبتت التجربة بما لا يدع مجالًا للشك أن تحقيق الاستقرار الإقليمي مرهون بشرطين أساسيين هما: ضمان وجود تأييد من جانب القوى الرئيسية في المنطقة لأي اتفاق يتعلق بالحد من التسلح، وكذلك وجوب لجم طهران وأذرعها من الميليشيات المسلَّحة في المنطقة، ومن دون تحقق هذين الشرطين سيظل تحقيق اختراق حقيقي في الملف الإيراني بعيد المنال، وأقصى ما يُمكن التوصل إليه سيصبح تعديلات وتنقيحات على اتفاق وُلِد معيبًا.

زر الذهاب إلى الأعلى