من أشهر ما قيل عن مدى تأثير الإعلام الغربي على مجريات الأحداث في العالم، قول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، إن (وكالة الأنباء التلفزيونية CNN هي العضو رقم 16 في مجلس الأمن).
وقد جاءت هذه المقولة عن قناعة بأن الإعلام الغربي يؤثر بصورة مستمرة في تغيير سياسات الحكومات، ويساهم في حشد الرأي العام الدولي تجاه قضايا بعينها، ويعمل على إشعال الفتن والحروب وتغيير أنظمة الحكم في كثير من دول العالم الثالث، إضافة إلى محاولاته المتعمدة لإعادة صياغة وتفسير وتشويه المواقف السياسية، بما يخدم أهداف الغرب والطابور الخامس الذي يقف وراءه.
وتتجلى هذه المنهجية للإعلام الغربي في التعامل مع القضايا العربية والإسلامية تحديداً، حيث يأخذ هذا التعامل بعداً خطيراً، كونه يندرج في الرؤية الاستراتيجية الغربية للمنطقة العربية والإسلامية، القائمة في جانب منها على تفكيك وضرب أي مركز محوري يشكل نموذجاً جاذباً لانطلاق العرب، سواء كان هذا النموذج سياسياً أو اقتصادياً.
فدور الإعلام الغربي، كان ولا يزال، عنصراً حاسماً في كسب الحروب والمعارك بأنواعها المختلفة، لاسيما في المواجهة التاريخية الثقافية والحضارية المتواصلة بين العالم العربي والإسلامي من جهة، والعالم الغربي من جهة أخرى، والتي يحكمها بالأساس الموروث الحضاري والثقافي العقائدي الديني، المتراوح بين المدّ والجزر والصعود والسقوط.
وينطلق تناول الإعلام الغربي للقضايا العربية والإسلامية، من الأفكار والأنماط الجاهزة، والأحكام السلبية المسبقة الموروثة تاريخياً منذ قرون ماضية، فهو إعلام يعمل لمصالح غربية استعمارية منذ أكثر من نصف قرن.. ارتبط بقنوات رسمية ممتدّة من أجهزة المخابرات إلى السياسات الخارجية والمصالح الغربية المدفونة في المنطقة العربية، إعلام لا علاقة له بحسابات القيم والمبادئ والأخلاقيات والعلاقات الإنسانية كما يدّعي، بل هي حسابات قائمة على المصالح التي تحدّدها له دوائر الحكم والصهيونية العالمية التي تمتلك الثروة والإرادة.
ولاشك أيضاً أن الغرب كرّس الإعلام بأنواعه وفنونه وأساليبه المختلفة، أداةً رئيسية واستراتيجية في هذه المواجهة، لترسيخ تفوّقه التنموي والمادي والتكنولوجي، لتصبح الآلة الإعلامية الغربية جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الدفاعية الشاملة عن الهوية الغربية، والمشروع الغربي في المنطقة بأبعاده المختلفة، وقد ظهر ذلك في تناول القضية الفلسطينية على مدار أكثر من 70 عاماً، وأيضاً في تناول الأوضاع في السودان والصومال والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا ومصر، وحديثاً في المملكة العربية السعودية، حيث يتعامل الإعلام الغربي مع جميع القضايا الداخلية في المملكة، ومنها قضية المرأة السعودية، من منظور عدائي محض، ظاهره الدفاع عن حقوق الإنسان، وباطنه التشهير وسوء النية وفساد القصد وتعكير الرأي العام وزعزعة السلم الاجتماعي.
القضايا العربية في الإعلام الغربي:
لا يكاد الإعلام الغربي يغيب عن الأحداث والوقائع العربية، ولا يكتفي بمواكبتها، بل يعمل على تأزيمها وتعقيدها، ويجعل من تعدّد الأعراق والطوائف والأديان والمذاهب والحدود في البلاد العربية، مشاريع أزمات مستقبلية يمكنه إثارتها وتحريكها وتضخيمها خدمةً لأجندات حكوماته، كما أن خطورة اهتمامه بمجمل القضايا العربية، تكمن في أنها تدخل في باب الترصّد وخدمة الأجندات الخفية التي عادة ما تتستر تحت القناع الإنساني.
يحترف الإعلام الغربي سياسة التهويل والتضليل في تناوله للقضايا العربية، من خلال بث الأخبار الموجّهة والمعلومات الملفّقة، والمغالطات والبيانات غير الصحيحة، والمفتقرة إلى المنطق والواقعية، لإرضاء اللوبيات أو المموّلين، وذلك على حساب ميثاق ومعايير العمل الإعلامي والمهنية، التي لطالما تغنى بها أمام العالم.
إن طريقة تعامل الإعلام الغربي مع القضايا العربية والإسلامية لفتت أنظار الكثير من الباحثين والمراقبين، وأثارت العديد من التساؤلات وعلامات التعجب والاستفهام، خاصة من زاوية ليّ أعناق الحقائق والتهويل من حجم المشاكل بطريقة مكشوفة، ويرى هؤلاء المراقبون أن وسائل الإعلام الغربية ومنها الأمريكية، تتبع أسلوب ما يسمى بـ (التباين الزائف) عند تناولها للقضايا العربية، ويعني ذلك وجود تباينٍ في المواقف الإعلامية لوسائل الإعلام الأمريكية فيما يتعلق بالقضايا التي تهم مصالح فئة معينة في بعض الأحيان، وهو ما يظهر وكأنه حياد في الطرح وموضوعية في التغطية الإعلامية، لكن عند التدقيق في هذا التباين، نجد أنه في النهاية يقدم ما يخدم هذه الفئة المعنية فقط، وإن ظهر أن هناك اختلافاً في الرؤى والمواقف.
ويمارس اللوبي الصهيوني الموالي لإسرائيل في أمريكا هذا الأسلوب المخادع عبر منهجية دائمة ومؤثرة أيضاً، فعند تغطية أخبار الصراع العربي الإسرائيلي في الإعلام الأمريكي، يلاحظ أن بعض المحللين يتبنون الموقف الإسرائيلي بانحياز تام، وفي المقابل يقدّم البعض الآخر انتقاداتٍ هادئةً للموقف الإسرائيلي من وجهة نظر متعاطفة، في حين يتحدث طرفٌ ثالث بطريقة محايدة ودون اتخاذ موقف واضح. ولكن لا يوجد ضمن هذا التباين مَن يتبنى الموقفَ العربي أو الإسلامي في أيٍّ من هذه القضايا، ولذلك فإن شعوراً زائفاً يتملّك الرأي العام الأمريكي، يُوحِي بتباين المواقف المطروحة والاستماع إلى مختلف وجهات النظر، لكن وسائل الإعلام تلك، تحاول – في النهاية – تشكيل الرأي العام ليبقى في كل أحواله داخل منطقة خدمة مصالح إسرائيل وجماعات الضغط الصهيونية المؤيدة لها.
تشويه صورة الإسلام والمسلمين:
على صعيد تناول القضايا المرتبطة بالدين الإسلامي، تعمل وسائل الإعلام الغربية على نشر وتكريس الصورة المشوّهة عن الإسلام والمسلمين، وهو ما أدى إلى تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدول الغربية، فالصورة المنحازة التي يقدّمها الإعلام الغربي، توهم دولَ وشعوبَ الغرب بأن المجتمع الإسلامي هو النقيض المطلق للمجتمع الغربي، لذلك فإن حوالي نصف الشعوب الأوروبية يعتبرون الدين الإسلامي الأكثر عنفاً من بقية الأديان، ويعتقدون أنه لا يتماشى مع الثقافة الغربية الحديثة، وفي بعض مناطق أوروبا، تصل نسبة المواطنين الذين يعادون الإسلام بشكل علني إلى ما يربو عن 70% إلى 80%.
ومن هنا ساهم الإعلام الغربي عن قصد في الصعود المخيف للحركات اليمينية والشعبوية، في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، كما واصل هذا الإعلام زرع بذور الانقسام والخوف، والترويج بشكل مستمر لقيادات التيار اليميني المتطرف المعادي للإسلام والمسلمين، لتهيئة الأرضية والمناخ الاجتماعي الملائمين لنجاح هؤلاء السياسيين، الأمر الذي يعمّق خطورة الكراهية الغربية للإسلام والمسلمين في بلاد الغرب والعالم.
وقد أدّت سياسات الإعلام الغربي المعادية لقضايا العرب والمسلمين، إلى فقدان هذا الإعلام الكثير من الثقة والمصداقية لدى شعوب المنطقة، بل لدى كثير من شعوب العالم أيضاً، ومنها الشعب الأمريكي، حيث أكدت بحوث أمريكية تتبّعية، أن تراجع ثقة الأمريكيين في الصحافة والإعلام ظهر منذ أكثر من عقدين، وهناك مؤشرات تؤكد زيادة معدلات انحسار ثقة الناس فيما يقدّم لهم من أخبار ومعلومات وصور وآراء، وذلك بسبب الاحتكار في ملكية وإدارة الإعلام الأمريكي، حيث أن 90% من وسائل الإعلام الأمريكية تملكها 6 شركات كبرى، ما يعني تراجع نسبة الاستقلال في التقارير والآراء، لأن هذه الشركات تسعى إلى تحقيق الأرباح بغضّ النظر عما تقدّمه من حيادية تقاريرها وأخبارها.
وختاماً.. فقد تحول الإعلام الغربي من خانة نقل المعلومات إلى خانة صناعتها، ليصل إلى درجة الاحتراف في التأثير على الناس وإعادة تشكيل المواقف والآراء، مستخدماً مساحة الحرية التي يرفعها شعاراً له، حيث يتلاعب بهذه المساحة المخادعة وفق سياسة ماكرة تُظهِر الحرية تارة وتقمعها أخرى، بحسب مصالح حكوماته ولوبيات الضغط وأجهزة الاستخبارات.
ولا شك أن الحرية في الطرح والاحترافية في طرق صناعة الخبر وتقديمه للناس، والقالب التقني المتطوّر الذي يُعرض فيه وسرعة الأداء، توسّع الشريحة المتأثرة بهذا الإعلام، وهذا ما يسعى إليه الإعلام الغربي بقوة، حتى يقلل من مساحات انعدام الثقة بمصداقيته التي بدأت تتسع يوماً بعد يوم، خاصة مع تعامل قطاعات عريضة من شعوب العالم مع هذا الإعلام، بالشكل النقدي والعقلاني، وفرز ما يقدّمه من أخبار وتقارير ومعلومات.