ترجمات

لماذا خطة بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني غير منطقية؟

في تحرُّكٍ لافتٍ يشير إلى تصعيد التوترات مع الغرب، أكدت طهران علنًا إنتاج اليورانيوم المخصَّب بنسبة 20% في منشأة نووية تحت الأرض واحتجاز ناقلة نفط كورية جنوبية تمر عبر الخليج، بدعوى تلويثها مياه الخليج بالكيماويات.
وقد يكون هذا التصعيد متعمَّدًا لممارسة ضغط إضافي على الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن للعودة مجددًا إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، وهي خطوة من شأنها أن تخفف العقوبات المكثفة عن نظامٍ يعاني من ضغوط اقتصادية هائلة.
ولكن إذا استسلم بايدن للابتزاز النووي وتخلَّى عن العقوبات، فسوف يتنازل عن أهم مصادر نفوذه ضد طهران ولن يحقق هدفه المعلن في التفاوض على اتفاقٍ أفضلَ وطويلِ الأمد، وفقًا لتقرير موسع لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية.
عيوب وثغرات صارخة في الاتفاق النووي لعام 2015
قبل خمس سنوات، عارَضَ كلُّ الجمهوريين تقريبًا في الكونجرس الأمريكي والعديد من الأعضاء الديمقراطيين البارزين في مجلس الشيوخ، بما في ذلك السيناتور تشارلز شومر، وبوب مينينديز، وجو مانشين، الاتفاق النووي الإيراني لأسباب مقنعة، تتمثل في أن الاتفاق حدَّد تواريخ انتهاء صلاحية القيود الرئيسية، واستبعد عمليات التفتيش عند الطلب، وسمح لإيران بالحفاظ على قدرات التخصيب النووي.
كما لم يتطرَّق الاتفاق إلى برنامج الصواريخ المتسارع لدى النظام الإيراني، وأعطى “طهران” الموارد المالية لرعاية العدوان الإقليمي والإرهاب، وتَجَاهَلَ انتهاك طهران الفاضح لحقوق الإنسان.
وفي إشارة إلى هذه العيوب، قال بايدن مؤخرًا إنه يريد البناء على اتفاق عام 2015 من أجل التوصل إلى اتفاق جديد لتشديد وإطالة القيود النووية الإيرانية، والتعامل مع برنامج الصواريخ.
وكان الرئيس الأمريكي المنتخب قد وعد خلال الحملة الانتخابية الرئاسية أيضًا بمواجهة سِجِلِّ إيران في مجال حقوق الإنسان وأنشطتها المزعزعة للاستقرار التي تهدد أصدقاء وشركاء الولايات المتحدة في المنطقة، لكنه يؤكد دومًا أن الطريقة الوحيدة للتفاوض على إطار عمل جديد هي العودة أولًا إلى الإطار القديم، أي الاتفاق النووي لعام 2015.
العقوبات على طهران تظل السلاح الأجدى لإجبارها على الامتثال
وتبرز هنا مشكلة كبيرة في هذا المنطق، وهي أن العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي يتطلَّب من واشنطن رَفْع عقوباتها الأشد قسوةً، وبالتالي فإن الضغط الاقتصادي ضد طهران الذي وَرِثَه بايدن عن سلفه الرئيس دونالد ترامب سوف يتبخَّر بمجرد تخفيف العقوبات.
وقد عمل الكونجرس لسنوات على سَنِّ عقوبات صارمة لإجبار النظام الإيراني على التخلِّي عن أنشطته الخبيثة، وسبق أنْ أرجع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الفضل لهذه العقوبات في جلب إيران إلى طاولة المفاوضات.
وبالتالي السؤال الواضح إذن هو: إذا كان الضغط عبر العقوبات الأمريكية ضروريًّا للتوصل إلى اتفاق “معيب” بشدة مثل الاتفاق النووي الإيراني، فكيف يمكن لبايدن أن يتفاوض بشأن المزيد من القيود على إيران مع ضغط اقتصادي أقل بكثير؟
إن تراجُع بايدن عن العقوبات في مواجهة تهديدات إيران بتوسيع أنشطتها المتعلقة بالتخصيب، وطَرْد المفتشين الدوليين، وبناء مفاعلات نووية إضافية، سيمثل في الواقع استسلامًا لأسلوب الابتزاز النووي، من شأنه أن يبعث برسالة واضحة إلى نظام الملالي مفادها أنه يمكنهم انتظار المفاوضات مع إدارة بايدن، لأنه لن يعيد فرْض العقوبات خَشْيَةَ أنْ توسِّع إيران أنشطتها النووية مرة أخرى.
بالإضافة إلى ذلك البعد، ثمة تحدٍّ آخَرَ لمساعي بايدن للعودة إلى الاتفاق النووي، وهو أن الاتفاق بدأ بالفعل في الانتهاء، فقد دخل إنهاء قيود الأمم المتحدة على نقل الأسلحة التقليدية إلى إيران حيِّز التنفيذ بالفعل في أكتوبر الماضي.
ولولا أمرٌ تنفيذيٌّ أصدرته إدارة ترامب يهدد بفرض عقوبات على روسيا والصين إذا نَقَلَتَا أسلحة إلى إيران، لكانت مبيعات الأسلحة هذه جارية الآن، وفي مقابل ذلك لم يذكر بايدن حتى الآن ما إذا كان سينفذ تلك العقوبات.
من هذا المنطلق، يجب أن تدفع التطورات في المجال النووي “بايدن” إلى توضيح تقديراته بأن “طهران” ستعود إلى الامتثال الصارم للاتفاق القديم، إذا عادت واشنطن للانضمام إليه، فلدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أدلة على أن “إيران” تُخفي موادَّ وأنشطةً ومواقعَ نوويةً غيرَ مُعْلَنَةٍ.
كما تتبع تحقيقات الوكالة أرشيف الأسلحة النووية السري للنظام الإيراني الذي استحوذت إسرائيل عليه سرًّا في عام 2018، وكذلك التصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية بأن “إيران” تحتفظ بعلماء نوويين يعملون في وكالة عسكرية.
ولذلك على أقل تقدير يجب على بايدن مطالبة إيران بالمساءلة الكاملة عن أنشطتها النووية السرية قبل النظر في أدنى تخفيف للعقوبات، وإلا فسوف يكون قد استبدل نفوذ واشنطن دون تحقيق شَرْطه الوحيد.
ترجيحات بمعارضة الكونجرس أي تحفيف محتمل للعقوبات
ومن المتوقع أن يعارض الكونجرس (رغم سيطرة الديمقراطيين على مجلسي النواب والشيوخ) تخفيف العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، تمامًا كما اتحد الديمقراطيون والجمهوريون في عام 2017 لتمرير تشريع يطالب إدارة ترامب بتصنيف الحرس الثوري ككيان إرهابي وفرض عقوبات على الشركات التابعة له.
واللافت هنا أن هذا التصويت جاء بينما كانت الولايات المتحدة لا تزال تشارك في الاتفاق النووي.
وفي العام الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على البنك المركزي الإيراني بسبب تمويله لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، وحزب الله اللبناني، كما أعلنت شبكة إنفاذ قوانين الجرائم المالية الأمريكية أن القطاع المالي الإيراني هدفٌ أساسيٌّ في مجال مكافحة غسل الأموال، وهي نتيجة تعزَّزت بدعوة فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية الحكومية الدولية لإدراج النظام المصرفي الإيراني في القائمة السوداء بسبب وجود أدلة على تمويل الإرهاب.
وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات في إطار مكافحة الإرهاب على شركتي النفط والناقلات الوطنيتين الإيرانيتين -وهما ركيزتان من ركائز الاقتصاد الإيراني- لدعمهما المالي للحرس الثوري الإيراني.
لذلك يجب أن يبعث الكونجرس برسالة واضحة إلى الإدارة القادمة مفادها أن تخفيف العقوبات الذي يفيد الحرس الثوري الإيراني وأعوانه أمرٌ غيرُ مقبول.
ذروة تأثير استراتيجية الضغط الأقصى على إيران لم تَأْتِ بَعْدُ
في مقابل ذلك، يتجنَّب مؤيدو الاتفاق النووي الإيراني مناقشة العديد من المغالطات المتأصلة في العودة إلى الاتفاق، ويشيرون إلى التوسع الإيراني الأخير في أنشطة تخصيب اليورانيوم وأن استراتيجية الضغط الأقصى لإدارة ترامب قد فشلت.
إن الطريقة الوحيدة لاحتواء البرنامج النووي الإيراني من منظورهم هي دفع نظام الملالي لوقف التخصيب حتى لو كان ذلك يعني تمويل الحرس الثوري الإيراني والانضمام إلى صفقة منتهية الصلاحية، وغضّ الطرف عن النشاط النووي السري وتجارب الصواريخ وانتهاكات حقوق الإنسان، وتَرْك قدرات إيران في مجال التخصيب على حالها حتى يتمكن النظام من زعزعة المجتمع الدولي للحصول على مزيد من الأموال في المستقبل.
ويتجاهل مؤيدو الاتفاق أن تطبيق الحد الأقصى من الضغط لم يتجاوز عامًا واحدًا، وأن الأمر استغرق من إدارة أوباما أربعة أعوام لجَلْب إيران إلى طاولة المفاوضات وعامين آخرين للتوصل إلى الاتفاق النووي.
أمَّا إدارة ترامب فقد ظلت في الاتفاق النووي الإيراني حتى عام 2018، وسمحت الإعفاءات من العقوبات لطهران بتصدير مليون برميل يوميًّا من النفط حتى عام 2019.
ولم تصل العقوبات إلى خطوط النقل البحري الإيرانية والشركات غير النفطية والقطاع المالي إلا في عام 2020.
وقد أفاد صندوق النقد الدولي بالفعل أن “إيران” لديها فقط بضعة مليارات من الدولارات من احتياطيات النقد الأجنبي المتبقية، لذلك فذروة تأثير استراتيجية الضغط الأقصى لم تأتِ بعدُ.
وثمة حقيقة مهمة أخرى يتجاهلها مؤيدو الاتفاق النووي، تتمثَّل في أن النظام الإيراني يهدد المجتمع الدولي بتخصيب اليورانيوم، لأن الاتفاق سمح لطهران بالاحتفاظ بقدراتها المتعلقة بالتخصيب، وطالما احتفظت بهذه القدرات يمكنها التهديد بتوسيع عمليات التخصيب في أي وقتٍ تختاره.
ومع ذلك فإن نظام الملالي تجنَّب التحركات النووية العلنية التي قد تؤدي إلى توجيه ضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية، إذ يبدو أن التصعيد البطيء والمطَّرِد لعملية التخصيب يهدف إلى خَلْق القلق والضغط السياسي في أوروبا بدلًا من تحطيم الخطوط الحمراء للولايات المتحدة أو إسرائيل لتفادي القيام بعمل عسكري ضد إيران.
وأخيرًا، من المنطقي تمامًا أن يكون الرئيس الأمريكي المنتخب يريد العمل مع حلفاء الولايات المتحدة لمواجهة تحديات الأمن القومي الكثيرة التي تفرضها إيران، لكنَّ غَضَّ الطرف عن الخداع النووي لنظام الملالي، والاندفاع إلى اتفاقٍ انتهتْ صلاحيتُه بالفعل، وتقويض النفوذ التفاوضي للولايات المتحدة، سيكون بمثابة دعم للنشاط التوسعي الإيراني وتشجيع لرعايتها للإرهاب.
الأمر الذي يُؤكد عدم جدوى الاستراتيجية المتوقعة لإدارة بايدن في التصدي للملف النووي الإيراني.

زر الذهاب إلى الأعلى