تقارير

ملامح النظام العالمي ما بعد كورونا

بعد مرور عامٍ على بدء انتشار فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” في جميع أنحاء العالم، بدأت ملامح نظام عالمي جديد أعاد الوباء تشكيله في الظهور، حيث أدى هذا الوباء إلى تحوُّلات في القوة السياسية والاقتصادية داخل البلدان وفيما بينها.
وفي قلب تلك التحولات تأتي قضايا مثل مستقبل العولمة وطبيعة العلاقات الاقتصادية ودرجة الاعتماد المتبادل بين الدول، والدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في النظام الدولي، فضلًا عن تسليط الضوء على ما تصفه مجلة “إيكونوميست” البريطانية بأزمة القرن المقبل الحتمية والأكثر تأثيرًا، ألا وهي تغيُّر المناخ، ولعل ذلك ما يشير لعدم إمكانية العودة إلى عالَم ما قبل “كوفيد-19”.
الكشف عن نقاط ضعف النظام الدولي.. والحاجة الملحَّة إلى قيادة فاعلة
أصبح فيروس كورونا أحد أكبر الضغوطات على النظام الدولي الهش بالفعل، حيث كشف نقاط الضعف وفاقَمَ المشكلات المزمنة. وقد سلطت الأزمة الضوء على مدى سوء تجهيز الأنظمة الصحية العالمية، ممَّا أجبر العديد من البلدان على اتخاذ قرارات لتحديد مَن هم الأكثر استحقاقًا لتلقِّي الرعاية الطبية بين مواطنيهم.
علاوة على ذلك، بدلا من بناء تحالُف عالمي متجدد لمكافحة هذا المرض المروِّع، اعتمدت العديد من البلدان سياسات انعزالية، مما أدى إلى استجابات مجزَّأة وغير فعَّالة، حيث ارتفعت الحالات مرة أخرى بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، وكانت الولايات المتحدة واحدة من أسوأ الأمثلة.
ومن هذا المنطلق، يرى جون ألين، مدير معهد بروكينغز الأمريكي للبحوث أن كورونا يمثل سلسلة معقدة من المشكلات المترابطة التي تتطلب حلولًا متعددة الأطراف يصوغها القادة حول العالم لمعالجة قضايا مماثلة تتسم بالعالمية مثل تغير المناخ والحاجة إلى انتعاش اقتصادي عالمي وتعزيز النظام الدولي. ففي حين أن العلم سينقذنا في نهاية المطاف، لكن لا أمل في اتخاذ إجراءات منسقة ضد المرض -وفي التعافي النهائي- بدون قيادة فاعلة على المستوى الدولي.
تراجُع الدور الحكومي مقابل بزوغ دور الشركات الأمريكية على الساحة الدولية
اعتبرت آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمركز “New America” للدراسات أن الوباء أثبت بشكل قاطع أن الحكومة الأمريكية ليست لاعبًا لا غنى عنه في الشؤون العالمية، فقد انسحبت إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ورفضت الانضمام إلى مبادرة كوفاكس، التي تضم 172 دولة لضمان الوصول العالمي العادل إلى لقاح، لكن بقية العالم قد تحرَّك إلى الأمام.
ورأت سلوتر أن المنظمات والشركات والجامعات الأمريكية هي التي لا غنى عنها، فقد ساعدت مؤسسة بيل وميليندا غيتس في تنظيم تحالُف جافي (التحالف العالمي للقاحات والتحصين)، والتحالف من أجل ابتكارات التأهُّب للأوبئة، وكلاهما شريكان رئيسيان في الاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية في جهود مكافحة الأوبئة.
كما تعتبر شركات الأدوية الأمريكية بالغة الأهمية في تطوير اللقاح وتصنيعه وتوزيعه حتى في الوقت الذي تحرز فيه الشركات الأوروبية أيضًا تقدُّمًا سريعًا. ويلعب الأطباء وعلماء الأوبئة الأمريكيون أدوارًا حيوية من خلال مشاركة المعلومات حول الفيروس، بالإضافة إلى الاستراتيجيات الناجحة للوقاية والعلاج.
تحوُّلات متسارعة في مظاهر العَوْلَمَة
نظرًا للتأخيرات الحتمية في توزيع اللقاحات، لن يختفي فيروس كورونا قريبًا، لهذا السبب سيستمر الوباء في تغيير مظاهر العولمة والتصنيع بشكل كبير.
وتشير لوري غاريت، الكاتبة بمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية إلى أن نصف الرؤساء التنفيذيين لشركات بقائمة مجلة “فورتشن- Fortune” لأقوى 500 شركة عالمية لا يخططون لاستئناف سفريات العمل إلى مستويات عام 2019، ويتوقع أكثر من الربع أن القوى العاملة لديهم لن تستعيد حجمها خلال فترة ما قبل انتشار الوباء.
ويرى ثمانية من كل عشرة مديرين أن القومية ستصبح قوة مهيمنة في البلدان التي يعملون فيها، مما يؤثر على سلاسل التوريد وقرارات تحديد مواقع العمل والمناخ التنظيمي، كما أن معظم مديري هذه الشركات مقتنعون بأن التحول الأسرع إلى الروبوتات والذكاء الاصطناعي سيساعد في جعلهم بمأمن من الأمراض التي تتعرض لها الأيدي العاملة والصدمات الوبائية في المستقبل.
واللافت هنا أن معظم الشركات والمشترين الحكوميين لم يعملوا حتى الآن على حل مشكلات الإنتاج والإمداد في عصر الوباء، لكن الأرجح أنهم سيقومون بتنويع الموردين ليكونوا أقل اعتمادًا على دولة واحدة مثل الصين وبناء مخزونات ضد الاضطرابات المستقبلية.
في المقابل، يرى جوزيف ناي، العميد السابق لكلية كينيدي للإدارة الحكومية بجامعة هارفارد أن العولمة أو الاعتماد المتبادل عبر القارات يستجيب للتغيرات في تكنولوجيا النقل والاتصالات، حيث غيَّر فيروس كورونا شكل العولمة فقط -سفر أقل واجتماعات أكثر افتراضية– وليس حجمها.
واستبعد ناي أنْ تؤدي هذه التعديلات إلى تغيير جذري في سلاسل التوريد العالمية أو التجارة الدولية، فحتى لو فعلوا ذلك لن يتمكنوا من تفكيك الترابط البيئي المتزايد في العالم، فبينما تتأثر العولمة الاقتصادية بالحكومات، فإن الجوانب البيئية للعولمة مثل تغيُّر المناخ وانتشار الأوبئة تحددها قوانين الطبيعة، فالجدران والرسوم الجمركية لا توقف التهديدات البيئية العالمية العابرة للحدود الوطنية، على الرغم من أن الحواجز أمام السفر والركود الاقتصادي المستمر قد يبطئها إلى حدٍّ ما.

ما بين انطلاقة القرن الآسيوي والتأثير السياسي العميق داخل الولايات المتحدة
من جهة أخرى، يرى كيشور محبوباني، الباحث في معهد أبحاث آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية، أنه عندما يبحث المؤرخون في المستقبل عن بداية ما سماه “القرن الآسيوي”، فقد يشيرون إلى أزمة كورونا على أنها اللحظة التي عادت فيها الكفاءة الآسيوية إلى الظهور بقوة.
ويستند محبوباني في ذلك إلى لغة الأرقام، فمعدل الوفيات بالفيروس لكل مليون شخص في شرق وجنوب شرق آسيا أقل من أوروبا، حيث يبلغ في الصين (3 حالات) وسنغافورة (5) وكوريا الجنوبية (10) واليابان (17) مقارنة ببلجيكا (1446) وإسبانيا (979) وبريطانيا (877) والولايات المتحدة (840)، وإيطاليا (944.(
ويشير إلى أن الأرقام هي قمة جبل الجليد، وخلفها تكمن القصة الأكبر من انتقال الكفاءة من الغرب إلى الشرق، فالمجتمعات الآسيوية من خلال تجربتهم السابقة مع أوبئة مثل سارس، أدركت وجوب التحلِّي بالصرامة واليقظة والانضباط لمواجهة كورونا.
وفي ذات الإطار، يرى ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في كلية هارفارد كينيدي، أن “كورونا” سرَّع من عملية تحوُّل السلطة من الغرب إلى الشرق، ووضع المزيد من القيود على العولمة، ممَّا أدى إلى عالم أقل انفتاحًا وازدهارًا، لكن الوباء لم يضع حدًّا للجغرافيا السياسية التقليدية أو الخصومات الوطنية، ولم يشرع في حقبة جديدة من التعاون العالمي.
وبينما تتعافى الصين حاليًّا، تواجه الولايات المتحدة وجزءٌ كبيرٌ من أوروبا موجاتٍ أخرى من الوباء، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى فشل القادة في الاستجابة بسرعة وفعالية، ولكن هذا النمط لا يبرر الحكم السلطوي، فقد كان أداء أستراليا وكندا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وتايوان جيدًا، بينما تعثرت دول ديكتاتورية مثل إيران.
ويعني ذلك أنه لم يكن هناك ارتباط بين النظام السياسي لبلدٍ ما وأدائه في التعامل مع الوباء، إذ كان أداء بعض الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية جيدًا، والبعض الآخر بائسًا، مما يشير إلى أن ما يهم هو القيادة والتنفيذ.
ويرى ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي أن التأثير السياسي الأكبر كان في الولايات المتحدة، حيث أسهمت الاستجابة الفيدرالية غير الكفؤة للوباء وآثاره الاقتصادية بشكل كبير في هزيمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات. فلو لم يكن هناك جائحة، أو قوبلت بقدر ضئيل من المهارة، لكان ترامب قد انتصر، ووضع البلاد على مسار مختلف تمامًا في الداخل والخارج.
ويستبعد هاس أن يؤدي الوباء إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية بشكل جذري، بل يرجح أن يُنظر إليه في وقت لاحق على أنه حدث فريد وليس نقطة تحول.
عراقيل أمام القوى الاقتصادية الصاعدة.. وانتعاشة لاقتصادات العالم الحر
ربما تكون التغييرات الأكثر أهمية التي يحدثها الوباء اقتصاديةَ الطابع، حيث أدى الوباء إلى اتساع عدم المساواة، لأن أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية واحتياطيات رأس المال والوظائف التي يمكن القيام بها عن بُعد هم أكثر حظًّا.
ويرى كوري شاك، مدير وحدة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد إنتربرايز الأمريكي لأبحاث السياسات أن تكاليف الوباء هائلة لدرجة أنها ستحفز بشكل كبير التعاون الدولي لمكافحة الأوبئة في المستقبل، حيث ستحوِّل الميزانيات الحكومية الإنفاق من الدفاع إلى الصحة العامة لتصبح الأخيرة جزءًا لا يتجزَّأ من الأمن القومي. ومن المرجح أن تواجه القوى الاقتصادية الصاعدة عراقيل، في حين أن اقتصادات العالم الحر في وضع يسمح لها بالانتعاش والسيطرة على ميادين جديدة.

مخاطر انقسام العالم إلى جُزُر منعزلة
يرى شيفشانكار مينون، المستشار السابق للأمن القومي لرئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ، أن العالم في عام 2020، أفسد الفرصة التي أتاحتها الأزمة، فقد فشل في إحياء التعددية.
كما سرَّع الوباء من محاولة تجزئة الاقتصاد العالمي إلى “فقاعات- Bubbles” تعتمد على الذات، وهي محاولة من المستبعد أن تُكلَّل بالنجاح، ولكن من المرجح أن تُفقِرنا جميعًا عن طريق الحد من النمو.
ووفقًا لمينون، إذا حكمنا من خلال الأداء الضعيف لقادة العالم والمنظمات الدولية حتى الآن، فقد ترك الوباء العالم أيضًا أقل قدرة على مواجهة المستقبل والتعامل مع القضايا العابرة للوطنية التي تؤثر علينا جميعًا مثل تغيُّر المناخ والأوبئة المستقبلية والأمن السيبراني والأمن البحري والإرهاب الدولي.
وانطلاقًا ممَّا سبق يتضح أن النظام الدولي يتعرض إلى تحولات كبرى تمس بالأساس رؤية العالم إلى التهديدات الدولية، حيث يتزايد الاهتمام بفعل جائحة كورونا بنمط التهديدات غير التقليدية للأمن الدولي والتي يندرج تحتها أزمات الصحة العامة، مما يستلزم إعادة النظر في أولويات الإنفاق، لا سيما في مجالات الصحة والتعليم والبحث العلمي، فضلًا عن أهمية الدور الذي تلعبه الجهات الفاعلة من دون الدول كالشركات متعددة الجنسيات والجامعات والمعاهد البحثية.
كما أكدت الجائحة أهمية التعاوُن والتكاتُف الدولي في مواجهة الأزمات، مما تجسّد في الحالة الأوروبية عبر حزمة إنقاذ مالية لمواجهة تداعيات الأزمة، بينما أظهر انكفاء الولايات المتحدة على ذاتها وانسحابها من منظمة الصحة العالمية، فشلًا ذريعًا وتفاقُمًا متسارعًا للوباء على أراضيها.
واللافت أيضًا أنه رغم ما وَاجَهه العالم من أزمة غير مسبوقة في عام 2020 فإن الصراعات التقليدية والحروب لم تتوقف بدءًا من المناوشات بين الصين والهند، ومرورًا بالحرب بين أذربيجان وأرمينيا، ووصولًا لساحات المعارك المشتعلة في الشرق الأوسط.

زر الذهاب إلى الأعلى