دراسات

نمو الاقتصاد الرقمي في الخليج العربي.. المزايا والتحديات

ركَّزت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي في اسنوات الأخيرة على هدف تنويع اقتصاداتها وتعزيز النمو، وارتباطًا بذلك الهدف أَوْلَتْ اهتمامًا كبيرًا بالدور المركزي الذي تلعبه الرقمنة في تلك العملية، كما دفعت التطورات التي يشهدها العالم بفعل جائحة فيروس كورونا إلى تسريع ذلك الاتجاه.
وتمثل الرقمنة أداة أساسية لبرامج التحول الجارية، حيث تسعى الحكومات الخليجية إلى تقليل اعتماد اقتصاداتها على النفط والغاز، وفي مقابل ذلك الوجه الإيجابي لتلك العملية، تحتاج الحكومات أيضًا إلى الأخذ في الاعتبار المخاطر المرتبطة برقمنة الاقتصاد وكيفية التغلب عليها.
مزايا رقمنة الاقتصاد وجهود المملكة لمواكبة ذلك التحوُّل
ووفقًا للمجلس الأطلسي (معهد بحثي مقره واشنطن)، تعد الميزة الأبرز للنشاط الاقتصادي الرقمي أنه ينمو بشكل أسرع من الأجزاء الأخرى من الاقتصاد، فعلى سبيل المثال، سجَّل القطاع الرقمي في بريطانيا، خلال عام 2018 معدل نمو يفوق بنحو ستة أضعاف نمو اقتصاد الدولة ككل.
علاوة على ذلك، توفِّر الثورة الرقمية فرصة فريدة لتخطِّي عقود من التطور التدريجي واكتساب موطئ قدم في صناعات طالما كانت حكرًا على الاقتصادات الأكثر نضجًا، ومن أبرزها الخدمات المالية، إذ تطمح العديد من دول مجلس التعاون الخليجي في الارتقاء إلى مصاف أفضل المراكز المالية العالمية.
ويعد جذب وتعزيز التكنولوجيا المالية مكونًا مهمًّا ومركزيًّا في استراتيجيات الدول الخليجية لتطوير ذلك القطاع، بالإضافة إلى وضع لوائح مخصصة لتراخيص البنوك الرقمية وتوفير البنية التحتية التكنولوجية، ودعم تنمية رأس المال البشري، وغيرها من التدابير الأخرى.
ومن النماذج الرائدة في هذا المجال، تعاون المملكة العربية السعودية خلال رئاستها لمجموعة العشرين مع مركز الابتكار التابع لبنك التسويات الدولي، في إطلاق “هاكثون مجموعة العشرين للتسارع التقني-TechSprint”، الذي يهدف إلى تحفيز المشاركين على إيجاد حلول تقنية يمكن من خلالها مواجهة التحديات التنظيمية والإشرافية.
كما سبق أنْ دشَّنت المملكة أيضًا وحدة التحول الرقمي الوطنية وهي أحد البرامج الأساسية لتحقيق رؤية 2030، إذ تتمثل مهمة الوحدة في بناء بنية تحتية رقمية عالمية المستوى، وتمكين المواهب المبتكرة من اغتنام الفرص. ولدعم وتسريع عملية التحول الرقمي تتعاون الوحدة مع شركاء من القطاعين العام والخاص.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المملكة العربية السعودية من الرواد على مستوى العالم، من حيث وصول الإنترنت في المدارس، وتَشْغَل المرتبة الرابعة من حيث الترويج الحكومي للاستثمار في التقنيات الناشئة، وفقًا للمجلس الأطلسي.
السعودية الأولى خليجيًّا والتاسعة عالميًّا في معيار الاستجابة الحكومية لمخاطر التحوُّل الرقمي
وعلى مدار العام الماضي 2020، أدى الوباء إلى تسريع اتجاه الرقمنة السائد بالفعل، فسرعان ما أصبح العمل من المنزل والاجتماعات الافتراضية ممارسات مقبولة في المنطقة، وقد أفاد العديد من الخبراء المهنيين تحقُّق الانضباط والفعالية في تلك الاجتماعات، كما تزدهر التجارة عبر الإنترنت والبث الترفيهي واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي حين أنه من الواضح أن تبنِّي التكنولوجيا له مزايا كبيرة، إلا أن هناك أيضًا مخاطر مهمة، حيث ترتبط الجوانب الأكثر نقاشًا بأمن المعلومات وإساءة استخدام البيانات الشخصية.
وقد أدرج تقرير المخاطر العالمية، الذي تنشره شركة “مارش وماكلينان – Marsh & McLennan” بالشراكة مع “المنتدى الاقتصادي العالمي- The World Economic Forum”، “سرقة البيانات والاحتيال” ضمن المخاطر المحتملة خلال السنوات المقبلة، ولذلك أنشأت الحكومات في بعض البلدان البنية التحتية القانونية والتنظيمية للتعامل مع هذه المشكلات.
ويُظهر مؤشر أوليفر وايمان لمحو الأمية والتعليم بشأن مخاطر الإنترنت أن المملكة العربية السعودية لديها استجابة حكومية فعَّالة تجاه مخاطر التحول الرقمي، حيث تحتل المرتبة التاسعة عالميًّا والأولى خليجيًّا.
إطلالة على التحديات التي تواجه رقمنة الاقتصاد
في سياق متصل، يتزايد الآن الوعي عالميًّا بمجموعة من القضايا المتعلقة برقمنة الاقتصاد والتي يجب الاحتياط منها، وأبرزها:
الفجوة الرقمية: ويقصد بها الفجوة بين أولئك الذين لديهم وصول إلى أجهزة الكمبيوتر والإنترنت -بالإضافة إلى الفرص المرتبطة بها- وأولئك الذين لا يملكون ذلك.
فعلى سبيل المثال، سلَّط وباء كورونا الضوء على كيف أن الأطفال الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا فقدوا شهورًا من التعليم الرسمي، ممَّا خلق فجوة قد يكافحون من أجل تداركها.
الأمية الرقمية: مثل عدم القدرة على إيجاد وتقييم وتكوين معلومات واضحة من خلال المنصات الرقمية المختلفة. وهو أمر مرتبط بالفجوة الرقمية، ولكن يبقى التأكيد على أن الوصول إلى التكنولوجيا لا يضمن القدرة على استخدامها بفعالية، ويظهر ذلك على سبيل المثال عندما تخضع تصرفات المستخدمين لنظريات مؤامرة لا أساس لها مثل أسطورة “بيتزا جيت –Pizzagate”، التي كادت تؤدي إلى مأساة في عام 2016.
وهي نظرية مؤامرة ملفقة بالكامل تفيد أن مطعم بيتزا في واشنطن كان مركز عصابة للاتجار الجنسي بالأطفال، شارك فيها مسؤولون بارزون في الحزب الديمقراطي، بما في ذلك هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأمريكية آنذاك.
السلوك الضار عبر الإنترنت: مثل التضليل، والترويج لمحتوى إرهابي وعنيف، والاتجار في البضائع غير المشروعة. وقد ظهر التضليل بشكل واضح في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حيث انتشرت محاولات تستهدف النَّيْل من مصداقية العملية الديمقراطية.
المخاطر المتعلقة بقوة الاحتكار: حيث أصبح عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا، مثل فيسبوك وأمازون، لا يخضعون لإشراف حكومي رسمي ومنظم، وتستفيد كبرى شركات التكنولوجيا من الوصول إلى مجموعات كبيرة من العملاء.
على هذا الأساس، لن تكون استراتيجيات الرقمنة قابلة للتطوير والاستدامة إلا إذا تمت إدارة المخاطر المرتبطة بها بشكل فعال، وهذا يستدعي نقاشًا على المستويين الوطني والدولي حول الحلول المتاحة للقطاعين العام والخاص لتحقيق هذه النتيجة.
ويجري النقاش في بعض البلدان والمنظمات، حول كيفية إدارة هذه المخاطر بشكل جيد، على سبيل المثال، تحدد الورقة البيضاء للأضرار عبر الإنترنت في بريطانيا -قيد المراجعة حاليًّا- برنامج عمل لمعالجة المحتوى أو النشاط الذي يضر بالمستخدمين الفرديين، ولا سيما الأطفال، أو يهدد أسلوب الحياة في البلاد، إما عن طريق تقويض الأمن القومي أو بتقويض الحقوق والمسؤوليات والفرص. وفي الوقت نفسه، أصدرت المفوضية الأوروبية إرشادات أخلاقية للذكاء الاصطناعي، تتناول الاهتمامات المجتمعية والأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي.
ويشير المجلس الأطلسي إلى أنه إذا كانت دول مجلس التعاون الخليجي ترغب في لعب دور رائد في تشكيل مستقبل الاقتصاد الرقمي وجعله أساس تحولاتها الاقتصادية، فإنها بحاجة إلى معالجة هذه المخاطر بشكل مباشر، لافتًا في هذا الإطار إلى أن المملكة العربية السعودية بدأت بداية جيدة، حيث أنشأت المملكة مؤخرًا الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي بهدف تطوير أداء القطاعين العام والخاص من خلال الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.
وتشير الاستراتيجية الخاصة بالهيئة إلى تطوير إطار عمل تنظيمي يغطي جمع البيانات وتصنيفها ومشاركتها وسياسة البيانات المفتوحة وحرية المعلومات، كما تلفت الاستراتيجية في جانب التطوير المستقبلي للإطار التنظيمي إلى أنه سيتم تنقيح اللوائح السارية حاليًّا خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
توصيات لتطوير السياسات الخليجية ذات الصلة برقمنة الاقتصاد
وقد قدم المجلس الأطلسي مجموعة توصيات لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي من أجل النظر فيها خلال تطوير سياساتها ذات الصلة برقمنة الاقتصاد، وتتمثل فيما يلي:
استحداث إدارة خاصة في معظم قطاعات الاقتصاد تتولَّى غرس التكنولوجيا الرقمية، فليس من العملي التفكير في إمكانية تنظيم جميع الجوانب من قِبَل سلطة واحدة، ولكن من الأجدر أنْ تتولَّى إدارة في كل قطاع تلك المسؤولية شريطة أن تكون هناك فلسفة مشتركة ومجموعة من المبادئ التي توحِّد الإطار العام.
مرونة اللوائح التنظيمية وقدرتها على التكيُّف مع التغيير التكنولوجي والاجتماعي، بحيث يمكن إعادة صياغة المعايير لمواجهة المخاطر الجديدة، وهو ما يوفر الفرصة لمساءلة شركات التكنولوجيا بسرعة عند ظهور مخاطر غير متوقعة.
يجب أن تتناسب درجة التدخل الإشرافي مع حجم المخاطر المحتملة التي تشكِّلها الشركات، حيث ستتطلب الشركات الكبيرة فِرَق إشراف داخلية مخصصة للقيام بتلك المهمة، وهذا يضمن ألا تكون الشركات الناشئة في وضع غير عادل بسبب ارتفاع تكاليف الامتثال للمتطلبات من جانب الجهات التنظيمية.
العمل على زيادة كفاءة إدارة المخاطر من خلال الاستبدال بالتقارير الفصلية منصات تقنية تسمح للجهات التنظيمية بسحب المعلومات المتعلقة بمؤشرات المخاطر الرئيسية من أنظمة الشركات مباشرةً، وهنا ستكون قادرة على مراقبة الشركات بكفاءة أكبر.

وتأسيسًا على ما سبق.. يتضح أن الثورة الرقمية تسير على قدم وساق في دول مجلس التعاون الخليجي، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم، وإن كانت أهميتها تتزايد بالنسبة لمنطقة الخليج، نظرًا للدور الحاسم الذي تلعبه من أجل تنويع الاقتصادات الوطنية وتحويلها.
وليس من المستغرب أنْ تركِّز حكومات دول مجلس التعاون الخليجي على التدابير التي تعزِّز الرقمنة في جميع الجهات، لكن تحديد المخاطر المرتبطة بتلك العملية وإدارتها الاستباقية يُسْهِمَان في ضمان أن تكون الفوائد واسعة النطاق وشاملة ومستدامة.
وقد خَطَت المملكة في هذا المجال خطوات واسعة تجعل منها نموذجًا رائدًا في عملية التحول نحو الاقتصاد الرقمي في المنطقة والتغلُّب على المخاطر ذات الصلة بعملية الرقمنة تنظيميًّا وتشريعيًّا وعمليًّا، حيث تتماشى تلك الخطوات مع رؤية المملكة 2030 ومستهدفاتها.

زر الذهاب إلى الأعلى