شهد العقد الأخير نفوذًا متزايدًا لشركات التكنولوجيا الكبرى، حيث تعاظم تأثيرها في مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية، وتعاظمت مكاسبها وأرباحها، ما أوجد حالة من الاهتمام العام والأكاديمي بالبحث عن حلول للحد من قوة تلك المنصات وتأثيراتها السلبية.
من هذا المنطلق شكلت تلك القضية محورًا لمقال بعنوان “كيف يمكن إنقاذ الديمقراطية من التكنولوجيا؟” بمجلة “فورين آفيرز” الأمريكية في عدد يناير/ فبراير 2021، كتبه ثلاثة من كبار المفكرين الأمريكيين وهم فرانسيس فوكوياما زميل أول بمعهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية في جامعة ستانفورد، وباراك ريشمان أستاذ إدارة الأعمال في كلية الحقوق بجامعة ديوك، وآشيش جويل أستاذ علوم الإدارة والهندسة بجامعة ستانفورد، نستعرض أبرز محاوره على النحو التالي:
يعد نمو منصات الإنترنت العملاقة مثل أمازون وآبل وفيسبوك وجوجل وتويتر، أحد أبرز التحولات التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي، وقد اكتسبت تلك المنصات المزيد من النفوذ في ظل وباء فيروس كورونا المستجد والاتجاه إلى الإنترنت للحفاظ على استمرارية الأعمال.
ويمثل الدور المهيمن لتلك الشركات جرس إنذار ليس فقط لامتلاكها قدرًا كبيرًا من القوة الاقتصادية ولكن أيضًا لسيطرتها الكبيرة على نشر المعلومات وتنسيق عمليات التعبئة السياسية، الأمر الذي يشكل تهديدا فريدا من نوعه للديمقراطية.
وبينما سعى الاتحاد الأوروبي إلى فرض قوانين مكافحة الاحتكار على هذه المنصات، كانت استجابة الولايات المتحدة ضعيفة حتى وقت قريب، ولكن على مدار العامين الماضيين، بدأت لجنة التجارة الفيدرالية وائتلاف من المدعين العامين للولايات تحقيقات في انتهاكات محتملة تتعلق بممارسات احتكارية.
وتواجه شركات التكنولوجيا الكبرى حاليا انتقادات من الديمقراطيين، تحرِّكها مخاوف التلاعب من قبل المتطرفين، سواء كانوا محليين أو أجانب من جهة، وكذلك انتقادات الجمهوريين الذين يعتقدون أن المنصات متحيزة ضد المحافظين.
كما تسعى حركة فكرية متنامية، بقيادة مجموعة من علماء القانون المؤثرين إلى إعادة تفسير قانون مكافحة الاحتكار لمواجهة هيمنة المنصات.
وعلى الرغم من وجود إجماع حول التهديد الذي تشكله شركات التكنولوجيا الكبرى على الديمقراطية، فإنه لا يوجد اتفاق يذكر حول كيفية مواجهتها.
فقد جادل البعض بأن الحكومة الأمريكية بحاجة إلى القيام بتفكيك الشركات العملاقة مثل فيسبوك وجوجل، بينما دعا آخرون إلى لوائح أكثر صرامة للحد من استغلال هذه الشركات للبيانات، وفي المقابل فإن قلة فكرت في طريقة عملية للتخلص من دور المنصات كحراس للمحتوى، وقد برزت في هذا الإطار فكرة تقوم على الاعتماد على شركات “البرامج الوسيطة” من أجل تمكين المستخدمين من اختيار كيفية تقديم المعلومات إليهم، وهو طرح على الأرجح أكثر فعالية من محاولة تفكيك المنصات.
احتكار المعلومات ونشر الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة عبر منصات التكنولوجيا
أدرك الأمريكيون سلطة شركات التكنولوجيا في تشكيل المعلومات حينما سمحت هذه المنصات للمخادعين بنشر الأخبار المزيفة والمتطرفين لدفع نظريات المؤامرة، حيث أنشأت المنصات ما يعرف بـ”فقاعات الترشيح -filter bubbles”، وهي بيئة يتعرض فيها المستخدمون للمعلومات التي تؤكد معتقداتهم الموجودة مسبقًا، كما يمكن لشركات التكنولوجيا تضخيم أصوات معينة أو دفنها، ما يعني أن لها تأثيرًا على النقاش السياسي والانتخابات.
ويشكو التيار المحافظ من التحيز السياسي لمنصات الإنترنت، ويفترض أن مديري المنصات – جيف بيزوس (أمازون)، ومارك زوكربيرغ (فيسبوك)، وساندر بيتشاي (جوجل)، وجاك دورسي (تويتر)- يميلون إلى دعم التيار التقدمي، على الرغم من حقيقة أن دافعهم الأساسي هو المصلحة التجارية الذاتية.
تضييق الخناق عبر التنظيم الحكومي وتفكيك الشركات ونقل البيانات وقانون الخصوصية
وتعد الطريقة الأكثر وضوحًا للحد من قدرة منصات التكنولوجيا هي التنظيم الحكومي، وهو نهج متبع في أوروبا، وعلى الرغم من أن التنظيم قد يظل ممكنًا في بعض الديمقراطيات بدرجة عالية من الإجماع المجتمعي، فمن غير المرجح أن ينجح في بلد يعاني من الاستقطاب مثل الولايات المتحدة، وهو ما يشهد عليه سوابق تاريخية، من أبرزها فشل تطبيق مبدأ الإنصاف الذي أرسته لجنة الاتصالات الفيدرالية، حينما طلبت من الشبكات التليفزيونية الحفاظ على تغطية “متوازنة” للقضايا السياسية، لكن الجمهوريين هاجموا المبدأ، وزعموا أن الشبكات كانت متحيزة ضد المحافظين، ما دفع لجنة الاتصالات الفيدرالية إلى إلغاء هذا المبدأ في عام 1987.
ويشكل تحقيق منافسة أكبر بين المنصات، إحدى الوسائل للحد من نفوذها، ففي تلك الحالة لن يتمتع أي منها بالهيمنة التي تحظى بها فيسبوك وجوجل حاليا، لكن المشكلة تكمن في أنه لا يمكن للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي تفكيك تلك المنصات بالطريقة ذاتها التي تم بها تفكيك شركات مثل “ستاندرد أويل-Standard Oil” للنفط، فشركات التكنولوجيا ستقاوم بشدة هذه المحاولة، وحتى لو فشلت في التصدي للمحاولة فإن إتمام عملية التفكيك سيستغرق سنوات، إن لم يكن عقودًا.
بالإضافة إلى ذلك، هناك فرصة لنمو الشركة الوليدة الناجمة عن هذا التفكك بسرعة لتحل محل الشركة العملاقة التي تم تفكيكها، فضلًا عن أن قابلية التوسع السريع لوسائل التواصل الاجتماعي تسرع من وتيرة حدوث ذلك.
وفي ضوء الصعوبات التي تعتري عملية التنظيم الحكومي وتفكيك الشركات، طرح مراقبون فكرة “قابلية نقل البيانات” لتوفير عنصر المنافسة في سوق المنصات، ومفادها أنه مثلما تطلب الحكومة من شركات الهاتف السماح للمستخدمين بالاحتفاظ بأرقام هواتفهم ذاتها عند تغيير الشبكات، يمكن تفعيل حق المستخدمين في نقل بياناتهم من منصة إلى أخرى.
وقد اعتمدت اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) (أي النظام الأوروبي العام لحماية البيانات)، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2018، هذا النهج لنقل البيانات الشخصية، لكن هناك عددا من العقبات أمام نقل البيانات بين المنصات، فعلى الرغم من سهولة نقل بعض البيانات الأساسية
-مثل اسم الشخص وعنوانه ومعلومات بطاقة الائتمان وعنوان البريد الإلكتروني- سيكون نقل جميع البيانات الوصفية (الإعجابات والنقرات وعمليات البحث) للمستخدم أمرًا أصعب بكثير.
من جهة أخرى، يعتبر قانون الخصوصية أداة لكبح جماح المنصات، عبر الحد من قدرتها على استخدام بيانات المستهلكين.
فعلى سبيل المثال، تتطلب اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) استخدام بيانات المستهلك فقط للغرض الذي تم الحصول على المعلومات من أجله، ما لم يمنح المستهلك إذنًا صريحًا بخلاف بذلك.
لكن الاعتماد على قانون الخصوصية لمنع المنصات الكبرى من دخول أسواق جديدة يثير إشكاليات، منها أنه إذا منعت قوانين الخصوصية المنصات الجديدة من تجميع واستخدام مجموعات بيانات مماثلة، فإنها تؤمن مزايا للمنصات الأقدم التي جمعت بيانات واسعة عن المستخدمين.
البرامج الوسيطة حل واعد للحد من نفوذ منصات التكنولوجيا
وانطلاقًا مما سبق يثار تساؤل مفاده: إذا كان كل من التنظيم الحكومي والتفكيك وإمكانية نقل البيانات وقوانين الخصوصية عاجزة عن الحد من نفوذ المنصات، فما الذي يجب فعله؟ والإجابة تتمثل في البرامج الوسيطة، فهي أحد أكثر الحلول الواعدة.
وتعرف البرامج الوسيطة بأنها برمجيات تعمل عبر منصة موجودة حيث يمكنها تعديل عرض البيانات الأساسية، وتسمح للمستخدمين باختيار كيفية تنظيم المعلومات وتصفيتها.
ويمكن أن تؤثر البرامج الوسيطة الأكثر تدخلًا أيضًا على تصنيفات بعض الخلاصات، مثل قوائم منتجات أمازون أو إعلانات فيسبوك أو نتائج بحث جوجل أو توصيات مقاطع الفيديو على يوتيوب، فعلى سبيل المثال، يمكن للمستهلكين اختيار مزوِّدي البرامج الوسيطة الذين قاموا بتعديل نتائج بحث أمازون الخاصة بهم لإعطاء الأولوية للمنتجات المصنوعة محليا أو المنتجات الصديقة للبيئة أو السلع منخفضة السعر، كما يمكن أن تمنع البرامج الوسيطة المستخدم من مشاهدة محتوى معين أو تمنع مصادر معلومات معينة.
بعبارة أخرى يمكن للبرمجيات الوسيطة تلبية تفضيلات المستهلكين الأفراد مع توفير مقاومة كبيرة للإجراءات أحادية الجانب التي تتخذها المنصات المهيمنة، وذلك من خلال التوسط في العلاقة بين المستخدمين والمنصات.
لكن هناك العديد من الأسئلة المطروحة، ومنها ما مقدار سلطة التنظيم التي يجب نقلها إلى الشركات الجديدة (مقدمي البرامج الوسيطة)؟، وهنا يمكن للمنصة الاستمرار في تنظيم المحتوى وترتيبه بالكامل باستخدام خوارزمياتها الخاصة، وتعمل البرامج الوسيطة فقط كمرشح تكميلي.
فعلى سبيل المثال تظل واجهة فيسبوك أو تويتر دون تغيير إلى حد كبير، وتقوم البرامج الوسيطة فقط بفحص الحقائق.
إلا أن ثمة نهجا أفضل في هذا الإطار يتمثل في توفير المزيد من السلطة لشركات البرمجيات الوسيطة، بمعنى أنْ تفقد منصات التكنولوجيا الأساسية اتصالها المباشر بالمستهلك، ومن البدهي أن المنصات ستقاوم ذلك.
ومن أجل تمكين شركات البرامج الوسيطة، فمن المحتمل أن يضطر الكونجرس إلى إصدار قانون يفرض على المنصات استخدام واجهات برمجة تطبيقات مفتوحة، من شأنها أن تسمح لشركات البرامج الوسيطة بالعمل بسلاسة مع منصات تقنية مختلفة.
كما يتعين أن يطلب الكونجرس من موفِّري البرامج الوسيطة استيفاء الحد الأدنى من معايير الموثوقية والشفافية.
الجمهور واستعادة السيطرة مرة أخرى على المحتوى
تطلق الحكومات في أوروبا والولايات المتحدة حاليا إجراءات لمكافحة الاحتكار ضد منصات التكنولوجيا الكبرى، ومن المرجح أن يتم النظر في منازعات قضائية حول تلك الإجراءات لسنوات مقبلة، لكن هذا النهج ليس بالضرورة أفضل طريقة للتعامل مع التهديد السياسي الخطير الذي تشكله المنصات على الديمقراطية.
لقد تصور التعديل الأول للدستور الأمريكي (يمنع صياغة أي قوانين تحظر أو تحد من حرية التعبير) سوقًا للأفكار، يتم فيه حماية الخطاب العام من خلال المنافسة وليس التنظيم، لكن هذا السوق ينهار في عالم تضخم فيه المنصات الكبرى الرسائل السياسية وتقمعها وتستهدفها.
ولذلك يمكن للبرمجيات الوسيطة معالجة هذه المشكلة، عبر تجريد منصات التكنولوجيا من تلك السلطة والسماح للمستخدمين بتصميم تجاربهم عبر الإنترنت.
وقطعًا لن يمنع هذا النهج من انتشار خطاب الكراهية أو نظريات المؤامرة، ولكنه سيحد من نطاقها بطريقة تتماشى بشكل أفضل مع الهدف الأصلي من التعديل الأول للدستور.