تقارير

هل ينقذ «اتفاق جوجل» الصُّحُف من عثرتها المالية؟

تعرضت العديد من المنافذ الإخبارية حول العالم خلال السنوات الأخيرة إلى أزمات مالية خانقة بسبب تراجع مصادر الدخل والتمويل التي تأتي من خلال الاشتراكات والإعلانات، الأمر الذي أدى -وفق تقديرات أمريكية- إلى إغلاق نحو 1800 صحيفة بين عامي 2004 و2018.

لكن العام الحالي كان الأقسى على عالم الصحافة والإعلام، حيث تلقى القطاع ضربة قوية بسبب انخفاض الإعلانات على خلفية أزمة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، حيث تسبب الانكماش السريع في الإيرادات بالولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن في تضرر 33 ألف صحفي وموظف في وسائل الإعلام، إمَّا بتسريحهم أو منحهم إجازات دون مرتب أو خفض أجورهم، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.

وفي الوقت الذي حاولت فيه صناعة الصحافة التكيف مع عالم يطلع الأفراد فيه على الأخبار عبر الإنترنت، استحوذت شركات الإنترنت والتواصل الاجتماعي العملاقة مثل جوجل وفيسبوك على الإعلانات الرقمية التي بالكاد تُبقي المؤسسات الإخبارية قادرة على الصمود.

لكن بارقة أمل تلوح في الأفق حاليًّا، ربما تشكل طوق نجاة لإنقاذ الصحف من ذلك الوضع الكارثي، تتمثل في الاتفاق الذي توصلت إليه شركة جوجل مع صحف فرنسية لدفع ثمن المحتوى الإخباري المعروض في نتائج البحث على المحرك العالمي.

أزمة الصحف بين انخفاض الاشتراكات وتراجع الإعلانات

عانت الصحف من أزمة مالية طاحنة، انعكست على واقع تلك الصناعة والمشتغلين فيها، وكانت البدايات في ظلال أزمة المالية العالمية عام 2008، ولكن حتى مع تعافي الاقتصاد استمرت الصحف في تقليص الوظائف داخلها.

ووفقًا لتقرير لمعهد بروكنجز الأمريكي، ساعد انخفاض توزيع الصحف، إلى جانب الانخفاض الحاد في عائدات الإعلانات، في تفسير التحديات المالية التي تواجه الصحف الأمريكية، حيث جفَّ المصدر الرئيسي لإيرادات الصحف -الإعلانات-، فعلى سبيل المثال انخفضت عائدات إعلانات الصحف الأمريكية بنسبة 42% في الفترة بين عامي 2008 و2013، كما سجلت، على مدى السنوات الخمس التالية انخفاضًا بنسبة 44%.

كما أدى نزيف الاشتراكات والإعلانات في الصحف إلى تسريح العمالة، حيث فقدت صناعة الصحف الأمريكية آلاف الموظفين خلال العقد الماضي، إذ انخفض المعدل الإجمالي للتوظيف في غرف الأخبار بنسبة 25% بين عامي 2008 و2018.

وتكشف بيانات مركز الابتكار والاستدامة في وسائل الإعلام المحلية في كلية الإعلام والصحافة بجامعة نورث كارولاينا أن واحدة من كل خمس صحف محلية أمريكية قد اختفت منذ عام 2004. والنتيجة هي خسارة أكثر من 2000 صحيفة في جميع أنحاء  الولايات المتحدة على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية.

وقد وجدت دراسة أجراها مركز بيو الأمريكي لاستطلاعات الرأي في عام 2019 أن 71% من الأمريكيين يرون أن المؤسسات الإخبارية المحلية تعمل بشكل جيد، إلا أنه، بحسب الدراسة ذاتها، فإن 14% فقط قدموا أموالًا -في صورة اشتراكات- لأي من المؤسسات الإخبارية.

شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي جسر يربط الجمهور بالأخبار

تعد شركات التكنولوجيا الكبرى ومواقع التواصل الاجتماعي الموزع الرئيسي للأخبار في الفضاء الإلكتروني، حيث تستفيد بشكل كبير من المشاركة الناجمة عنها، إذ تجني أرباحًا من خلال الإعلانات، كما أنهم يجمعون كميات هائلة من البيانات حول هؤلاء القرَّاء، ممَّا يساعدهم على استهداف الإعلانات ويصبحون أكثر هيمنة في سوق الإعلان الرقمي.

وعلى سبيل المثال هناك مئات الملايين من الأشخاص الذين ذهبوا إلى جوجل وفيسبوك خلال الأشهر القليلة الماضية للحصول على معلومات حول فيروس كورونا.

وتستحوذ الشركتان على 58% من عائدات الإعلانات الرقمية على الصعيد الوطني في الولايات المتحدة، مقابل 77% من العائدات على الصعيد المحلي، ممَّا يؤدي إلى الضغط على ناشري الأخبار المحليين، وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.

ويشير معهد بروكنجز إلى أن فرض ضريبة على تلك الشركات التي تجمع وتوزع محتوى الناشرين من شأنه أن يجبرها على مشاركة أرباحها مع منشئي المحتوى. بينما لفتت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إلى وجود عدة طرق يمكن من خلالها ممارسة الضغط على جوجل في الولايات المتحدة، من بينها إذا أقر الكونجرس قانون المنافسة والحفاظ على الصحافة، حيث سيُسمح للناشرين بالتفاوض الجماعي بشأن الأسعار مع جوجل.

ومن بين الطرق أيضًا قيام الناشرين برفع دعاوى قضائية تتعلق بحقوق النشر الخاصة بهم، مع مطالبة جوجل بمعاملة ناشري الأخبار على قدم المساواة كناشري الموسيقى، حيث تدفع المنصات الإلكترونية أموالًا مقابل الموسيقى والكثير من أنواع المحتوى الأخرى.

اتفاقيات حقوق الطبع والنشر بين جوجل والصحف الفرنسية

وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، دخلت شركة الإنترنت الأمريكية العملاقة “جوجل” في مواجهة مع مجموعات إعلامية أوروبية بما في ذلك وكالة الصحافة الفرنسية بسبب رفضها الامتثال لقانون جديد صادر عن الاتحاد الأوروبي يسمى “حقوق المجاورة” لناشري الأخبار، والذي يسعى إلى منح بعض حقوق الطبع والنشر لشركات الإعلام عند ظهور ميزات عملها على مواقع الإنترنت ومحركات البحث ومنصات التواصل الاجتماعي. وقد كانت فرنسا أول دولة أوروبية تصدِّق على هذا القانون في عام 2019.

وفي أبريل الماضي أمرت هيئة المنافسة الفرنسية شركة جوجل بفتح محادثات حول الدفع مقابل استخدام المحتوى الخاص بناشري الأخبار، لكن “جوجل” أصرت آنذاك على أن المقالات والصور ومقاطع الفيديو لن تظهر في نتائج البحث إلا إذا وافقت المجموعات الإعلامية على السماح باستخدامها مجانًا.

وقد تواصلت المفاوضات بين شد وجذب طيلة 6 أشهر، حتى تحققت انفراجة في 19 نوفمبر الحالي، بتوقيع شركة  “ألفابت” – الشركة الأم لمحرك البحث العملاق جوجل اتفاقيات حقوق الطبع والنشر مع ست صحف ومجلات فرنسية، بما في ذلك صحيفتا لوموند ولوفيغارو.

وأوضحت جوجل أنها لا تزال تجري محادثات مع الصحف والمجلات الفرنسية الوطنية والإقليمية الأخرى، حيث تهدف إلى التوصل إلى اتفاق إطاري مع لوبي الصحافة المطبوعة في فرنسا بحلول نهاية العام.

وتعد هذه المرة الأولى التي تعترف فيها جوجل بضرورة الدفع لشركات الإعلام بموجب قانون الاتحاد الأوروبي، ويمكن أن يكون لها تداعيات هائلة على مستقبل الصحافة التي تكافح مع انخفاض مبيعات المطبوعات التقليدية.

وقد يحمل ذلك التطور في موقف جوجل مؤشرًا على حلحلة الأزمة التي تواجهها الشركة في أستراليا، منذ أن أصدرت الحكومة الأسترالية مشروع قانون لإجبار جوجل وفيسبوك على التفاوض مع شركات الإعلام الأسترالية حول الدفع مقابل استخدام محتواهم.

وهي الخطوة التي واجهتها المنصات الرقمية بردود فعل قوية، حيث هدد فيسبوك بمنع المستخدمين من تبادل المحتوى الإخباري في أستراليا، بينما حذرت شركة جوجل مستخدميها من أن خدماتها للبحث يمكن أن تكون “سيئة” نتيجة لذلك.

وواقع الأمر أن كلًّا من الصحف والمنصات الرقمية بحاجة إلى بعضها وبعض، حيث يعد كل من جوجل وفيسبوك بوابات الإنترنت لكل الأستراليين تقريبًا، لذلك ليس أمام الشركات الإخبارية خيار سوى توزيع صحافتها عبر هذه المنصات.

كما أن المنصات الرقمية تحتاج أيضًا إلى الأخبار، ففي حال غيابها سيجد المستخدمون أن “فيسبوك” و”جوجل” أقل فائدة بكثير إذا لم تظهر أي أخبار في خلاصاتهم أو في نتائج البحث الخاصة بهم.

وقد خلص تقرير الأخبار الرقمية الصادر عن جامعة كانبرا لعام 2019 إلى أن أكثر من نصف الأستراليين يطالعون الأخبار عبر المنصات،  بينما تقدر لجنة المنافسة والمستهلكين الأسترالية (ACCC) أن “جوجل” تستحوذ على 47% من الإعلانات عبر الإنترنت في أستراليا، بينما يستحوذ فيسبوك على 21%، وفقًا لصحيفة “جارديان” البريطانية.

وفي المقابل يرى بعض المراقبين أن إلزام المنصات بالدفع مقابل استخدام المحتوى الإخباري، قد يدفعها إلى الحد من نشر ذلك المحتوى ضمن نتائج محركات البحث لديها، أو عبر الشبكات الاجتماعية، لتتجنب الدفع، مستندين في ذلك الطرح إلى ما حدث في إسبانيا عندما أقرت مدريد قانونًا مجاورًا، حيث أظهرت دراسة أن الصحافة الإسبانية اختفت من قسم الأخبار عل محرك البحث جوجل، بالإضافة إلى انخفاض معدل متابعي مواقع تلك الصحف بما نسبته 6%، بحسب موقع “يورو نيوز” الإخباري.

كما أن خطوة مماثلة أُقرت في ألمانيا تسببت في خسارة “أكسيل سبرينغر- Axel Springer”، أهم مجموعة إعلامية في البلاد، نحو 7% من متابعيها.

وتأسيسًا على ما سبق يمكن القول بأن هناك حاجة ملحة إلى إعادة صوغ العلاقة بين منصات الإنترنت العملاقة والصحف والمواقع الإخبارية، بغية التوصل إلى علاقة أكثر عدلًا وتوازنًا تحفظ حقوق كل من الجانبين، وتجنبه الصراع حول كعكة الإعلان.

كما أن التوصل إلى مكاسب مالية للصحف من خلال استغلال محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي للمحتوى الإخباري الذي تقدمه يؤمِّن مصدر دخل يساعد المؤسسات الصحفية على تجاوز أزمة التمويل الخانقة وشح الإيرادات التي باتت تؤرق كل المشتغلين في ذلك القطاع، سواء ملاك المؤسسات الصحفية أو الصحفيين أو أطقم الموظفين العاملين في صناعة الأخبار.

زر الذهاب إلى الأعلى