تقارير

استقالة صهر أردوغان.. انسحاب نهائي أم مناورة سياسية؟

في خطوة مفاجئة، تقدم بيرات البيرق وزير المالية والخزانة التركي وصهر الرئيس رجب طيب أردوغان، باستقالته من منصبه الوزاري، ولم تكن تلك الاستقالة متوقعة من حيث توقيتها، إذ تأتي في ظل اشتداد الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي، ممَّا يعني أنها تمثل اعترافًا صريحًا بالفشل السياسي، وكذلك من حيث طريقة الإعلان عنها عبر حساب الوزير على موقع إنستغرام وأيضًا تفاعل القصر الرئاسي معها، إذ استقبلها بصمت مطبق طيلة 24 ساعة من إعلانها.

وأثارت تلك الاستقالة العديد من التساؤلات حول الدوافع والأسباب، ومآلات ذلك على المستقبل السياسي لبيرات البيرق الذي حظي بنفوذ كبير على الساحة السياسية والاقتصادية في تركيا خلال الأعوام الخمسة الماضية.

خطاب استقالة مقتضب وغامض عبر “إنستغرام”.. وصمت إعلامي تركي

البداية كانت مع قيام البيرق بإغلاق جميع حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، باستثناء حسابه على منصة إنستغرام، والذي أعلن من خلاله عن استقالته لأسباب صحية، مشيرًا إلى رغبته في تكريس المزيد من الوقت لعائلته، وقد قام لاحقًا بإغلاق هذا الحساب أيضًا.

وجاءت صيغة الاستقالة المقتضبة موحية بالكثير من التساؤلات والغموض، ولعل التساؤل الأبرز: ماذا جرى في الكواليس بين الصهر والرئيس؟ حيث غاب عن صيغة الاستقالة توجيه أي شكر إلى أردوغان الذي ضم البيرق إلى الحكومة منذ 5 سنوات، بدأها وزيرًا للطاقة، ومنها إلى حقيبة المالية والخزانة.

ووفقًا لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، فإن البيرق اكتسب على مدى تلك السنوات نفوذًا كبيرًا داخل الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم، كما يترأس شقيقه الأكبر سرحات البيرق مجموعة توركوفاز الإعلامية، ويسيطر أيضًا على الشبكة الكاملة للصحف والمذيعين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية الذين سيطروا على المشهد الإعلامي التركي.

اللافت أيضًا التعاطي الإعلامي مع خبر الاستقالة، حيث بدت وسائل الإعلام التركية الرئيسية مترددة للغاية في الإبلاغ عن الاستقالة، إذ لم تتفاعل مع الحدث طيلة 24 ساعة، وجاء التناول بعد إصدار الرئاسة بيانًا تعلن فيه قبول أردوغان استقالة صهره البيرق، وتعيين لطفي علوان خلفًا له.

وتشير صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إلى أنه في ظل عدم وجود تفسير رسمي للخطوة، لجأ الأتراك إلى مجموعات “واتس آب” التي انتشر خلالها تحليل يشير إلى أن البيرق استقال احتجاجًا على إقالة محافظ البنك المركزي مراد أويسال الأسبوع الماضي دون علمه، وتعيين ناجي أغبال، وزير المالية السابق محافظًا جديدًا للبنك المركزي.

وكان أغبال من بين الشخصيات البارزة في حزب العدالة والتنمية، الذين انتقدوا استراتيجية البيرق في وقت تصاعد فيه السخط العام على إدارة ملف الاقتصاد، وفقًا لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.

ومن المعلوم أن البيرق كان ينفذ رؤية أردوغان المهوَّس بأسعار الفائدة المنخفضة، فلطالما نظر الرئيس التركي إلى أن رفع أسعار الفائدة هو سبب ارتفاع معدلات التضخم، في حين أن الواقع يشير إلى أن الوضع المتردِّي والمنهار للاقتصاد التركي نتيجة لسياسات أردوغان وجهوده المتواصلة لتقليص استقلالية البنك المركزي واستبدال حكامه.

وباتت تركيا خلال الأعوام القليلة الماضية تدفع ثمن تحول عملية إدارة  اقتصاد كان يتسم بالتنافسية والشفافية نسبيًّا إلى إدارة تتم عبر شخص بمفرده يتمتع بسلطات واسعة ورؤية اقتصادية غريبة الأطوار، ويعد ذلك أحد تداعيات ما قام به أردوغان في عام 2017 من تغيير نظام الحكم في البلاد، من النظام البرلماني إلى الرئاسي.

وترى أسلي أيدنتاسباس، الباحثة المتخصصة في الشؤون التركية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن “أردوغان” جادل بأن تركيا يجب أن تدار كشركة وأن البيروقراطية والقضاء -كل الأشياء التي تشكِّل نظامًا من الضوابط والتوازنات- كانت قيودًا حالت دون تقدمها.

ولفتت أيدنتاسباس إلى أن “أردوغان” قام بتفكيك استقلالية المؤسسات الاقتصادية في البلاد، بدءًا من البنك المركزي إلى هيئات أسواق رأس المال، فكلها مكدسة بشخصيات موالية لأردوغان، ثم اكتملت السيطرة بإسناد حقيبة المالية والخزانة إلى صهره بيرات البيرق في عام 2018.

واعتبر العديد من المراقبين للشأن التركي أن البيرق هو الوريث الواضح لأردوغان، وأن الأخير يهيئ صهره لذلك، وهو ما أثار توترات داخل الحزب الحاكم، أبرزها صراع صامت بين البيرق ووزير الداخلية التركي سليمان صويلو.

ومع ذلك، يبدو أن التوترات داخل الحزب بشأن حالة الاقتصاد تسببت في حدوث تمزق داخلي، من مؤشراتها توجيه بولنت أرينك، وهو أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية القلائل الذين بقوا في الحزب، توبيخًا علنيًّا نادرًا للبيرق منتقدًا تصريحات الوزير التي أصر فيها على أن أداء الاقتصاد التركي في ظل جائحة فيروس كورونا المستجد أفضل من العديد من البلدان الأخرى.

ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، فقد سجل الاقتصاد التركي خلال تولِّي البيرق وزارة الخزانة والمالية، تراجعًا سريعًا وانهيارات متتالية، بعدما كان يومًا ما من أسرع الأسواق الناشئة نموًّا في العالم.

وتمثل هذا التدهور في مؤشرات اقتصادية شديدة السلبية، إذ يعاني الاقتصاد من بطالة مرتفعة، ومعدل تضخم في خانة العشرات، بينما تواصل الليرة التركية سقوطها الحر، بعد أنْ سجلت انخفاضًا بنسبة 30% أمام الدولار خلال العام الجاري، فضلًا عن عزوف المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية عن التدفق إلى تركيا، بل أيضًا تزايدت عمليات الهروب المكثفة من قِبَل المستثمرين الأجانب من السوق التركي.

والأسوأ من ذلك، أنه في محاولة لمنع المزيد من الانخفاض في قيمة الليرة التركية العام الماضي، استنفذ البنك المركزي 140 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي في محاولة لدعم الليرة التركية، وفقًا لتقدير بنك جولدمان ساكس، ممَّا ترك الاقتصاد التركي على حافة الهاوية، إذ يبلغ الدين الخارجي التركي حاليًّا 420 مليار دولار وخزينة الدولة شبه فارغة.

وممَّا لا شك فيه أنه عندما يُدار مثل هذا الاقتصاد الضخم والمعقد كشركة عائلية، يصاب المواطنون بالتوتر والقلق من المستقبل، فمنذ عام 2018، يحتفظ المواطنون الأتراك بالجزء الأكبر من مدخراتهم بالعملة الأجنبية.

صحوة زائفة لليرة التركية.. وتوقعات بتصاعد تدخلات أردوغان في السياسة الاقتصادية

وفي أول بيان علني له، بصفته محافظًا للبنك المركزي التركي، خفف أغبال التوقعات بأن البنك المركزي قد ينفذ زيادة طارئة في سعر الفائدة لتثبيت سعر الليرة، مكتفيًا بالقول إنه “سيرصد التطورات في الفترة التي تسبق الاجتماع المقرر في 19 نوفمبر الجاري لتحديد سعر الفائدة.

وأكد أغبال أن البنك سيستخدم بشكل حاسم جميع أدوات السياسة” في جهوده لمكافحة التضخم الذي يبلغ 11.9%.

وبينما بدت الأسواق تأمل في أن تشير التغييرات إلى تحوُّل في السياسة الاقتصادية  التركية، حث المحللون والخبراء الاقتصاديون على توخِّي الحذر، رغم ارتفاع مؤشر الليرة التركية بنسبة 1%، معتبرين أنه تحسُّن لحظي، والاعتماد عليه في تقديرات اقتصادية واستثمارية يعني الاستناد إلى مؤشر مضلل.

وحذر أولريش لوشتمان، رئيس قسم أبحاث العملات الأجنبية في “كوميرز بنك” الألمانية في مذكرة للعملاء من الانخداع بردود الفعل الفورية لارتفاع سعر الليرة، التي حققت أكبر ارتفاع لها في يوم واحد منذ عامين بعد إقالة محافظ البنك المركزي واستقالة صهر أردوغان، مؤكدًا أن هذا الانتعاش “لن يستمر طويلًا طالما لم يتم معالجة المشكلة الأساسية، وهي عدم استقلالية ومصداقية السياسة النقدية”.

ويعتبر لوشتمان أن تعيين أغبال، الذي يُنظر إليه على أنه حليف وثيق لأردوغان، يوحي بأن الرئيس التركي يريد المزيد من التدخل المباشر في السياسة النقدية.

الأمر الذي أكده عبد القادر سلفي، الكاتب بصحيفة حريت التركية، في مقال قال فيه إنه “بينما سيدير لطفي علوان الاقتصاد وزيرًا للمالية والخزانة، ويكون ناجي أغبال مسؤولًا عن الحفاظ على استقرار الأسعار بصفته محافظ البنك المركزي، إلا أن (أردوغان) سيكون أكثر نشاطًا من أي وقت مضى”.

وترى فينيكس كالين، الخبيرة الاستراتيجية في شؤون الأسواق الناشئة لدى بنك “سوسيتيه جنرال” الفرنسي أن رد الفعل القوي للسوق المتمثل في ارتفاع الليرة، يعكس التوقعات بأن الاضطرابات في صنع السياسة الاقتصادية التي تحدث بين القيادة التركية تستدعي تحولًا جذريًّا في الاستراتيجية، والقيام بتغيير يعيد تركيا إلى إطار سياسة أكثر تقليدية مع التزام أقوى بموقف نقدي محكم.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن أزمة تركيا في الوقت الحالي أزمة مركبة تتداخل فيها الأبعاد السياسية والاقتصادية، والمسؤول الأول عنها هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسياساته المنفِّرة للمستثمرين وتدخلاته في الشؤون الاقتصادية دون دراية ووعي بتبعات تلك الضغوط التي يمارسها على المسؤولين المعنيين بالسياسة المالية والنقدية للدولة.

وكلما تعقدت الأمور واشتدت الأزمة وتواصل انهيار الاقتصاد، لا يجد أردوغان أمامه سوى اللجوء إلى الإقالات ظنًّا منه أنها ستكون كفيلة بامتصاص الغضب الشعبي الناتج عن التدهور الحاد في مستوى المعيشة والقلق على الحاضر قبل المستقبل، علمًا بأن “أردوغان” قد لجأ سابقًا إلى إقالة محافظ البنك المركزي السابق مراد جيتين كايا في يوليو 2019، لرفضه الامتثال لتعليماته بشأن أسعار الفائدة، واستبدل به مراد أويسال، الذي سرعان ما لحق بسلفه مع تواصل انهيار الليرة.

والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن وجهات نظر أردوغان بشأن الاقتصاد لا سيما أسعار الفائدة، أزعجت المستثمرين وساهمت في حدوث اختلالات مالية.

لكن استقالة صهر أردوغان وملابساتها الغامضة تفتح المجال أمام سيناريوهين: إما أنها حيلة متفق عليها بين الرئيس التركي وصهره أرادا من خلالها تخفيف حدة الانتقادات الشعبية من جانب أحزاب المعارضة لإدارتهم العائلية الفاشلة للملف الاقتصادي، على أنْ يكون غياب البيرق عن المشهد غيابًا مؤقتًا ومناورة سياسية، أو أنه انعكاس لخلافات داخل قصر أردوغان من مؤشراتها تعيينه ناجي أغبال المعروف بانتقاده للبيرق محافظًا جديدًا للبنك المركزي.

وأخيرًا يبقى العلاج الوحيد للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها تركيا هو العودة إلى نظام  مؤسسي قائم على الفصل بين السلطات والتخلص من سيطرة أردوغان وأفكاره على الاقتصاد والشؤون المالية.

زر الذهاب إلى الأعلى