أصبحت التكنولوجيا جزءًا حيويًّا من حياة البشر في العصر الحالي، فعلى مدار اليوم منذ اللحظة التي يستيقظ فيها الأشخاص على دقات المنبه عبر هواتفهم المحمولة وصولًا إلى تصفح مواقع التواصل الاجتماعي قبل الخلود إلى النوم، وبات الفرد في حالة اتصال مستمرة مع العمل والأصدقاء والأخبار من خلال التكنولوجيا، وقد يؤدي هذا الإفراط في الاستخدام إلى حالة من الإرهاق التكنولوجي والإضرار بالقدرة على التركيز.
ولهذا السبب اعترفت الحكومات والشركات بـ”الحق في قطع الاتصال” واتخذت إجراءات من أجل تفعيل ذلك، فعلى سبيل المثال في عام 2017، أصدرت فرنسا قانونًا يمنح موظفي الشركات التي يزيد عدد موظفيها على 50 شخصًا الحق القانوني في تجاهل رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل.
وفي نفس العام، تم تمرير قانون مماثل في إيطاليا والفلبين.
وعلى الرغم من عدم وجود مثل هذا التشريع في دول أخرى مثل ألمانيا، فإن العديد من الشركات، بما في ذلك إليانز للتأمين، وفولكس فاغن ودايملر لصناعة السيارات، قد أخذت على عاتقها الحد من مقدار الاتصال بين موظفيها عندما لا يكونون في العمل.
ويبدو أن قطع الاتصال أمر مهم أيضًا، خاصة أن الجيل Z وجيل الألفية يُهَيْمِنان على القوى العاملة اليوم، ممَّا يزيد من خطر الإرهاق والأمراض الأخرى المرتبطة بالتوتر.
تعريف وسمات الإرهاق التكنولوجي
وقد بدأت الجهود البحثية حول الإرهاق التكنولوجي تحظى باهتمام المجتمع الأكاديمي بعد العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حيث يعرف بأنه الإرهاق الذهني الذي يصيب الأشخاص نتيجة الحمل التكنولوجي الزائد. ويصاحبه عدد من السمات من أبرزها مشكلات متعلقة بالذاكرة، وانخفاض الحافز، وزيادة التوتر والمعاناة من الأرق، كما يؤدي إلى متاعب عضوية مثل الصداع وآلام الظهر وإجهاد العين، وآلام الرقبة، وتيبُّس الكتف، وآلام المفاصل، وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
وترى كاترينا جيرمان، الخبيرة في الاتصال والاستراتيجيات الرقمية، أنه مع اضطرار الأشخاص إلى قضاء المزيد من الوقت على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم لأغراض العمل والدراسة والتواصل الاجتماعي، بدأ العديد من الأشخاص يشعرون بالإرهاق التكنولوجي، وكانت هذه الفكرة موجودة منذ عدة سنوات ولكنها أصبحت أكثر شيوعًا مؤخرًا، ومن أبرز أمثلتها إجهاد زووم، وهو أحد أشكال الإرهاق التكنولوجي الذي تنامى خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث زاد البحث عن هذا المصطلح على محرِّك البحث العالمي جوجل منذ مارس الماضي.
وعلى الرغم من أن اجتماعات الفيديو عبر تطبيق زووم تحافظ على شعور الأشخاص بالاتصال، فإن هناك فرقًا كبيرًا بين رؤية الأشخاص وجهًا لوجه ورؤيتهم على الشاشة، فلن تحدق أبدًا في أحد زملائك باهتمام لمدة 30 دقيقة مباشرة في الحياة الواقعية، لكننا نشعر بطريقةٍ ما أننا بحاجة إلى القيام بذلك على “زووم” لإظهار أننا نولي اهتمامًا.
تأثير الإرهاق التكنولوجي في بيئة العمل
وتؤدي قدرة التكنولوجيا على جعل الأشخاص متصلين باستمرار إلى الشعور بالتعب والإرهاق، حيث وجد العلماء في جامعة يونسي بكوريا الجنوبية أن الطاقة المتزايدة المطلوبة للاستجابة للتدفُّق المستمر للمعلومات تؤدي إلى إجهاد جسدي ونفسي، كما أكد البروفيسور كريس لي، الأستاذ بكلية العلوم الإنسانية واللغات والعلوم الاجتماعية بجامعة جريفيث الأسترالية، في كتابه “كيف تجعلنا التكنولوجيا مُرْهَقين”، على الحاجة إلى تطوير الوعي بالتأثير المتنوع للتكنولوجيا في حياتنا، وأنها ليست دائمًا إيجابية ومؤشرًا على التقدم، إذ أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الإجهاد الجسدي والنفسي الناتج عن التعب التكنولوجي يمكن أن يؤثر في حياتنا العملية والشخصية، ممَّا يجعلنا أقل حماسًا وانتباهًا واهتمامًا.
ومن الآثار الجانبية الرئيسية الأخرى للإرهاق التكنولوجي أنها تؤدي إلى تقليص مدة الانتباه، إذ تشير دراسة أجراها باحثون في الجامعة التقنية بالدنمارك إلى أن نطاق الاهتمام العالمي الجماعي يتقلص بسبب كمية المعلومات التي يتم تقديمها للجمهور، فمع التكنولوجيا التي تغذينا باستمرار بمعلومات جديدة، تتناقص قدرة الأشخاص على التركيز، وهو ما يؤثر في كيفية التعلم والعمل والتفاعل مع الآخرين.
وفي حين أن الأشخاص والشركات قد يستفيدون من التكنولوجيا، فإن تأثيرها في الإنتاجية يمكن أن يكون مشكلة خطيرة ليس فقط للأفراد، ولكن للأعمال التجارية أيضًا نتيجة انشغال الأشخاص بالهاتف وتشتت انتباههم عن الأعمال الموكَلَةِ إليهم.
وفي هذا الإطار، أجرى الدكتور جلين ويلسون، المتخصص في علم النفس بحثًا خلص فيه إلى أن الانقطاعات المستمرة والتشتت في العمل يمكن أن يقلل من درجة معدل الذكاء لدى الأشخاص بمعدل 10 نقاط.
وتشير مجموعة International workplace Group إلى أن أحد الحلول لهذه المشكلة يتمثل في إنشاء مساحات في بيئات العمل يتم تصنيفها على أنها “خالية من التكنولوجيا”.
وفي الآونة الأخيرة، اتخذ العديد من أرباب العمل، بما في ذلك مقهى “Last Wor” في المكتبة البريطانية، خطوات لحظر أو مصادرة الهواتف خلال العمل لتحسين الإنتاجية والتركيز. ومع ذلك يجد الكثيرون أن فكرة قيام صاحب العمل بمصادرة الهاتف المحمول الشخصي مقلقة للغاية، وأن هذا الحل غير عملي لأن عددًا قليلًا من الأشخاص يكونون مرتبطين بالعمل المكتبي.
وبدلًا من قيام أصحاب العمل بمصادرة الهواتف مباشرة، توفر أفضل أماكن العمل مناطق منفصلة أو مناطق هادئة، حيث يمكن للأشخاص ترك مكاتبهم والتفاعل مع بعضهم وبعض وجهًا لوجه.
أمَّا بالنسبة لأولئك الذين يعملون لحسابهم الخاص أو يعملون بانتظام من المنزل، فتوفر مساحات العمل المرنة مكانًا للتركيز في العمل، بينما يصبح المنزل مكانًا للاستمتاع بالراحة والاسترخاء.
وفي هذا الإطار، وجد تقرير حديث لشركة ديلويت للاستشارات أن القيمة المستمدة من الموظف يمكن تقويضها من خلال عوامل سلبية مثل زيادة العبء المعرفي، لذلك من الواضح أن أماكن العمل بحاجة إلى إيجاد حلول لقضايا الحمل التكنولوجي الزائد من أجل نمو أعمالهم.
توصيات للتغلب على الشعور بالإرهاق التكنولوجي
وتشير مجموعة Lepage Psychological and Psychiatric Services للاستشارات النفسية إلى عدد من التوصيات للتغلب على الشعور بالإرهاق التكنولوجي، وهي:
أخذ فترات راحة منتظمة من التكنولوجيا على مدار اليوم: بحيث يمنح الشخص لنفسه فترات راحة دورية للتنفس بعمق والابتعاد عن جهاز الكمبيوتر أو الهاتف الذكي، مع تكرار فعل ذلك عدة مرات خلال اليوم.
إعداد مكتب مريح: إذا كنت تقضي الآن المزيد من الوقت في العمل على جهاز الكمبيوتر والأجهزة الخاصة بك في المنزل، فتأكد من أن بيئة عملك ملائمة ومريحة.
وضع بعض القيود على استخدام الأجهزة، مثل عدم استخدام الهاتف في السرير أو التحقق من البريد الإلكتروني قبل الساعة 9 صباحًا أو عدم قضاء أكثر من 30 دقيقة على فيسبوك، ويوصي الخبراء بعدم النظر إلى الشاشة قبل نصف ساعة على الأقل من الاستعداد للنوم.
التخلص من السموم الرقمية: إذا شعرت بالاكتئاب أو القلق أو الغضب بعد قضاء بعض الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي أو تصفح الإنترنت، فخذ بعض الوقت بعيدًا عن جميع الأجهزة.
الحصول على إجازات خالية من التكنولوجيا: إمَّا يومًا واحدًا في عطلة نهاية الأسبوع أو العطلة بكاملها.
ممارسة الهوايات التي لا تتطلب استخدام التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال تعلُّم الشخص صنعَ شيء بيدَيْه يعتبر طريقة ممتازة لإعادة الاتصال بالعالم المادي من حوله.
البحث عن طرق للتفاعل الحي مع الآخرين، أي تجنب التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي قدر الإمكان.
ممارسة الرياضة، خاصة في الهواء الطلق.
ومن المهم أيضًا تقييم ما إذا كان الإرهاق ناتجًا عن الإفراط في استخدام التكنولوجيا أو جوانب أخرى من الحياة، لذلك فإن معالجة الإجهاد الناجم عن الإرهاق التكنولوجي قد لا تقضي على جميع مصادر التوتر من حياة الشخص، فإذا كان بحاجة إلى مساعدة في معالجة مصادر التوتر الأخرى، فلا بد من طلب المساعدة من الأصدقاء أو الشركاء أو المعالج النفسي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن التكنولوجيا الرقمية تعد جانبًا مفيدًا للغاية وممتعًا في بعض الأحيان من جوانب الحياة في القرن الحادي والعشرين، لكن التحدي الذي يواجه البشر حاليًّا هو القدرة على استخدامها بحكمة، فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن التكنولوجيا قد جلبت فوائد كبيرة للشركات والموظفين، فمن الواضح أن هناك حاجة لإيجاد التوازن الصحيح في استخدامها، فبقاء الموظفين متصلين بالتكنولوجيا على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع يؤدي إلى جعلهم أقل إنتاجية، كما أن الضرر الذي يلحق بنفسية وتركيز الأشخاص يؤثر سلبًا في جوانب الحياة الأخرى، وليس فقط في بيئة العمل.
ويبقى التأكيد على أن أفكارًا مثل “مساحات العمل المرنة” و”المناطق المخصصة الخالية من التكنولوجيا” تعد أحد الحلول الناجعة التي تساعد الأشخاص على التغلب على مشكلة الإرهاق التكنولوجي.