تحولت تركيا خلال العقد الأخير من انتهاج السياسة القائمة على استغلال القوة الناعمة لمحاولة اكتساب النفوذ والتأثير بالمنطقة وزيادة مساحة دورها الإقليمي إلى اللجوء لعناصر القوة الصلبة المتجسدة في القوة العسكرية من خلال شن عمليات عسكرية أو التوسع في إقامة قواعد عسكرية بالخارج.
وجاء ذلك التحول مقترنًا بمشروع توسُّعي يتبنَّاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يهدف من خلاله إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية، حيث تتعدد مؤشراته، ومن أبرزها خطاب متطاول عدائي وتحركات عسكرية متزايدة تتنوَّع ما بين طائرات بدون طيار “درونز” في المجال الجوي السوري، وفرقاطات بحرية على طول الساحل الليبي، ومستشارين عسكريين أتراك في طرابلس، يقاتلون مع الميليشيات التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية، وعناصر كوماندوز تركية في شمال العراق، وضباط أتراك رفيعي المستوى في قواعد عسكرية في قطر والصومال.
الخطاب الأردوغاني المتطاول.. بين الاستهلاك المحلي وخَيْبَات الحاضر
وتتسم نبرة الخطاب الرسمي التركي بالتطاول واستعداء الآخر، وهو ما بدا في تصريحات أردوغان مؤخرًا وتطاوله على دول في المنطقة وتحديدًا دول الخليج العربي وزعمه أن وجودها لن يدوم في المستقبل، بينما ستظل رايات تركيا قائمة، وأكدت تلك العبارات الصريحة، التي لا تحتمل أي تأويل، خطورة أبعاد المشروع التركي التوسعي واستهداف الأتراك أمنَ واستقرارَ دول المنطقة، والأحقاد التي يكنُّها النظام التركي ضد الشعوب العربية.
ولذلك فإن السلوك الذي تنتهجه تركيا تحت قيادة أردوغان لا يمكن أن يعبِّر عن سلوك دولة مسؤولة، بل هو سلوك دولة مارقة، وفي الوقت ذاته فإن تلك التصريحات تشكِّل نوعًا من الخطاب الأردوغاني المعدِّ للاستهلاك المحلي، وهي في دلالتها العميقة تمثل أحد أعراض الضجر واليأس من الصفعات التي يتلقاها مشروعه العثماني التوسعي على يد دول المنطقة بفضل بصيرة حكامها ووعي شعوبها، لذا لجأ للحديث عن المستقبل كما يتمنَّاه، في مسعًى لتجاوز خيبات الحاضر.
التحركات العسكرية في الخارج.. وتكلفة باهظة على اقتصاد مأزوم
وتوجد ملاحظة أساسية فيما يتعلق بالانتشار العسكري التركي خارج الحدود، تتصل بالأساس الذي يستند إليه التحرك، وهنا يظهر نمطان، الأول يتمثل في التحركات التركية المنفردة التي تخضع لتقديرات صانع القرار التركي، أمَّا النمط الثاني فيتمثل في التحرك تحت مظلة غطاء من الشرعية الإقليمية أو الدولية أو ضمن تحالف عسكري، إذ إنه يكون قرارًا جماعيًّا يُتخذ في إطار مؤسسي أو بموجب تفويض وتنسيق مع الأمم المتحدة، كما هو الحال في مشاركة القوات التركية بعمليات حفظ السلام في البوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا والكونغو الديمقراطية.
ويمكن رصد مجموعة من المحددات الخاصة بعملية التمدد العسكري التركي في الخارج، سواء اتخذ صورة قواعد عسكرية أو انتشار للقوات في إطار عمليات عسكرية، ومن أبرزها:
الرغبة في السيطرة على موارد الطاقة: حيث تسعى تركيا إلى استغلال أي حالة فراغ استراتيجي ناجم عن تراخي سلطة الدول القومية التي تشهد صراعات وحروبًا أهلية على المناطق الغنية بالنفط والغاز والموارد الطبيعية، وهو ما يظهر بوضوح في التدخلات العسكرية في سوريا والعراق وليبيا، حيث تتجلى النزعة الاستعمارية للعثمانيين الجدد.
الوجود في مواقع ذات أهمية استراتيجية: تهدف أنقرة من وراء إقامة قواعد عسكرية في الخارج أو الانخراط في صراعات تبعد آلاف الكيلو مترات عن حدودها إلى أنْ يكون لها موطئ قدم في مواقع تحظى بأهمية استراتيجية بالنسبة لحركة النفط والتجارة العالمية.
ولعل المثال الأبرز هنا هو القاعدة العسكرية التركية في الصومال حيث الوجود في منطقة القرن الإفريقي، والقاعدة العسكرية في أذربيجان ليصبح لها موطئ قدم في منطقة القوقاز، وهي أمثلة لوجود عسكري تسعى أنقرة لاستخدامه كورقة للضغط والمساومات والتأثير في ملفات وقضايا أخرى.
أبعاد قومية وأيديولوجية: يبرز البعد المتصل بالنزعة القومية التركية في العمليات العسكرية التي تستهدف الأكراد، والتي تبررها أنقرة من منطلق تبنِّيهم نزعةً انفصاليةً وتشكيلهم خطرًا يهدد الأمن القومي التركي، فضلًا عن تصنيفها لحزب العمال الكردستاني كتنظيم إرهابي منذ عام 1984.
أمَّا المحدد الأيديولوجي فيظهر في الدعم العسكري التركي لتيارات الإسلام السياسي والميليشيات المنبثقة عنه في المنطقة، وتعد ليبيا نموذجًا على ذلك، وهذا التوجه تتعاون فيه أنقرة مع قطر التي تتحمل أعباءه المالية.
من جهة أخرى، أدَّى التمدد العسكري التركي في الخارج إلى ارتفاعٍ في الميزانية العسكرية كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، من 1.8% في عام 2015 إلى 2.5% في عام 2018.
وتشير تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إلى أن حجم الإنفاق العسكري التركي زاد في عام 2019 بنحو 24% لتبلغ الميزانية العسكرية نحو 19 مليار دولار، ممَّا جعل تركيا تحتل المركز الـ15 في الإنفاق العسكري على مستوى العالم.
وجاء ذلك الإنفاق الضخم في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد التركي من نزيف مستمر، فالليرة التركية تنخفض حاليًّا بشكل أسرع ممَّا كانت عليه خلال أزمة التضخم الكبيرة خلال عام 2018، فعلى سبيل المثال تجاوز سعر اليورو الواحد حاجز الـ9 ليرات، بعدما كانت قيمته تعادل 6.65 ليرة بداية العام الجاري.
خارطة وأشكال الانتشار العسكري التركي
تتنوع الأدوات التي تستخدمها تركيا في استراتيجيتها العسكرية الهادفة إلى التمدد في الخارج، من حيث حجم التدخل وطبيعته والطبوغرافيا الخاصة بمسرح العمليات، ففي بعض الأحيان اقتصر ذلك التدخل على دعم عسكري من خلال مستشارين عسكريين أو استخباراتيين أو تقنيات تسلُّح متطورة مثل الطائرات المسيرة، وفي أحوال أخرى كان تدخلًا مباشرًا بتشكيلات مختلفة من القوات المسلحة التركية، ويمكن استعراض تلك الأنماط على امتداد خارطة الانتشار العسكري التركي في الوقت الراهن، وهو ما يتضح فيما يلي:
الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق في ليبيا
أرسلت تركيا قوات بحرية وبرية، فضلًا عن آلاف المرتزقة من سوريا، بالإضافة إلى طائرات مسيرة مسلحة إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج ضد الجيش الوطني الليبي، وتمثَّل هدف التدخل العسكري في إنقاذ عقود تجارية بمليارات الدولارات مع ليبيا، فضلًا عن استغلال حكومة السراج في تعزيز الدعاوى التركية بشأن منطقة شرق البحر المتوسط الغنية بموارد الطاقة، عبر إبرام اتفاق ترسيم حدود بحرية مع طرابلس، يتجاهل تمامًا وجود جزيرة كريت.
كما أن ذلك الدعم التركي مرتبط ببُعد أيديولوجي، حيث رغبة حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا في دعم موقف جماعة الإخوان وحلفائها بعد ثورة 30 يونيو 2013 في مصر، التي أسقطت المشروع الإخواني الأردوغاني في المنطقة.
الغزو العسكري التركي لشمال سوريا
يعتبر الغزو العسكري التركي في سوريا إحدى أكبر العمليات العسكرية التركية في الخارج منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وفي البداية أرسل أردوغان قوات إلى سوريا في عام 2016 تحت ستار محاربة عناصر تنظيم داعش الإرهابي لكن العملية امتدت لتشمل القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة.
وسرعان ما استولت القوات التركية على بلدات في شمال سوريا بزعم محاولة إنشاء منطقة عازلة بدعوى إعادة توطين جزء من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 3.6 مليون سوري فرُّوا إلى تركيا.
ولم يتوقف الغزو التركي لشمال سوريا إلا بعد التوصل إلى اتفاقات منفصلة مع الولايات المتحدة وروسيا في عام 2019 لإبعاد المقاتلين الأكراد في سوريا عن حدودها، بل إن “أردوغان” عرض على روسيا الاشتراك في إدارة حقول النفط في شمال شرق سوريا، واستغلالها بدلًا من الأكراد، وفقًا لصحيفة “أحوال” التركية.
وتمتع أردوغان بشراكة اقتصادية متينة مع تنظيم داعش الإرهابي، حيث كان المشتري الأول للنفط من مناطق سيطرة داعش، وتناولت تقارير غربية، من بينها تقرير لصحيفة “هاندلسبلات- Handelsblatt” الألمانية أن شاحنات تعود لشركة يديرها بلال نجل أردوغان كانت تتولى عملية نقل النفط من مناطق سيطرة داعش، فضلًا عن شرائه للآثار السورية المنهوبة على أيدي عناصر التنظيم.
استهداف متواصل للأكراد في شمال العراق
كثيرًا ما ترسل تركيا طائرات حربية وقوات عبر الحدود إلى شمال العراق بدعوى استهداف مخابئ حزب العمال الكردستاني الذي تصنِّفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًّا، كما أنها تحتفظ بقواعد عسكرية أُنشئت في الأصل لبعثة حفظ سلام في التسعينيات، وتزعم تركيا أن استمرار وجودها العسكري يشكل رادعًا لحزب العمال الكردستاني ويجهض التطلعات الانفصالية لدى أكراد العراق، بحسب وكالة بلومبرج الأمريكية.
قاعدتان عسكريتان تركيتان في قطر
ترسَّخ الوجود والنفوذ العسكري التركي في قطر بعد اندلاع الأزمة القطرية ومقاطعة دول الرباعي العربي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) للدوحة على خلفية سياستها الداعمة للإرهاب، حيث انسلخت قطر
-بسياستها المزعزِعة للاستقرار والمتطفِّلة في شؤون الدول العربية والداعمة لجماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية-، عن بيئتها الحاضنة العربية الخليجية وارتمت في أحضان القوى الخارجية، ومن بينها تركيا وإيران.
وتتمتع تركيا بوجود عسكري في قطر يتمثل في قاعدة الريان، وهي قاعدة عسكرية تركية تم إنشاؤها بموجب اتفاقية تعاون عسكري بين البلدين تم توقيعها في 28 أبريل 2014، ويوجد في القاعدة 90 جنديًّا تابعًا لفرقة طارق بن زياد التركية برفقة مدرعاتهم، وتستوعب القاعدة 3 آلاف جندي.
وفي 14 ديسمبر 2019 تم افتتاح مقر قيادة القوات المشتركة التركية-القطرية، الموجودة في قاعدة “خالد بن الوليد” العسكرية، بحضور وزيري دفاع البلدين، كما تم توقيع بروتوكول تعاون بين البلدين في ختام المراسم، إضافة إلى عقد مباحثات ثنائية.
الصومال تستضيف أكبر قاعدة عسكرية تركية في الخارج
في عام 2017، افتتحت تركيا أكبر قاعدة خارجية لها في مقديشو، حيث يقوم مئات من القوات التركية بتدريب جنود صوماليين تحت مسمى إعادة بناء الصومال بعد عقود من الحروب الأهلية ونشاط حركة الشباب الإرهابية، لكن تركيا في الواقع تعمل على تعزيز موطئ قدمها في منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجي، وسعيًا للاستفادة من الثروات الكامنة في تلك المنطقة، ولعل المثال الأبرز على ذلك تصريحات أردوغان في 20 يناير الماضي بأن “الصومال” دعا تركيا للتنقيب عن النفط في مياهه.
التحرُّشات البحرية التركية بقبرص واليونان
تستند تركيا في سياساتها البحرية التوسعية إلى استراتيجية تسمَّى بـ”الوطن الأزرق” تهدف إلى الهيمنة على شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة، مما يمكِّنها من استنزاف ثروات تلك المناطق.
وقد استخدمت أنقرة القوات البحرية في إطار خلافاتها مع قبرص بشأن التنقيب عن مصادر الطاقة في منطقة شرق المتوسط، حيث رافقت سفنٌ عسكرية تركية سفنَ التنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص في أغسطس الماضي، كما تحتفظ أنقرة بنحو 30 ألف جندي في جمهورية شمال قبرص التركية غير المعترف بها دوليًّا.
كما أن تركيا في نزاع مع اليونان حول الحدود البحرية في بحر إيجة والبحر المتوسط، حيث تطالب أثينا بأخْذ الجزر التابعة لها في الاعتبار عند ترسيم الجرف القاري، بما يتماشى مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تم إقرارها في 1982.
لكن أنقرة التي لم توقِّع على تلك الاتفاقية، تجادل بوجوب قياس الجرف القاري لأي بلد من البر الرئيسي، وأن المنطقة الواقعة جنوب جزيرة كاستيلوريزو اليونانية على بُعد بضعة كيلو مترات فقط من الساحل الجنوبي لتركيا تقع بالتالي ضمن منطقتها الاقتصادية الخاصة.
انخراط عسكري في أفغانستان تحت مظلة حلف الناتو
يعد وجود القوات التركية في أفغانستان حالة استثنائية بين التدخلات العسكرية السابقة، إذ إنه يأتي في إطار تحالف بقيادة حلف شمال الأطلسي “الناتو” يضم أكثر من 50 دولة من أجل دعم قوات الأمن الأفغانية ضد متمرِّدي حركة طالبان.
قاعدة عسكرية في أذربيجان ودعمها بتقنيات تسلُّح ضد أرمنيا
وتحتفظ القوات المسلحة التركية أيضًا بوجود في قاعدة عسكرية في أذربيجان مع إمكانية لاستخدام قاعدة جوية هناك. وقد أجرت الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة في أذربيجان في أغسطس الماضي بعد اشتباكات بين أذربيجان وأرمنيا.
ومع اندلاع القتال مجددًا بين أذربيجان وأرمنيا في إقليم ناغورنو كاراباخ مطلع الأسبوع الجاري، دعمت تركيا بشكل واضح باكو في تلك المواجهات العسكرية بطائرات مسيرة، فضلًا عن تحليق مقاتلات تركية من طراز “إف-16” في أجواء الإقليم، حيث أعلنت وزارة الدفاع الأرمنية أنها تمكنت من التقاط وتسجيل مكالمات بين طيارين في كاراباخ باللغة التركية.
وتسعى تركيا بذلك إلى أن يكون لها دور في منطقة جنوب القوقاز، ذات الأهمية الجيو استراتيجية بالنسبة لمسارات إمدادات الطاقة نحو أوروبا.
وتأسيسًا على ما سبق.. يمكن القول بأن التمدد العسكري التركي في الخارج مكونٌ أساسيٌّ في استراتيجية يطبِّقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أجل مساعيه الرامية لإحياء إمبراطورية تجاوَزَها الزمن، والسيطرة على ثروات الغير، وهي تحركات تضرب عرض الحائط بكل القوانين الدولية وتشكِّل انتهاكًا لسيادة الدول، ممَّا يتطلَّب وقفة حازمة من جانب المجتمع الدولي لردع تلك التدخلات وتحجيم الأطماع التركية ووضع خطوط حمراء لا يمكن لأنقرة تجاوزها وإلا واجهت عقوبات.