ترجمات

حرّاس البوابة في العالم الرقمي

أدى التغيير في البنية الإعلامية الناجم عن انتشار الإنترنت إلى تحدي دور وسائل الإعلام التقليدية بوصفها حارس البوابة إلى المجال العام، وفي حين أن الصحفيين لا يزالون هم المسؤولين عن اختيار الأخبار وصياغتها ونشرها، فإن الأشخاص العاديين والخوارزميات على الشبكات الاجتماعية في العصر الرقمي باتوا يشكّلون عنصرًا مؤثرًا في نشر الأخبار في الفضاء الرقمي.

تعدُّد قنوات الاتصال وتطور نظرية حارس البوابة

تتناول نظرية حارس البوابة كيفية اختيار وتشكيل الرسائل الإخبارية التي يتم تداولها في جميع أنحاء المجتمع، ونظرًا إلى الكم الهائل من الأحداث يوميًّا، والعدد الذي لا يُحصى تقريبًا من الطرق لوصفها، ينتشر بعض الرسائل الإخبارية كالنار في الهشيم بينما تُترك رسائل أخرى غير مروية.

وأحد أهم العوامل المفسِّرة لحجم الانتشار من عدمه هو فهم الأشخاص والمنظمات والمؤسسات التي تتحكم في قنوات الاتصال الأكثر انتشارًا وواسعة النطاق، مثل التلفزيون والصحف ومنصات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر». ويمكن تصور الجهات التي تتحكم في هذه القنوات على أنها حراس بوابات، في إشارة إلى سلطتهم في تحديد الرسائل التي قد تمر أو لا تمر عبر قنواتهم.

وتشير دراسة منشورة بمجلة “new media & society إلى أنه مع تزايد شعبية وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة لنشر الأخبار، تظهر شبكات معقدة من حراس البوابة المترابطين، إذ يمكن لأي شخص نشر محتوى إخباري أو رابط إلى محتوى أخبار على تلك المنصات.

ووفقًا للدراسة، تتطلب فكرة حراسة البوابة على وسائل التواصل الاجتماعي تصورًا مختلفًا عن المفهوم الذي استخدمه ديفيد مانينغ وايت في خمسينيات القرن الماضي، ففي الأدبيات التقليدية يُشير مفهوم حارس البوابة إلى الشخص الذي يُحدد الأخبار التي تصل إلى الجمهور ولا تصل إليه. وفي حال التقيد بذلك التعريف، يمكن القول إنه لن يكون هناك أي حراس في العصر الرقمي لأن غزارة قنوات الاتصال تقوّض فكرة وجود بوابات تمر عبرها المعلومات السياسية، وإذا لم تكن هناك بوابات فلا يمكن أن يكون هناك حراس.

ولذلك برزت الحاجة إلى إعادة تصور مفهوم حراسة البوابة في العصر الرقمي، وقد اقترح العديد من الباحثين أطرًا بديلة لاستبدال حراسة البوابة، فعلى سبيل المثال يرى الدكتور أكسل برونز، الأستاذ في مركز أبحاث الوسائط الرقمية بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا، أن مفهوم حراسة البوابة لا يصف بشكل كافٍ عمل العديد من المشاركين الجدد في عملية تداول الأخبار، ومن بين هؤلاء الأفراد المؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي. ويصف برونز هذه الممارسة بأنها متابعة للبوابة، وجادل بأنها تحل ببطء محل الدور التقليدي للصحفيين.

فالمؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي باتوا ضمن حراس البوابات، حيث أصبح المؤثر الرقمي منتِجًا للمحتوى، يستخدم منصاته لعرض موضوعات بعينها دون أخرى، وتأطيرها وفق اهتماماته ومصالحه، مستغلًا العدد الضخم من المتابعين من أجل التأثير في تصرفاتهم وسلوكهم سواء على الإنترنت أو خارجه، وبالتالي يكون له دور في الأخبار التي يتداولونها، ولذلك يتجه العديد من الجهات للاستفادة من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لمنتجاتهم سواء كانت سلعًا أو أفكارًا أو خدمات،، فالمضامين التي يقوم المؤثرون بنقلها إلى الجمهور تكون في أحيان كثيرة مدفوعة الأجر.

من جانبها، ترى الدكتورة جين سينغر، أستاذة الصحافة في جامعة لندن، أن الجماهير نفسها أصبحت مشاركًا مهمًا في عملية الحراسة. وتشير مجلة “new media & society، إلى أنه لتصور وفهم حراسة البوابة في سياق الشبكات الاجتماعية، يمكن الاعتماد على نظرية الشبكة الاجتماعية. ففي حين كانت حراسة البوابة تدور لفترة طويلة بشكل أساسي حول الاتصال الجماهيري أحادي الاتجاه، فإن الحراسة في نظرية الشبكة تركز على التفاعلات متعددة الاتجاهات بين العديد من الأشخاص.

ويُعد هذا الاتجاه أكثر ملاءمة للتطور الراهن الذى يفرضه انتشار الأخبار من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يندمج الاتصال الجماهيري مع وسائل الإعلام والتواصل بين الأشخاص، ما جعل نظرية الشبكات الاجتماعية أكثر صلة بالصحافة.

مقاربات مواقع التواصل الاجتماعي للتعامل مع المحتوى الإعلاني السياسي

وفي هذا الإطار، برز دور مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة كمراكز إخبارية ومجالات عامة على الإنترنت، حيث يلتقي الأشخاص ويتناقشون بشأن المعلومات السياسية.

ويعتمد العديد من الإعلانات السياسية على وسائل التواصل الاجتماعي على الاستهداف الدقيق، وهي استراتيجية تُستخدم للوصول إلى مجموعة محددة من المستخدمين بناءً على موقعهم الجغرافي أو اهتماماتهم الشخصية.

وتزداد أهمية تلك الإعلانات خلال أوقات الحملات الانتخابية، حيث يكون هناك رواج في الرسائل السياسية التي تُبثّ عبر تلك المنصات والتي تكون مثارًا للجدل بشأن مدى دقة المعلومات التي تتضمنها، وهو ما دفع العديد من شركات مواقع التواصل الاجتماعي لاتخاذ إجراءات بشأن تلك الرسائل.

ففي أواخر عام 2019، أعلن موقع التدوينات القصيرة “تويتر” في تحديث لسياساته على موقعه الرسمي أنه سيحظر المحتوى السياسي المدعوم على منصته تمامًا. ويعرِّف “تويتر” المحتوى السياسي بأنه ذلك المحتوى الذي يشير إلى مرشح أو حزب سياسي أو مسؤول حكومي منتخب أو معين أو انتخاب أو استفتاء أو إجراء اقتراع أو تشريع أو لائحة.

كما أعلنت شركة “جوجل” في العام ذاته أنها ستقيّد كيف يمكن للمرشحين السياسيين استهداف المستخدمين بإعلانات تستند إلى سمات سياسية.

وفي مارس الماضي كشف موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” عن عزمه حظر أي إعلانات سياسية جديدة في الأسبوع السابق للاقتراع  الرئاسي المقرر في 3 نوفمبر المقبل، وفقًا لمجلة “بوليتيكو” الأمريكية.

وبذلك، دخلت أيضًا شركات مواقع التواصل الاجتماعي كحارس جديد للبوابة.

غالبية الأمريكيين يعارضون الإعلانات السياسية على منصات التواصل الاجتماعي  

وتعد الإعلانات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي أحد المحاور المهمة في خطة المرشحين للانتخابات الأمريكية سواء الانتخابات الرئاسية أو انتخابات الكونجرس في ظل التطور الرقمي الذي يشهده المجتمع غير أنه أسلوب لا يحظى بقبول لدى غالبية الأمريكيين، إذ تشير نتائج استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث في الفترة من 8 إلى 13 سبتمبر الماضي إلى أن 54% من الأمريكيين يرون أن شركات وسائل التواصل الاجتماعي يجب ألا تسمح بأي إعلانات سياسية على منصاتها، مقابل  26% فقط رأوا أن المنصات يجب أن تسمح بكل هذه الإعلانات.

كما رأى 77% من المشاركين في الاستطلاع أنه من غير المقبول نهائيًا أن تستخدم هذه الشركات بيانات حول أنشطة مستخدميها عبر الإنترنت لتعرض عليهم إعلانات من حملات سياسية، ويعتقد 22% أنه من المقبول إلى حدٍّ ما على الأقل أن تستخدم شركات وسائل التواصل الاجتماعي بيانات حول أنشطة مستخدميها على الإنترنت لعرض إعلانات الحملات السياسية عليهم.

وحسب الاستطلاع تمتد المشاعر الرافضة للإعلانات السياسية عبر معظم المجموعات على الرغم من وجود بعض الاختلافات المرتبطة بعوامل مثل الحزبية والعمر، فعلى سبيل المثال، يؤيد 56% من الديمقراطيين و50% من الجمهوريين الحظر التام للإعلانات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي.

ويرى 15% فقط من الديمقراطيين والمستقلين الذين يميلون إلى الحزب الديمقراطي أن شركات وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن تسمح بجميع الإعلانات السياسية على منصاتها، مقارنةً بـ38% من الجمهوريين. كما يقول نحو 27% من الديمقراطيين إنه يجب السماح ببعض الإعلانات السياسية فقط على هذه المنصات، مقارنةً بـ10% من الجمهوريين.

من جهة أخرى، تختلف الآراء أيضًا حسب العمر، إذ يفضل أولئك الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر حظر الإعلانات السياسية على منصات التواصل الاجتماعي، ويرى نحو 64% منهم أن هذه المواقع يجب ألا تسمح بأي إعلانات سياسية على منصاتها، مقارنةً بـ45% ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا.

وترتبط نتائج الاستطلاع الحالي بدراسات أخرى تُظهر أن الجمهور الأمريكي قلق بشأن التفاعل بين شركات التكنولوجيا الكبرى والسياسة، فعلى سبيل المثال، يعتقد معظم الأمريكيين أن مواقع التواصل الاجتماعي تفرض الرقابة على وجهات النظر السياسية، ويقول عدد قليل من البالغين في الولايات المتحدة إنهم واثقون إلى حد ما بمنع شركات التكنولوجيا من إساءة استخدام برامجها في انتخابات 2020.

كما أن هذا الرفض للإعلانات السياسية ليس بجديد، حيث تتوافق هذه النتائج مع استطلاع أجراه مركز «بيو» عام 2018، وجد أن ما يقرب من ستة من كل عشرة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة أي نحو 62% وجدوا أنه من غير المقبول أن تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بيانات عنهم وأنشطتهم عبر الإنترنت لعرض رسائل من الحملات السياسية.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن التطور التكنولوجي والثورة التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي وتنامي وتيرة استخدامها، قد أحدثت تحولًا جذريًّا في المفاهيم الكلاسيكية المتصلة بالإعلام ومن بينها مفهوم حارس البوابة، فلم تعد وسائل الإعلام التقليدية من الصحف والإذاعة والتلفزيون تمثل قنوات الاتصال الحصرية لتمرير المعلومات أو الأخبار من المصدر إلى الجمهور، ولم يعد الصحفيون والإعلاميون هم فقط حراس البوابة، بل ظهر نمط جديد من حراس البوابة في العصر الرقمي، من أبرزهم المستخدمون وشركات منصات التواصل الاجتماعي والمؤثرون على هذه المواقع الذين يتمتعون بقدرة على صياغة الرسائل وتمريرها لقطاعات واسعة من الجماهير، والخطورة هنا تكمن في أن العديد من هؤلاء المؤثرين يفتقر إلى الحد الأدنى من السمات والقدرات والمعايير المهنية الواجب توافرها في القائم بعملية الاتصال والتأثير في أفراد المجتمع.

زر الذهاب إلى الأعلى