مع استمرار ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران في تصعيدها العسكري، سواء داخل اليمن أو بشن هجمات على المملكة العربية السعودية، تتراجع الفرص أمام التوصل إلى حل سياسي يجمع الفرقاء اليمنيين وفقا للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن وفي إطار احترام إرادة الشعب اليمني.
وقد شكَّل هذا النهج الحوثي العدائي مثار جدل حول الأهداف التي تسعى إليها هذه الميليشيا الانقلابية، وسيناريوهات مستقبلها في المشهد السياسي اليمني، وما إذا كان من الممكن أن تتحوَّل إلى ما يُشبه نموذج حزب الله اللبناني أم لا؟!
في هذا الصدد، كشفت مؤسسة راند الأمريكية للأبحاث بالتعاون مع مركز تشاتام هاوس البريطاني عن أربعة سيناريوهات محتملة لمستقبل ميليشيا الحوثي في اليمن، تتمثل فيما يلي:
1. استمرار الصراع العسكري:
ويفترض هذا الوضع أن يستمر الصراع دون أن يُحقق أي طرف انتصارات عسكرية ضخمة بالشكل الذي يُحدث تغيُّرًا ملموسًا على موازين القوى على أرض الواقع، وفي هذه الحالة سيظل الدعم الإيراني للحوثيين مقصورًا على “التمويل الميليشياوي” لهم بالشكل الذي يمكنهم من الاستمرار في عملياتهم العسكرية وتعزيز الطائفية وزعزعة استقرار اليمن، فضلًا عن المحاولات التي دائماً ما تصيب الفشل لتهديد دول الجوار، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
وهذا الوضع قد تراه طهران مفيداً للحوثيين الذين تعتقد أنهم يتعايشون مع حروب العصابات طويلة الأمد، ولكن سرعان ما تتلاشى هذه الأحلام بالنظر إلى الطرف الآخر من المعادلة وهو التحالف العربي الداعم للشرعية بقيادة المملكة التي لن تقبل باستمرار هذا الوضع إلى ما لا نهاية، وتسعى إلى حسم الأمور، بالتوصل إلى اتفاق سياسي يجمع الفرقاء اليمنيين، عبر المسارعة بالتفاوض الذي يحقق إرادة الشعب اليمني، أو من خلال استمرار الضربات الموجعة للحوثيين التي ستجبرهم في النهاية على الجلوس على طاولة المفاوضات.
2. استمرار التصعيد لرفع السقف التفاوضي
وفق هذا الوضع سيستمر القتال داخل اليمن وسيسعى الحوثيون إلى تحقيق مكاسب عسكرية ميدانية قبل القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات، وذلك من أجل رفع سقفهم التفاوضي للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية.
ووفق هذا السيناريو يراهن الحوثيون على استمرار الدعم الإيراني لهم لمواصلة معاركهم في الجانب العسكري، وتعزيز نفوذهم السياسي، في محاولات يائسة للضغط على السعودية التي تضع كافة اعتباراتها للتصدي للمشروع الإيراني الطائفي الذي بدأ في التآكل والترنح في المنطقة العربية.
ويُعد هذا السيناريو هو الأمثل لإيران وميليشيا الحوثي على السواء، وقد يُرقِّي الحوثيين من مجرد وكيل لإيران إلى شريك تابع أقرب إلى نموذج حزب الله اللبناني، وبالتالي ستحصل الميليشيا المسلحة، بناءً على هذا التطور على المزيد من الدعم الإيراني.
وعلى المدى الطويل قد يُشكل هذا السيناريو خطرًا على الأمن القومي في المنطقة، خاصة أن اليمن تمثل بوابة استراتيجية، سواء لمنطقة الخليج العربي، أو لمنطقة القرن الإفريقي التي تعتبر هي الأخرى هدف للتدخل والتغلغل الإيراني.
3. تصدُّع جبهة الحوثيين
قد يواجه الحوثيين المزيدُ من الانشقاقات بين صفوفهم، مما يُضعف جبهتهم، ويُؤدي إلى تكبُّدهم خسائر وانسحابات أمام قوات التحالف العربي وانحسار لدورهم.
4.خسائر ميدانية للحوثيين تُضعف وضعهم التفاوضي
في هذا السيناريو يخسر الحوثيون معاركهم العسكرية على طول خطوط المواجهة الأمامية، ممَّا يضطرهم إلى القيام بتراجع عسكري إلى صعدة، مع العمل على حصار الحديدة، وبالتالي تسهيل مهمة الجيش اليمني لدحر خطوطهم الأمامية.
وباستعراض السيناريوهات الأربعة السابقة، يتضح أنها تتمحور حول مدى قدرة ميليشيا الحوثي على البقاء، فضلًا عن مقدار الدعم الذي ستحصل عليه من إيران.
هذه السيناريوهات قد تناولت كل الاحتمالات تقريبًا، إلا أن هناك مجموعة من المحددات التي يجب وضعها في الحسبان من أجل التوصل إلى توصيف دقيق للوضع الراهن، وفرص تحوُّل الحوثيين إلى نموذج مشابه لحزب الله. ومن أبرز هذه المحددات ما يلي:
أولًا طبيعة العلاقة مع نظام الملالي:
لقد عمل نظام الملالي في إيران على تأسيس بؤر عسكرية بهدف زعزعة أمن واستقرار أربع عواصم عربية هي بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، وامتد تأثير ذلك على الأمن القومي العربي برمته، مقابل تكلفة تكاد تكون ضئيلة مقارنة بالمكاسب التي تسعى طهران لتحقيقها، خاصة أن الأداة الأساسية المنفذة لمخطط الملالي الطائفي ليست إيرانية، وغالبيتها مقاتلون عرب.
وتختلف علاقات إيران مع الميليشيات التابعة لها، فعلى سبيل المثال تُعد علاقة حزب الله بطهران علاقة تبعية، فالحزب يتبع ولاية الفقيه في طهران، والمرشد الإيراني علي خامنئي هو المرجع الديني له، ولذلك فارتباط حزب الله اللبناني بولاية الفقيه في طهران يتسم بالإلزام الديني والطاعة الكاملة.
ومن هذا المنطلق يُساند الحزب إيران بكل ما أوتي من قوة، ويعمل على تنفيذ أجنداتها في المنطقة، وفي المقابل يلقى حزب الله الدعم الكامل والتمويل بجميع أشكاله من جانب الإيرانيين، فهو يُمثل لهم “درة التاج الإيراني”.
أمَّا فيما يتعلق بميليشيا الحوثي الانقلابية، فهي مكون أساسي في المظلة الشيعية التي تقودها إيران في المنطقة، إلا أنها لم تُقدم حتى الآن المقابل المجزي الذي يدفع إيران إلى تمويلها ودعمها بنفس مقدار حزب الله، خاصة في ظل الضربات الموجعة التي تقوم بها قوات تحالف دعم الشرعية في اليمن بقيادة المملكة.
ورغم تقاطع المصالح بين إيران والحوثيين، فإن ما يجمعهما هو المصلحة المشتركة والمتمثلة في السلطة اليمنية وبسط النفوذ وتمديد الطائفية، فضلًا عن السعي البائس لزعزعة أمن المملكة، إلا أن الحوثيين لا يربطهم التزام ديني بطهران على شاكلة حزب الله.
ثانيًا البيئة الحاضنة:
يُعاني الحوثي من تراجع شعبيته داخل بيئته الحاضنة، كما يُواجَه بحالة من الرفض من جانب سكان المناطق التي يُسيطر عليها بسبب سياساته القمعية ضدهم وجبايته للضرائب من أجل الإنفاق على عناصره، فضلًا عن حالة العداء التي صنعها نتيجة عمليات القتل والاعتداءات المتكررة التي قام بها بحق الشعب اليمني، والتي لم تستثن حتى الأطفال والنساء.
كما شهدت الجماعة العديد من الانشقاقات بين صفوفها، وهذا مؤشر على حالة الضعف والتشتت التنظيمي، وذلك بعكس الظروف التي واكبت صناعة حزب الله في لبنان والذي كان يحظى وقتها بشعبية، خاصة في الجنوب اللبناني.
ثالثًا المحيط الإقليمي:
ممَّا لا شك فيه أن حزب الله اللبناني استفاد من وجوده على الحدود مع إسرائيل، الأمر الذي سهَّل عليه الصدام مع الإسرائيليين في مناسبات عدة، كان أبرزها حرب 2006م، وعلى الرغم من توريطه للبنان في حروب ناتجة عن مغامراته الخاصة، فإنها مكَّنته مرحليًّا من كسب تعاطف بعض الفئات العربية التي تم تضليلها بما يُسمى محور الممانعة ورفض الاحتلال، واللافت أنها نفس الشعارات التي يدَّعيها نظام الملالي الإيراني بهدف كسب التعاطف العربي والإسلامي.
وبالتأكيد فقد ساعد هذا الدور الوظيفي حزب الله في تعزيز مكانته الشعبية، سواء على مستوى الداخل اللبناني أو على المستوى العربي، قبل أن ينكشف تضليله لاحقا وتنهار تلك الصورة الزائفة، وتحديدًا بعد انخراطه العسكري في سوريا لمساندة نظام الرئيس السوري بشار الأسد وما ارتكبه الحزب من انتهاكات صارخة وجرائم بحق السوريين أماطت اللثام عن وجهه الطائفي وأسقطت قناع المقاومة الذي كان يتستَّر وراءه.
أمَّا بالنسبة لميليشيا الحوثي، فهي لا تمتلك ما تستطيع بواسطته دغدغة المشاعر ، بل بالعكس، فإن الحوثي يواجه رفض داخلي تتسع دائرته يومًا بعد الآخر، فضلًا عن الرفض العربي له ولسياساته الإجرامية الطائفية، فالحوثي في عملياته الفاشلة عبر الحدود يسعى إلى استهداف المملكة العربية السعودية “بلاد الحرمين الشريفين”، مما جلب له المزيد من الرفض والتنديد العربي بممارسات الميليشيا الانقلابية في اليمن.
رابعًا الدور السعودي:
لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل الدور الرئيسي والمحوري للمملكة العربية السعودية، التي لن تسمح بإقامة نظام طائفي يتبع الأجندة الإيرانية الطائفية على حدودها.
ورغم أن المملكة تسعى إلى التوصل لحل سلمي للأزمة اليمنية، واتفاق الفرقاء اليمنيين، فإنها تقف من خلال قيادتها للتحالف العربي لدعم الشرعية أمام استيلاء الحوثيين على القرار اليمني بقوة السلاح، وجعله مرتهنًا بأجندة خارجية طائفية.
خامسًا إيران:
يُمثل الوضع الداخلي الإيراني حاليًّا مؤشرًا مهمًّا للحكم على مدى إمكانية تحويل الميليشيا الحوثية إلى نموذج حزب الله اللبناني، وما يستتبعه من تقديم طهران دعمًا ماليًّا وعسكريًّا سخيًّا، وتُعد أبرز ملامح هذا الوضع فيما يلي:
- تدهور اقتصادي بسبب العقوبات الأمريكية على نظام الملالي في طهران، إذ يرى “براين هوك” المبعوث الأمريكي الخاص بشؤون إيران أن “العقوبات الأمريكية أثرت على تمويل إيران للميليشيات العسكرية نتيجة حرمان النظام الإيراني من الإيرادات لتمويل التنظيمات الإرهابية والأعمال المزعزِعة للاستقرار في أنحاء المنطقة”.
- توقف تصدير النفط الإيراني بالشكل الذي يجعل عوائده صفرًا.
- جائحة كورونا التي جعلت العزلة المفروضة على إيران مزدوجة، فكان لتفشِّي الوباء آثاره السلبية على الداخل الإيراني، سواء من الناحية الصحية وسوء إدارة النظام معها، أو فيما يتعلق بانعكاساتها الاقتصادية، التي زادت الوضع المعيشي سوءًا، فضلًا عن إغلاق الحدود التي عطَّلت إمدادات إيران للميليشيات المسلحة التابعة لها في الخارج.
- الاحتجاجات الشعبية المستمرة نتيجة رفع الأسعار، والمعاناة من الظروف المعيشية الصعبة، التي تُشكل عامل ضغط على النظام الإيراني، ومن المؤكد أنها ستزداد حدة إذا أقدم هذا النظام على زيادة دعمه للحوثيين في ظل هذه الظروف.
- إضافة إلى ما سبق، فإن نظام الملالي يستخدم ميليشيا الحوثي الانقلابية للقيام بدور وظيفي، وحتى الآن لم يتطوَّر هذا الدور بالقدر الذي يمكنها من تكرار نموذج حزب الله.
فالعلاقة بين الجانبين قائمة على تحقيق المصالح المشتركة، فمن جانبهم يسعى الحوثيون إلى بسط نفوذهم على اليمن، وفي المقابل تسعى إيران إلى استخدامهم كأداة ضغط لتخفيف الإجراءات العقابية بحقها من جانب الولايات المتحدة والغرب، والتي لاقت ترحيبًا من جانب المملكة، بل كانت من أسباب هذه الإجراءات.
ختامًا.. تشير المعطيات السابقة إلى أن تكرار نموذج حزب الله في اليمن قد يكون أمرًا مبالَغًا فيه على الأقل في المدى المنظور، خاصة أن نظام الملالي في إيران يواجه العديد من الأزمات الداخلية والإقليمية والدولية، بعكس الفترة التي واكبت تعزيز دور حزب الله حينما كانت تداعيات ثورة إيران في أوجها.
بالإضافة إلى الاختلاف الجوهري بين طبيعة النظام السياسي في لبنان -وهو نظام طائفي- والنظام السياسي في اليمن القائم على التحالفات السياسية القبلية.
وفي ظل هذه التحديات، يبقى مستقبل الحوثيين مرهونًا بمدى قدرتهم على البقاء، ولذلك تُمثل الحرب التي يخوضونها معركة شبه وجودية بالنسبة لهم، ومن هنا تكمن الأهمية الاستراتيجية للعمليات العسكرية التي تقوم بها قوات التحالف بقيادة المملكة لتحجيم الحوثيين سياسيًّا وعسكريًّا، فتلك العمليات العسكرية يمكن أن تكون بمثابة أداة لتحريك المفاوضات المتعثِّرة بسبب تعنُّت ومماطلة ميليشيا الحوثي.