أسهمت التطورات التكنولوجية في العقدين الأخيرين، في ظهور أنماط جديدة من العمل الإعلامي، من أبرزها صحافة الجوال، فلم يعد الصحفيون وناشرو الأخبار التقليديون “حراس البوابة” الذين يقومون بتصفية المعلومات قبل إعلانها، سواء بالنشر أو الإذاعة أو عن طريق الإنترنت أو من خلال أية وسيلة اتصال أخرى، كما أنهم غير قادرين على فرض معايير وأخلاقيات النشر المهني على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والمدوِّنين، وبدلًا من ذلك تحوَّلوا إلى مجرد مشاركين في صناعة المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار، تبرز مسألة استخدام الصور وتحديد معايير ملاءمتها للنشر، حيث يمكن أن تكون الصور المروِّعة بمثابة أداة صحفية قوية للتأثير على مشاعر الجمهور، ولكنها قد تكون مزعجة أيضًا للعديد منهم.
ويجادل البعض بأنه لا ينبغي استخدام مثل هذه الصور المروعة أو الصادمة لزيادة الانتباه إلى القصة الخبرية أو الحدث، وفي المقابل يرى آخرون أنه يمكن استخدام الصور المروعة فقط لتوضيح شدة الحدث، باعتبار أنها جزء حيوي من تحريك وتثقيف الجمهور، ونقل الحقائق.
الصور الصادمة وجدلية الحجب والنشر
وتشير مبادرة أخلاقيات وسائل الإعلام إلى أن صور القتلى لها ماض مثير للجدل في الصحافة الأمريكية، فعلى سبيل المثال، توفر صور عمليات الإعدام المروِّعة خارج نطاق القانون التي تعرض لها الأمريكيون من أصل إفريقي وسط احتفالات لحشود من البيض، كما لو كانوا في كرنفال، تصويرًا دقيقًا للمشاهد المعاصر عن طبيعة تلك الحقبة.
إن الصور تتحدث بصوت أعلى من الكلمات في هذه الحالة، فالتقارير الإخبارية التاريخية تقدم وصفًا للفظائع، أمَّا الصور المروعة فتبدو مفيدة لفهم البيئة التي شجعت على عمليات القتل.
وبطبيعة الحال، يظهر تحدٍّ يتمثل في أن هذه الصور قد تُسبِّب أو تستدعي أذًى نفسيًّا بين عائلات الضحايا أو الذين يخشون العنف العنصري، وهناك أيضًا احتمال أن تشجع هذه الصور العنصريين على القيام بفعل مماثل أو على الأقل تحقق مشاهدتها متعة وإشباعًا لرغباتهم العنصرية.
وهنا يُثار عدد من التساؤلات بشأن معايير اختيار الصورة الصادمة من أبرزها:
ما مقدار الخوف والصور الصادمة اللازم لتحفيز القدر المناسب من الاهتمام والحركة من جانب الجمهور؟
ما مسؤولية الصحفيين والمؤسسات الإخبارية تجاه المتوفَّى؟ بعبارة أخرى كيف يتم احترام الفرد الذي لم يعد على قيد الحياة؟
ما الالتزامات الأخلاقية التي يدين بها المصوِّرون الصحفيون للجمهور؟
ويتنازع قضية نشر الصور الصادمة تياران رئيسيان هما:
تيار مؤيد لنشر الصور الصادمة
يرى أن رؤساء التحرير في وسائل الإعلام التقليدية وربما المصورون أيضًا يحجبون بشكل غير أخلاقي عن الجمهور بعض الصور المروعة للصراعات والكوارث المعاصرة بسبب الخوف من الإساءة أو الصدمة، ومن بين هؤلاء المصور والصحفي الألماني كريستوف بانجرت الذي تساءل في كتابه “”War Porn، كيف يمكننا رفض الاعتراف بمجرد نشر صورة لحدث مروع، بينما يضطر الآخرون إلى عيش الحدث المروع نفسه؟
كما طرح المصور الصحفي الأمريكي كينيث جاريك، الذي التقط صورة مؤلمة -لم تُنشر إلى حد كبير- لجندي عراقي محترق بشكل مروع أثناء حرب الخليج الأولى سؤالًا مشابهًا في مجلة “American Photo“ في عام 1991، قائلا: “إذا كنا كبارًا بما يكفي لخوض حرب، فعلينا أن نكون كبارًا بما يكفي للنظر إليها”.
تيار معارض لنشر الصور الصادمة
يتبنَّى فرضية رئيسية تتمثل في أن اعتياد الجمهور على رؤية هذه الصور يفقدهم قدرتهم على التعاطف، هذا فضلًا عن أن الخطر المتمثل في إصابة الأطفال بصدمات نفسية يعارض نشر أكثر الصور فظاعة.
وقد يكون المصورون المحترفون في خطر أيضًا وهو ما أكدته دراسة حديثة نشرتها مجلة الجمعية الملكية للطب المفتوح. حيث تناولت الدراسة عينة من 116 صحفيًّا يعملون في ثلاث غرف أخبار دولية يتعرضون مرارًا وتكرارًا لصور ومقاطع عنف مصورة يتم بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الكثير منها يُعتبر صادمًا للغاية، بحيث لا يمكن عرضه على الجماهير”، بحسب مركز “دارت” التابع لكلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كولومبيا.
وخلص فريق الدراسة بقيادة أنتوني فاينشتاين، الطبيب بمركز “سني بروك” للعلوم الصحية في تورنتو إلى أن المشاهدة المتكررة لمقاطع الفيديو العنيفة ذات الصلة بالأخبار ووسائل الإعلام تعرضهم لمجموعة من المشكلات النفسية، بما في ذلك القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
منصات التواصل الاجتماعي وتحطيم نظرية حراس البوابة
يمكن القول بأن الجدل حول ما يجب نشره عفا عليه الزمن إلى حدٍّ ما، نظرًا لإمكانية نشر أي شيء تقريبًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يعتبر روجر توث، الرئيس السابق لقسم التصوير الفوتوغرافي في صحيفة “الجارديان” البريطانية أنه يبقى على عاتق الوسيلة الإعلامية التزامٌ بمحاولة المساعدة في الحفاظ على تغطية إنسانية ولائقة قدر الإمكان.
ووفقًا لمجلة “Nordicom Review” المتخصصة في البحوث الإعلامية، فإنه في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد الصحف ووسائل الإعلام التقليدية تمتلك الحق الحصري في تحديد الصور الملائمة للنشر.
ويثير ذلك الوضع تساؤلات عن جدوى الحفاظ على الرقابة الذاتية الأخلاقية في وسائل الإعلام التقليدية عندما تنتشر الصور الصادمة في عالم الإنترنت، كما تبرز الحاجة الماسة إلى تحقيق تقارب في المعايير الأخلاقية لدى الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي فيما يتعلق بنشر الصور، بحيث يكون لدى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، مسؤولية عن نشر هذه الصور.
وفي ظل الغموض الذي يكتنف الإجابات عن الأسئلة حول المعايير المتعلقة بأنواع الصور التي يمكن نشرها بسهولة دون عوائق على منصات التواصل الاجتماعي، وكذلك أفضل السبل لاحترام الحساسيات العامة عندما يحتمل أن تكون الصور مزعجة، تبقى تلك المسألة شائكة للغاية.
وفيما يتعلق بأسباب انتشار الصور الصادمة، يرى فريد ريتشن، عميد المركز الدولي للتصوير الفوتوغرافي أن السبب في الانبهار بمشاهدة العنف على نطاق واسع هو طبيعته المروعة المتنازَع عليها، كما أن الحروب وما تتضمنه من صور انفجارات ودمار وجنود ومدنيين يواجهون إصابات كارثية، تحظى بإقبال من الجمهور لتنوع المشاهد خلالها وتحقيقها قدرًا أعلى من التعايش مع الحدث.
ويعتبر ريتشن أن هناك سببًا قويًّا آخر يدفع المصورين، على وجه الخصوص لنقل تلك الصور المروعة للجمهور، فقد أكد المصورون في كثير من الأحيان أنهم يشعرون بأنه من الضروري مشاهدة القتلى والإصابات الكارثية في حالات النزاع، بل إنه في كثير من الحالات يطلب الضحايا من المصورين القيام بذلك، إذ يمكن أن يكون احتواء الصدمة الناتجة عن مشاهدة مثل هذا الدمار أكثر صعوبة إذا لم يتم نشر صورها.
تأثير انتشار الصور الصادمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على وسائل الإعلام التقليدية
من جهة أخرى، أحدث انتشار الصور الصادمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تأثيرات على عمل الصحفيين وهو ما يتضح فيما يلي:
حاجة الصحف إلى أن تكون الصورة المنشورة لديها صادمة أكثر بسبب الكم الهائل من الصور الصادمة المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي.
بعد أن أصبح الصحفيون ضمن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم ليسوا في مأمن من آثار التعرض لفيضان الصور المروعة والصادمة عبر الإنترنت المرتبطة بحدثٍ ما، وهو ما قد يفقد الصحفيين الحساسية تجاه تلك الصور وينعكس على الحس التحريري المطلوب لعملية النشر.
كَوْنُ الصحفيين أصبحوا مشاركين في إنتاج تلك الصور الصادمة ومشاركتها على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يُنظر إلى معايير النشر هنا على أنها أكثر تساهلًا، فقد يؤثر ذلك على اختيارهم لتلك الصور الصادمة في المواقع الإخبارية والصحف والبرامج التليفزيونية التقليدية التي يعملون بها.
تؤدي سرعة دورة الأخبار عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى زيادة القدرة التنافسية بين الصحفيين ومنتجي المحتوى الآخرين والتسابق على نشر الصور الصادمة، على سبيل المثال، شهود العيان الذين يحملون كاميرات، وما يعرف بصحافة المواطن، وينتج عن ذلك بروز إشكالية بشأن قرار النشر يمكن تلخيصه في عبارتين هما “إذا كانت الصورة جيدة بما يكفي بالنسبة لهم، فهي جيدة بما يكفي بالنسبة لنا” أو “إذا لم ننشرها، فإن منافسينا سيفعلون ذلك”، ولعل ذلك ما يفسر تسلل المزيد من الصور الصادمة إلى وسائل الإعلام التقليدية.
وتأسيسًا على ما سبق، ثمة حاجة متزايدة إلى تدشين حوار موسع يجمع القائمين على وسائل الإعلام التقليدية والشركات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي يتمحور حول كيفية تحفيز وعي الجمهور عبر تلك المنصات بالآثار المحتملة لنشر الصور الصادمة، وأهمية إعطاء الأولوية للاعتبارات الأخلاقية ولقواعد السلوك المهنية بما في ذلك الفضاء الرقمي الذي أصبح يوفر فرصة للفرد العادي لممارسة العمل الإعلامي من خلاله، بل والتأثير في شرائح واسعة عبر ذلك المحتوى المرئي، سواء كان صورة أو مقطع فيديو، وأن تصبح هناك قاعدة ذهبية للنشر مفادها أينما أصبح هناك محتوى لا بد وأن يقترن بمسؤوليات قانونية وأخلاقية وقواعد تحكم عملية النشر.
وعلى الرغم من صعوبة التحكم في النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من القائمين على إدارة منصات هذه الوسائل، فإن نشر الصور الصادمة على وسائل الإعلام التقليدية التي قد تكون اضطرارية في بعض الحالات سواء بفعل عامل المنافسة، أو توثيق مدى قوة الحدث، يجب أن تكون لها مرجعية أخلاقية تضمن الحفاظ على مشاعر المشاهدين وتُراعي خصوصية من يتم تصويرهم، وهو ما يمكن الاعتماد عليه عبر التكنولوجيات الحديثة، مثل استخدام الفلاتر التي تُظهر هيكل الجسد دون توضيح ملامحه، وأيضًا يجب تنبيه المشاهدين على أن الصورة أو الفيديو به مشاهد مروعة، وغيرها من أدوات.