أصبح الاستخدام المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي سمة مميزة للعصر الحالي، إذ تُشير أحدث التقديرات إلى أن نصف سكان العالم تقريبًا باتوا يستخدمون تلك المواقع، وقد فرض ذلك التوسُّع في استخدام تلك المواقع مزيدًا من الضغوط على الحكومات، حيث باتت تلك المنصات الافتراضية ساحةً للتعبير عن الرأي، وفاعلًا مؤثرًا في تشكيل وتوجيه الرأي العام، كما أنها تلعب دورًا أقرب إلى جماعات الضغط القادرة على التأثير في القرارات وإحداث تغييرات على أرض الواقع.
3.96 مليار مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي يشكلون نصف سكان العالم
يبلغ عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي حاليًّا 3.96 مليار شخص، وهو ما يمثل نحو 51% من سكان العالم (7.8 مليار شخص)، ويعد ذلك رقمًا قياسيًّا بالنظر إلى أن معظم شركات وسائل التواصل الاجتماعي تقصر استخدام منصاتها على الأشخاص الذين تبدأ أعمارهم من 13 عامًا وما فوق.
ووفقًا لتقرير صادر عن منصتي “We are social” و”Hootsuite”، المعنيتين بالدراسات حول استخدامات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، ارتفعت أعداد المستخدمين في جميع أنحاء العالم بأكثر من 10% خلال الأشهر الـ12 الماضية، بمتوسط أكثر من مليون شخص بدؤوا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على نحوٍ يومي للمرة الأولى.
كما انضم أكثر من 376 مليون مستخدم جديد إلى منصات التواصل الاجتماعي منذ يوليو 2019، وهو ما يترجم إلى ما يقرب من 12 مستخدمًا جديدًا كل ثانية، لكن توزيع مستخدمي تلك المواقع جغرافيًّا لا يتسم بأي قدر من العدالة، حيث إن ما يقرب من 70% من إجمالي السكان في أمريكا الشمالية يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي حاليًّا، مقارنة بـ7% فقط في وسط إفريقيا.
ويختلف الاستخدام أيضًا حسب النوع، إذ يشير التقرير إلى أن الرجال يستخدمون مواقع التواصل أكثر من النساء، بنسبة 1.2 رجل لكل امرأة تستخدم تلك المواقع.
وتشير دراسة نشرتها شركة “GlobalWebIndex” المتخصصة في تحليلات الإنترنت إلى أن البقاء على اطلاع على الأخبار والشؤون الجارية كان الدافع الأكبر لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي على المستوى العالمي، يليه العلاقات الاجتماعية والترفيه.
وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي حاليًّا ثاني أكثر وجهة يلجأ لها مستخدمو الإنترنت الباحثون عن المعلومات بعد محرِّكات البحث مباشرة، وإن كانت تحتل المرتبة الأولى بالنسبة للجمهور الأصغر سنًّا.
ويعد فيسبوك موقع التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في العالم، حيث يضم أكثر من 2.6 مليار مستخدم نشط شهريًّا، بينما يستخدم مليارَا شخصٍ تطبيق “واتس آب” للتراسل المملوك لفيسبوك. كما شهد موقع إنستغرام أيضًا نموًّا لافتًا في الآونة الأخيرة، حيث تُشير أحدث البيانات إلى أن أكثر من 1.08 مليار شخص يستخدمونه حاليًّا، ولا يزال يتقدم على تطبيق “تيك توك” عندما يتعلق الأمر بعدد المستخدمين النشطين شهريًّا.
وتتداخل العديد من جماهير هذه المنصات، فعلى سبيل المثال أفاد أكثر من 95% من مستخدمي فيسبوك الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و64 عامًا أنهم استخدموا منصة اجتماعية أخرى على الأقل.
البيانات والمعلومات على شبكات التواصل الاجتماعي.. مَنْجَم لا يَنْضَب
تُعد مواقع التواصل الاجتماعي منجمًا للبيانات والمعلومات التي لا تنضب أبدًا، ووسيلة للتغلب على قيود الاستقصاءات التي تستغرق وقتًا طويلًا وتكون صغيرة الحجم وذات أثر رجعي، فالبيانات التي توفرها تلك المواقع تغطي شرائح مليونية في وقت قصير للغاية ونتائجها تعكس الوضع الراهن. وقد ظهر ذلك الاستخدام بوضوح خلال أزمة وباء كورونا المستجد “كوفيد-19” إذ قام فريق بحثي في جامعة تورونتو باستخراج بيانات تعكس تفاعل مستخدمي منصات “تويتر-Twitter” و”ويبو-Weibo”، و”يوتيوب-YouTube” مع الأزمة، لمساعدة صنَّاع القرار والعاملين في القطاع الصحي على فهم الاستجابة العامة للأزمة بشكل أفضل، وكذلك العواقب النفسية للوباء.
وقام فريق البحث بجمع ملايين التغريدات العشوائية المتعلقة بالوباء على تويتر بشكل مستمر منذ أوائل يناير، وأجرى الأمر ذاته على منصة ويبو الصينية المشابهة لتويتر. ووفقًا لتحليل البيانات على ويبو، زادت المشاعر السلبية مثل القلق والاكتئاب بعد الإعلان عن ظهور كورونا في الصين، وانخفضت المشاعر الإيجابية والرضا عن الحياة. أمَّا على تويتر فكانت المشاعر الأكثر شيوعًا هي الخوف.
ورصدت تلك الدراسة تحوُّلًا بشأن أكثر الموضوعات التي تمت مناقشتها على تويتر وكانت متصلة بكورونا، فعبَّر 23 مليون رسالة باللغة الإنجليزية تم جمعُها من الموقع في الفترة ما بين 7 مارس و21 أبريل، كانت الموضوعات الأكثر مناقشة الحاجة إلى التوصل للقاح، وإرشادات الحجر الصحي، والوصم الاجتماعي الناجم عن الفيروس. وذلك على النقيض من 10 ملايين تغريدة تم جمعها في الفترة من 20 يناير إلى 7 مارس، كانت تسلط الضوء على مواضيع مثل التدابير الوقائية والآثار الاقتصادية بدلًا من مسألة العلاج.
الإنترنت الكمومي.. خطوة على درب تأسيس مسار آمن لتبادل المعلومات
وفي الوقت الذي يعد فيه الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أداة للترابط العالمي للشبكات وتدفُّق البيانات حول العالم، إذ يعتبر أعظم اختراع في القرن العشرين إلا أنه يفرض تحديات تتعلق بأمن المعلومات والحفاظ على الخصوصية، سواء للمستخدمين أو الحكومات أو الشركات، ممَّا أدى إلى نموِّ السوق العالمي للأمن السيبراني إلى 173 مليار دولار، بحسب تقرير الشبكة الأسترالية لنمو الأمن السيبراني.
وفي إطار مواجهة تلك التحديات أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية مشروعًا تكنولوجيًّا ضخمًا يتمثل في تطوير شبكة “إنترنت كمومي – quantum internet”، تعمل باستخدام قوانين ميكانيكا الكم لتبادل المعلومات بشكل أكثر أمانًا، فضلًا عن ربط جيل جديد من أجهزة الكمبيوتر وأجهزة الاستشعار.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد وقَّع في أواخر عام 2018، قانون مبادرة الكم الوطنية، لتمويل أبحاث الكم بقيمة 1.2 مليار دولار على مدى خمس سنوات، لمواكبة المنافسة العالمية حول تلك التقنية الجديدة.
ومن جانبها تستثمر الصين، أكبر منافس للولايات المتحدة، بكثافة في تكنولوجيا الكم، ذلك المجال الذي يقود إلى منح مزايا اقتصادية وأمنية كبيرة للدول التي تهيمن عليها.
وتسعى تقنية Quantum إلى تسخير الخصائص المميزة للذرات و”الفوتونات- photons” والإلكترونات لبناء أجهزة كمبيوتر أكثر قوة وأدوات أخرى لمعالجة المعلومات، وتعتمد الشبكة الكمومية على الفوتونات التي تؤدي إلى حالة كمومية تُعرف بالتشابك، ممَّا يسمح لها بمشاركة المعلومات عبر مسافات طويلة دون أن يكون لها اتصال مادي.
وسيكون للإنترنت الكمومي تأثير عميق على المجالات الحاسمة للعلم والصناعة والأمن القومي، وهو لن يكون بديلًا مباشرًا للإنترنت كما نعرفه، ولكن سيعمل بالتوازي كشبكة تكميلية ومن المرجح أن يكون المستخدمون الأوائل لتلك الشبكة وكالات الأمن القومي والمؤسسات المالية وشركات الرعاية الصحية التي تسعى إلى إرسال البيانات بشكل أكثر أمانًا.
ويرى بعض العلماء أن هذه الشبكة لا يمكن اختراقها بسبب طبيعة الفوتونات وغيرها من “البتات الكمومية- quantum bits”، المعروفة باسم “الكيوبت- qubits”، لافتين إلى أن أي محاولة لمراقبة أو تعطيل هذه الجسيمات ستغير حالتها تلقائيًّا وتدمر المعلومات التي يتم إرسالها.
لكن فريقًا آخر يضم بول دابار، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للعلوم، يرى أنه لا شيء مُحصن ضد الاختراق بما في ذلك ما يُسمى بـ”الإنترنت الكمومي”.
الحجب والتضييق والمحاكاة.. ثلاث استراتيجيات حكومية للتعامل مع منصات التواصل الاجتماعي
تبنَّت بعض الدول سياسات متشددة تجاه مواقع التواصل الاجتماعي في سياق المخاوف بشكل عام من استخدام الإنترنت من جانب المعارضين، وقد تراوحت تلك السياسات ما بين الحظر واستحداث شبكات تواصل اجتماعي محلية خاضعة للرقابة والسيطرة والتحكُّم من قِبَل الدولة.
وفي حين مثَّلت إيران نموذجًا للدول التي لجأت إلى خيار الحظر التام حيث حرمت شعبها- تستثني كبار المسؤولين- من استخدام تويتر وفيسبوك ويوتيوب، فإن الصين شكَّلت نموذجًا للاستعاضة عن تلك الخطوة القمعية بتدشين شبكة تواصل اجتماعي على المستوى المحلي، مما جعلها تتمكَّن من تجنُّب ما تراه من مخاطر سياسية ناجمة عن استخدام تلك المواقع العالمية، وفي الوقت نفسه الاستفادة من البيانات التي تتوفر عبر تلك الشبكة المحلية المستحدثة في فهم الجمهور ومراقبته وقراءة توجهاته.
أمَّا تركيا، فتنتهج سياسة قائمة على التضييق على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تلجأ لخيار الحجب المؤقت بعد كل واقعة أو قضية تسبب حرجًا أو تحمل انتقادًا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومته، حيث تُلقي السلطات التركية القبض على آلاف الأشخاص سنويًّا نتيجة منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي بدعوى إهانة الرئيس التركي أو دعم الإرهاب.
ويبدو أن هذه السياسة في طور التحوُّل إلى الحظر التام تحت مظلة قانونية، ففي محاولة للسيطرة على محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، يستعد البرلمان التركي للتصويت على مشروع قانون يحظر مواقع مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب ما لم تمتثل لقواعد صارمة تُشدد من قبضة الحكومة على هذه المواقع.
ويفرض مشروع القانون على شركات وسائل التواصل الاجتماعي التي لديها أكثر من مليون مستخدم يوميًّا في تركيا على تأسيس مكتب لها أو تعيين ممثل في تركيا يكون مسؤولًا من الناحية القانونية أمام السلطات التركية. كما يتعيَّن على الشركات أو ممثليها الردُّ في غضون 48 ساعة على الشكاوى المتعلقة بالمشاركات التي تنتهك الخصوصية، وستكون الشركات مطالَبة بتخزين بيانات المستخدم داخل تركيا.
وفي حالة عدم الامتثال، ستتمكن السلطات التركية من فرض غرامات باهظة تصل إلى 1.5 مليون دولار وعرض النطاق الترددي للمواقع للتضييق بنسبة تصل إلى 90%، مما يجعلها غير قابلة للاستخدام بشكل فعَّال.
في المقابل، جمعت روسيا ما بين سياسة الحظر وهو ما طبقته مع تطبيق التراسل الفوري الشهير “تليجرام–Telegram” لمدة عامين، وسياسة تدشين شبكات محلية للتواصل الاجتماعي مثل شبكة “فكونتاكتي” المعروفة باسم الفيسبوك الروسي.
وجاء حظر تليجرام عام 2018 على خلفية عدم استجابة الشركة المالكة للتطبيق لطلبات السلطات الروسية بتقديم مفاتيح تشفير لفك شفرة رسائل الانتحاري منفذ تفجير سان بطرسبرج عام 2017 والذي أودى بحياة 15 شخصًا، غير أنه في أواخر مايو الماضي، أعلنت السلطات الروسية إنهاء حظر استخدام تليجرام.
ووفقًا لتحليلٍ للمجلس الأطلنطي للدراسات، اقترنت تلك الخطوة المفاجئة بعدد من التفسيرات، أبرزها:
– عدم قدرة الدولة على حظر التطبيق الذي ظل يتمتع باستخدام واسع النطاق، خاصة كقناة للتفاعل بين المستخدمين حول القضايا السياسية، ويشير ذلك إلى أنه غالبًا ما تكون القوانين والقرارات أكبر من القدرات الفنية، وخير شاهد على ذلك تأكيد وزارة الاتصالات الروسية نفسها عقب صدور قرار الحظر بأنه مستحيل من الناحية الفنية.
– مساعٍ تشريعية لرفع الحظر، تمثلت في تقديم مشروع قانون في البرلمان الروسي يقترح إنهاء حظر التطبيق نظرًا لما توفَّره “تليجرام” من خدمات تتصل بالمعلومات التي تكون مهمة لوكالات الدولة وهو ما حدث خلال وباء كورونا.
– هود تليجرام المستمرة لمكافحة المحتوى المتطرف، وتحسين طرق إزالة الدعاية المتطرفة بشكل كبير من المنصة بطرق لا تنتهك الخصوصية.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن اللجوء إلى حظر مواقع التواصل الاجتماعي، لم يعد الوسيلة المثلى للتعامل مع الأضرار الفعلية أو المتصوَّرة مِن ورائها، إذ يشوب ذلك الإجراء العديد من الصعوبات الفنية التي تجعل تطبيقه بشكل محكم أمرًا مستحيلًا.
كما أنه يُضيع فرصة كبيرة أمام صُنَّاع القرار والمسؤولين للاستفادة من مَوْرد مهم للبيانات، حيث يقترن تحليل وسائل التواصل الاجتماعي بقدرة كبيرة على توفير فهم لمجموعات كبيرة من الجماهير وأفكارها وأنماط تواصلها، ويمكن أنْ توفِّر هذه المنصات معلومات مهمة حول ديمغرافيات مجموعة أو جمهورٍ ما وحجمه وهيكله التنظيمي ومجال أنشطته، ويمكن أنْ تُسهم هذه التفاصيل في الجهود الرامية إلى توجيه رسائل إلى جماهير معينة أو التأثير على تصوراتها أو قراراتها أو سلوكها.
لذلك فإن الحل الأمثل للتغلُّب على المخاوف المرتبطة بانتهاك الخصوصية أو نشر محتوى تحريضي على مواقع التواصل الاجتماعي أو استغلالها من جانب المتطرفين بغرض استقطاب عناصر جديدة، هو الاستثمار في مجال الأمن السيبراني وتقنيات الذكاء الاصطناعي للتغلُّب على تلك التحديات.