المملكة وموسم الحج في زمن كورونا.. إقامة الشعيرة وحفظ النفس

الحفاظ على الإنسان وسلامته أولوية ثابتة لدى القيادة الحكيمة في المملكة العربية السعودية والتي تضرب يومًا بعد يوم أروع الأمثلة في كيفية إدارة الأزمات، فبعد أشهُرٍ من الترقُّب حول ما إذا كان سيتم إلغاء موسم الحج  لظروف انتشار وباء كورونا الذي يجتاح العالم حاليًّا وأودى بحياة أكثر من 486 ألف شخص وأصاب أكثر من 9.5 مليون آخرين، جاء قرار المملكة بتنظيم فريضة الحج هذا العام 1441هـ، بعدد محدود للراغبين في أداء المناسك لمختلف الجنسيات، من الموجودين داخل المملكة.

فلم تلتفت المملكة إلى التبعات الاقتصادية للقرار في خِضَمِّ وباءٍ عالميٍّ ألقى بظلاله على الموارد المتاحة للحكومات حول العالم، وكان شغلها الشاغل هو تحقيق معادلة توازن بين إقامة الشعيرة المقدسة وفي ذات الوقت حفظ النفس البشرية التي هي من مقاصد الشريعة الإسلامية.

 تاريخ طويل في خدمة ضيوف الرحمن.. وإشادة عالمية بالقرار الحكيم في ظل الجائحة

إن القراءة المتعمقة لقرار المملكة تأتى ضمن رؤية أشمل في التعامل السريع والمسؤول من قيادة المملكة مع أزمة كورونا منذ بدايتها، وحرصها على اتخاذ الإجراءات الاحترازية لحماية ضيوف الرحمن، من خلال تعليق العمرة والزيارة للبقاع المقدسة، وهو ما أسهم بشكل كبير في مواجهة الوباء عالميًّا، وقلَّل من أعداد الإصابات التي كان من الممكن أن تتفاقم لولا هذه القرارات السريعة والحاسمة، والتي تعد امتدادًا لتاريخ المملكة العربية السعودية الطويل في خدمة ملايين الحجيج ورعايتهم.

ولاقى قرار المملكة اهتمامًا بارزًا في الأوساط الدولية، إذ دعمت منظمة الصحة العالمية قرار السعودية، في تصريح على لسان المدير العام للمنظمة، “تيدروس أدهانوم جيبريسيوس”، الذي رأى أن القرار اتُّخذ بناءً على تقييم المخاطر وتحليل مختلف السيناريوهات، عملًا بإرشادات منظمة الصحة العالمية، لحماية الحجاج والحد من خطر انتقال العدوى.

واعتبر جيبريسيوس أن قرار المملكة مثال جديد على الخيارات الصعبة التي على كل الدول اتخاذُها لإعطاء الأولوية للصحة.

كما سلط تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الضوء على تصريحات وزير الحج والعمرة، الدكتور محمد صالح بن طاهر بنتن، الذي ذكر أن عدد الحجَّاج لن يتجاوز 10 آلاف حاج، مشيرة إلى أن موسم الحج  العام الماضي شارك فيه ما يقرُب من 2.5 مليون حاج، مبرزةً التدابير التي ستتخذها المملكة خلال موسم الحج لضمان سلامة الحجيج.

وتناول التقرير المكانة المحورية لقطاع الحج والعمرة ضمن رؤية المملكة 2030، مستعرضةً جهود توسعة المساجد، ومطار جديد في جدة، ونظام مترو جديد لخدمة الحجاج، فضلًا عن مساعٍ، أيضًا، إلى الاستفادة من زيارات الحجاج وتخفيف شروط تأشيراتهم للسماح لهم بالسياحة.

المؤسسات والهيئات والدول الإسلامية تُبارِك جهود القيادة الحكيمة

الأزهر الشريف من جهته، أكد أن قرار السعودية حول ضوابط موسم الحج هذا العام يحقِّق مقاصد الشريعة ويحافظ على سلامة ضيوف الرحمن، مشيدًا بجهود خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان في خدمة الحجيج والتيسير عليهم والحفاظ على سلامتهم.

ووصف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، قرار المملكة العربية السعودية بأنه قرار حكيم ومأجور شرعًا ويراعي عدم تعطيل فريضة الحج والحرص على سلامة حجاج بيت الله الحرام، وإعلاء حفظ النفس، أهم مقاصد الشريعة الإسلامية.

وأكد الإمام الأكبر أن القرار يدل على وعي قيادة المملكة بخطورة فيروس كورونا، خاصة في ظل الانتشار المتسارِع لهذا الوباء الذي يهدد أرواح الناس في كل مكان.

وفي ذات الإطار، أشاد مجلس حكماء المسلمين بقرار المملكة العربية السعودية الخاص بإقامة شعيرة الحج، معتبرًا أنه يوازن بين الرغبة في إقامة الشعيرة التي تهفو إليها نفوس المسلمين من كل مكان، والحرص على سلامة الإنسان وحمايته من آثار وباء كورونا، وهو ما يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ النفس البشرية وصونها من كل أذى.

كما رحَّبت منظمة التعاون الإسلامي بتنظيم الحج لهذا العام وَفْقَ احترازات صحية صارمة، مشيرة إلى كونه يأتي اتساقًا مع جميع الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية التي اتخذتها السعودية، مما أسهم على نحوٍ فاعلٍ في تقليل الآثار السلبية للوباء، والحيلولة دون انتشاره.

لاقى القرار أيضًا ترحيبًا كبيرًا وإشادات متتالية وحفاوة بالغة من جانب الدول العربية والإسلامية، فعلى سبيل المثال أكدت دولة الإمارات أن قرار المملكة يأتي في إطار الإجراءات الوقائية والاحترازية للحد من انتشار المرض والمحافظة على صحة الناس وحياتهم التي تعد من أهم مقاصد شرعنا الحنيف، فقد ربط الله، عز وجل، في القرآن الكريم عبادة الحج بالاستطاعة التي لا تتوفَّر في مثل هذه الظروف.

وفي السياق ذاته، أكد وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف البحريني خالد بن علي آل خليفة، تأييد المنامة التام لقرار السعودية. واعتبرت مملكة البحرين أن القرار الذي يأتي متوافقًا مع جوهر الدين الإسلامي الحنيف الذي جاء بحفظ الضرورات الخمس، وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

كما أيَّد مجلس علماء باكستان قرار السعودية، الذي يؤكد ضرورة إقامة شعيرة الحج دون إلحاق الضرر بأرواح الحجاج، ودون أن تكون هذه الشعيرة العظيمة سببًا في زيادة انتشار هذا الوباء الخطير، خاصة أن الشريعة الإسلامية تحثُّ الجميع على تحقيق وتحصيل المصالح ودرء المفاسد.

مواسم الحج عبر التاريخ بين الانقطاع والتقليص

تم تعطيل أو تقليص موسم الحج عدة مرات بسبب الحروب والأوبئة، لكنه لم يواجه أي قيود كبيرة على الحضور منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما أبقى تفشِّي الكوليرا والطاعون الحجاج بعيدًا لعدد من السنوات.

وبحسب الموقع الرسمي لـ«دارة الملك عبد العزيز» -المؤسسة متخصصة في خدمة تاريخ وجغرافيا وآداب وتراث المملكة- فقد سجَّل التاريخ الإسلامي تعطُّل موسم الحج 40 مرةً، بسبب أحداث وكوارث لازمت مواسمه منها‏:‏ انتشار الأمراض والأوبئة‏، والاضطرابات السياسية‏ وعدم الاستقرار الأمني، الغلاء الشديد والاضطراب الاقتصادي،‏ إلى جانب‏ فساد الطرق‏ من قِبَل اللصوص وقُطَّاع الطرق.

وكانت المرة الأولى التي شهدت تعطيلًا لفريضة الحج بسبب القرامطة، الذين أغاروا على الحجاج، ممَّا أدى لمجزرة خلَّفت ما لا يقل عن 30 ألف قتيل من الحجاج الذين دُفِنُوا في موقعهم دون غسل ولا كفن أو صلاة.

وقام القرامطة أيضًا بطمر بئر زمزم بوضع ثلاثة آلاف جثة فيها، واختطفوا الحجر الأسود ونقلوه إلى عاصمتهم في البحرين، ممَّا تسبب في تعطيل موسم الحج لمدة يُعتَقَد أنها وصلت إلى 10 أعوام، بينما دعا زعيمهم الناس لأداء فريضة الحج في البحرين.

كما كانت الأوبئة من بين الأسباب التي أثَّرت بشكل كبير في موسم الحج، ويوثق التاريخ الإسلامي أن وباءً تفشَّى في مكة سنة 357 هجرية، عُرِفَ باسم “الماشري”، تسبَّب في موت كثيرٍ من الناس، وتسبَّب في موت جِمال الحجيج أيضًا جرَّاء العطش، وأن معظم من تمكَّنوا من الوصول إلى مكة حجيجًا ماتوا بعد أدائهم الحج.

وأشارت «الدارة» إلى أن عام 1246 هجرية شهد تفشِّيًا لوباء آتٍ من الهند، تسبَّب في مقتل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع الحجاج المتوافدين آنذاك.

كما أشارت إلى أن وباء الكوليرا كان قد تفشَّى في أحد مواسم الحج، وتسبب في وفيات بين الحجيج على جبل عرفات، وبلغ ذروة وفياته في مِنى.

ويشير موقع الدارة كذلك إلى توقُّفٍ شهده موسم الحج عام 1213 هجرية، وذلك بسبب “الحملة الفرنسية” القائمة آنذاك، والتي تسبَّبَت في انعدام الأمان على الطريق المؤدي إلى مكة.

وأخيرًا.. لقد عكس قرار المملكة دورًا قياديًّا عالميًّا في التحلِّي بالمسؤولية وتقديم نموذج يُحتَذَى للحفاظ على سلامة النفس البشرية مع الالتزام بإقامة الشعيرة المقدسة، ممَّا يعكس حكمةً بالغةً، ورشادةً في صنع واتخاذ القرار، كما أن القرار كان بمثابة صفعة قوية للمتربِّصين الذين كانوا -وما زالوا- يتحيَّنون أي فرصة من أجل إطلاق سهام الحقد والكراهية تُجاه مملكة الإنسانية.