في غمرة التطور التكنولوجي الذي يشهده مجال الإعلام، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي تشكل مصدرًا مهمًّا للحصول على الأخبار والمعلومات التي من شأنها التأثيرُ في تشكيل الرأي العام، ومنافسة وسائل الإعلام التقليدية، بل وحتى الصحافة الإلكترونية.
وتزايد تأثير منصات التواصل الاجتماعي في الدول التي أحكمت قبضتها على وسائل الإعلام التقليدية، حيث يسعى الجمهور إلى متنفَّسٍ بعيدٍ عن سطوة الدولة، مما دفع بعض الحكومات إلى اقتحام تلك المواقع عبر حشد كتائبَ إلكترونيةٍ للترويج لأهدافها والنَّيْل من المعارضين وتشويه صورتهم، الأمر الذي فرض تحدياتٍ واسعةً على شركات وسائل الإعلام الاجتماعية لمكافحة تلك الممارسات.
وتعد تركيا تحت حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نموذجًا صارخًا لقمع وسائل الإعلام التقليدية وتأميم الإعلام من أجل السيطرة على الرأي العام، ولم تتوقف جهود حكومة أردوغان عند تلك النقطة، بل إنها لجأت بعد خنق المجال العام إلى تشكيل كتائبَ إلكترونيةٍ منظمةٍ أو ما يعرف بـ”الذباب الإلكتروني” وإنشاء حساباتٍ إلكترونيةٍ مزيَّفةٍ وعمل هاشتاقات تروِّج لمعلوماتٍ غيرِ صحيحةٍ تضمن تحريضَ وتشويهَ معارضي أردوغان.
نهاية 12 عامًا من النشاط المضلل لشبكة شباب العدالة والتنمية
في الحادي عشر من الشهر الجاري، أعلنت شركة “تويتر” عبر مدوَّنتِها الرسمية عن إيقاف حساباتٍ في تركيا ضمن حملةٍ منسقةٍ لدعم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، كاشفةً عن شبكة يقودها جناح الشباب في الحزب الحاكم تتألف من 7340 حسابًا نشرت تغريداتٍ وموادَّ تصب في صالح أردوغان وحزبه.
وتضمنت الشبكة العديد من الحسابات المخترقة المرتبطة بمنظماتٍ تنتقد أردوغان والحكومة التركية، وكانت هذه الحسابات المخترَقة أهدافًا متكررةً للقرصنة وجهود الاستحواذ من قِبل الجهات الحكومية.
ويشير “مرصد ستانفورد للإنترنت- Stanford Internet Observatory” (برنامج بحثي لدراسة إساءة استخدام تقنيات المعلومات) إلى أنه تم إنشاء تلك الحسابات على تويتر والبالغ عددها 7340 في الفترة ما بين 9 يونيو 2008 و18 يناير 2020، لافتًا إلى أن بعضًا من تلك الحسابات تضمنت بياناتٍ لشخصيات يبدو أنها قادةُ فروعٍ محليةٍ لحزب العدالة والتنمية، والحسابات الأخرى تشبه شركات التسويق الرقمي، والبعض الآخر لشخصياتٍ زائفةٍ أو أعضاء في شبكات إعادة التغريد شديدة المركزية المؤيدة لحزب العدالة والتنمية.
وحول أعداد المتابعين لتلك الحسابات، فإن60 حسابًا كان لديه أكثر من 100 ألف متابعٍ، أمَّا أغلب الحسابات فيتابعها عددٌ قليلٌ، فكان هناك 4534 حسابًا يتابعهم أقل من 500 متابع.
واستهدفت تلك الحسابات عموم الأتراك عبر نحو 37 مليونَ تغريدةٍ.
أمَّا عن أبرز الموضوعات التي تطرَّقت إليها تلك التغريدات فتتمثَّل فى الآتى:
-اتهامات بالإرهاب موجَّهة إلى حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للقضية الكردية، فضلًا عن انتقاداتٍ إلى حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية.
-الترويج لدعم الاستفتاء على تعديل الدستور التركي عام 2017، الذي أدَّى للتحوُّل من نظام الحكم البرلماني إلى النظام الرئاسي وعزَّز من سلطة أردوغان.
-زيادة الدعم الداخلي للتدخُّل التركي في سوريا، كما كانت هناك أيضًا تغريداتٌ باللغة الإنجليزية استهدفت الخارج بحثًا عن إضفاء شرعيةٍ على العدوان التركي في شمال شرق سوريا في أكتوبر 2019.
-الإطراء والإشادة بالحكومة التركية فيما يتعلق باستقبال اللاجئين السوريين وانتقاد سياسات اللجوء في العديد من الدول الغربية.
وردًّا على تلك الفضيحة السياسية، وصف مدير الاتصالات الرئاسية في تركيا، فخر الدين ألتون، موقع تويتر بأنه “آلة دعائية”، زاعمًا أن الموقع يسعى إلى “تشويه حكومة تركيا وحركة سياسية شعبية”. ولم يكتفِ ألتون بذلك، بل اتهم “تويتر” بدعم مَن وصفهم بـ”الكيانات الإرهابية المعادية لتركيا” مشيرًا إلى حزب العمال الكردستاني وحركة غولن.
آليات مكافحة الكتائب الإلكترونية المدعومة من الحكومات
في أكتوبر عام 2018، قامت شركة تويتر بنشر أول أرشيفٍ شاملٍ للتغريدات والوسائط المرتبطة بجهود نشر المعلومات المدعومة من الدولة عبر موقع التدوينات القصيرة.
ومنذ إطلاقه، قام الآلاف من الباحثين من جميع أنحاء العالم بتنزيل مجموعات البيانات التي تحتوي على أكثرَ من 30 مليون تغريدةٍ وأكثر من واحد “تيرابايت – “terabyte من الوسائط، باستخدام ذلك الأرشيف لإجراء تحقيقاتهم الخاصة ومشاركة رؤاهم وتحليلهم المستقل.
وتؤكد الشركة أنها تسعى، عبْر جعْل هذه البيانات مفتوحةً، إلى تمكين الباحثين والصحفيين والحكومات
والجمهور لتعميق فهمهم للقضايا الحرجة التي تؤثر في نزاهة النشاط عبر المنصة.
وتسهم فرقُ عملٍ متخصصةٍ داخل تويتر في جهود البحث والتحليل والتحقيق المتعلقة بعمليات نشر المعلومات، وتشمل هذه الفرق علماء في مجال معالجة البيانات، ولُغَوِيين، ومحللي السياسات، وعلماء سياسة، وخبراء فنيين في قضايا إساءة الاستخدام و”مكافحة الرسائل الاقتحامية- anti-spam issues”.
وتركز جهود تلك الفرق على مكافحة السلوك المضلل والمزعج، وتهدف على وجه التحديد إلى التمييز بين سلوك التلاعب المنسَّق والخطاب المشروع من الأفراد والأحزاب السياسية، وتُعنَى برصد عدة جوانب، أبرزُها التلاعب بالمنصة والرسائل غير المرغوب فيها، النشاط المنسق، الحسابات المزيفة.
الرقابة والتوجيه أداتان للسيطرة على منصات التواصل الاجتماعي فى تركيا
وفي 10 يونيو الجاري، نشر “مركز التقدم الأمريكي-Center For American Progress” تقريرًا يكشف انعدام الثقة المتزايد في المجتمع التركي تجاه وسائل الإعلام التقليدية واندفاع المواطنين نحو مصادر إعلامية عبر الإنترنت تميل إلى أن تكون أكثرَ استقلاليةً عن الحكومة، هما اتجاهان قوَّضا جهود الدولة التي استمرت سنواتٍ للسيطرة على وسائل الإعلام.
ووفقًا لمسحٍ أجرته مؤسسة “متروبول” التركية للأبحاث في أنقرة، على عينة قوامُها 2534 شخصًا في 28 مقاطعةً تركيةً، فإن 70% من الأتراك لا ينظرون إلى وسائل الإعلام على أنها مصدرٌ موثوقٌ للأخبار.
وقد سجّلت بعض المواقع الإخبارية مثل “ديكن –diken” و”تي 24- T24″، التي تعد جديدةً بالنسبة إلى المشهد الإعلامي في تركيا، ارتفاعًا في شعبيتها خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يهدد الهيمنة التقليدية التي تتمتَّع بها صحف مثل “حرييت-Hürriyet Daily News”، و”صباح-Daily Sabah”، التي يمتلكها رجال أعمال مقرَّبون من أردوغان.
وقد قامت حكومة أردوغان بفرض رقابة أكثرَ صرامةً على الإنترنت عدة مراتٍ على مدى السنوات القليلة الماضية، من أبرزها إجبارُ المواقع الإلكترونية التركية على الكشف الكامل عن جميع معلومات المستخدم المتاحة لها، وتنفيذ تقنية Deep Packet Inspection في عام 2012، التي تسمح بمراقبة نشاط المستخدم.
وفي مايو الماضى، اقترح حزب العدالة والتنمية مشروع قانونٍ جديدٍ يسمح بممارسة السيطرة المباشرة على منصاتٍ مختلفةٍ، ويجبر عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي مثل “تويتر-Twitter” و”فيسبوك- “Facebook على توظيف ممثل في تركيا لتسهيل مطالب أنقرة للرقابة على النشاط عبر تلك المنصات، لكنْ تم إسقاطُ الاقتراح في وقتٍ لاحقٍ بعد رد فعلٍ قويٍّ من جانب المعارضة، بحسب صحيفة “أحوال” التركية.
وبعد ذلك، حثَّ أردوغان الشباب على اليقظة في مواجهة مَن سمَّاهم بـ”الاستفزازيين الذين يختبئون وراء حساباتٍ وهميةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي”.
كما أصدر حزب العدالة والتنمية أيضًا مبادئ توجيهيةً أخلاقيةً مكوَّنةً من 12 بندًا لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وشجع نائب رئيس الحزب ماهر أونال على استخدام رموزٍ تعبيريةٍ مثل العلم التركي للدلالة على أنها حساباتٌ “وطنية” تمْتَثِلُ لهذا المبدأ التوجيهي.
قراءة مستقبلية في التداعيات على الساحة التركية
شكَّلت الخطوة التي اتخذها موقع تويتر صفعةً لجهودٍ منسقةٍ رعَتْها الدولةُ التركية للتأثير على الرأي العام عبر سنواتٍ طويلةٍ، فهي ليست وليدة اليوم، وبلا شك فإنها ستخلف آثارًا عميقةً في السياسة الداخلية التركية، فالمعارضون والنشطاء الأتراك على مواقع التواصل الاجتماعي أكثرُ انتقادًا لأردوغان، ويمكن اعتبارهم خطرًا حقيقيًّا على قبضته على السلطة.
ففي الوقت الذي تسيطر فيه الحكومة على ما يصل إلى 95٪ من وسائل الإعلام الرئيسية في تركيا، فإن وسائل التواصل الاجتماعي تعد ساحةً مفتوحةً لأحزاب المعارضة والنشطاء السياسيين والحقوقيين، فعلى سبيل المثال تعد الحملة الانتخابية لعمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو في عام 2019 دليلًا على ذلك، فقد قام إمام أوغلو بتعبئة مؤيديه تقريبًا بشكلٍ حصريٍّ من خلال قنوات التواصل الاجتماعي.
وبذلك يمكن أن يؤثر العزوف الجماهيري عن متابعة وسائل الإعلام الخاضعة للحكومة واللجوء إلى المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، على قدرة أردوغان وحزبه على الفوز في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
كما أن فِقدان نظام أردوغان لتلك الكتائب الإلكترونية على موقع تويتر قد يؤدي إلى تحوُّلٍ تكتيكيٍّ لمسارِ ما يمكنُ تسميتُه بـ”حروب مواقع التواصل الاجتماعي”، عبر اللجوء إلى منصات أخرى غير تويتر، من أجل مواصلة هذا السلوك الخبيث ونشر الشائعات واستهداف وتشويه المعارضين في الداخل، فضلًا عن الحملات المُمَنْهَجَة القائمة على التطاوُل والإساءة إلى دول المنطقة وزعمائها.
للمزيد من التحليلات يمكنكم النقر على الصورة آدناه..