الدراسات الإعلامية

“نتفليكس”.. خطر مغلّف بالمتعة

سريعاً وخلال سنوات قليلة، تمكّنت شركة نتفليكس الترفيهية الأمريكية، وعبر موقعها الشهير، أن تغزو العالم الافتراضي على شبكة الإنترنت، وأن تجتذب عشرات الملايين من المشاهدين حول العالم، لما تقدّمه من محتوى يعتمد معظمُه على الأفلام السينمائية والدراما التليفزيونية.

وأسهم تخصّصُ نتفليكس في تقديم المحتوى الترفيهي، الخالي من الإعلانات، في تحقيق معدّلات نجاح وانتشار متضاعفة، وشكلت تحدياً كبيراً لوسائل الإعلام التقليدية وخاصة المحطات التليفزيونية، كما أثارت الانتباه لخطورة ما تقدّمه من محتوى، وما تغرسه من قيم في عقول مشاهديها وخاصة في المنطقة العربية.

تأسيس وانتشار

تأسست شركة نتفليكس “Netflix” الترفيهية من قبل “ريد هاستينغز” و”مارك راندولف” عام 1997، في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتُعدّ واحدةً من أوائل الشركات التي استخدمت تقنية الإنترنت لتسويق أعمالها بشكل شبه كامل.

شهدت “نتفليكس” منذ نشأتها تطوراتٍ متلاحقة، واستمرت في التوسّع والانتشار عالمياً، ووصل عدد مشتركيها إلى 139 مليون

وشهدت نتفليكس منذ نشأتها تطوراتٍ متلاحقة، واستمرت في التوسع والانتشار عالمياً، وفي عام 2016 وفّرت الشركة خدماتِها في أكثر من 190 دولة، شملت كلَّ الدول العربية باستثناء سوريا، بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة عليها.

وفي يناير 2019 كشفت “نتفليكس” عن نموّ قاعدةِ المشتركين فيها، ليصل عددهم إلى 139 مليون في جميع أنحاء العالم، هذا الانتشار السريع يستوجب وقفةً لدراسة هذه الظاهرة (ظاهرة نتفليكس)، والتعرّف على أسباب الإقبال الضخم عليها.

لماذا نتفليكس؟

بداية.. من القواعد الأساسية في العلوم الاجتماعية والنفسية، أن الشخص ينجذب إلى أشياءَ بعينها لإشباع نواقصَ بداخله، وهو ما فسّرته الدراسات الإعلامية، خاصة نظرية “الاستخدامات والإشباعات”، والتي تتلخّص في أن الفرد يلجأ إلى الوسيلة الإعلامية التي تُحقّق له الإشباع، بمعنى أن الجمهور ينتقي الوسيلةَ الإعلامية وَفق تفضيلاته من المضامين وطريقة تقديمها له، ومن هذا المنطلق كان من المفيد معرفة طبيعة المحتوى الذي تُقدّمه نتفليكس إلى الجماهير، والوسيلة التي تقدّمه من خلالها.

أولاً: الوسيلة

من العوامل التي ساعدت “نتفليكس” على سرعة الانتشار، سهولة الوصول إلى المحتوى

تقول شركة نتفليكس إنها مُتخصّصة في تزويد الجمهور بخدماتِ البث الحي والفيديو حسب الطلب، فضلاً عن توصيل الأقراص المدمجة عبر البريد.

ومن العوامل التي ساعدت نتفليكس على سرعة الانتشار على هذا النحو، سهولة الوصول إلى المحتوى، حيث يمكن متابعة خدماتها عبر الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون الذكية وأجهزة الألعاب الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية، وجميع أنواع الوسائط الإلكترونية تقريباً.

هذه الخاصية ساهمت بشكل كبير في إقبال الجمهور على خدمات الشركة، خاصة وأن المستقبل غيرُ مضطرّ للتقيّد بمكان أو زمان محدّد لمشاهدة محتوى نتفليكس، بل يمكنه فعلُ ذلك في الوقت الذي يُريده وفي أي مكان.

وفي هذا الشأن، أصدرت خدمةُ البث المباشر في موقع نتفليكس نتائجَ دراسةٍ قام بها الموقع في مايو 2017، تتبّع خلالَها بياناتِ المستخدمين في 22 دولة على مدار ستة أشهر – أي ما يقرب من 77 مليون حساب شهرياً – انتهت إلى نتيجةٍ لخّصتها “سيندي هولاند” نائبةُ رئيس المحتوى الأصلي في نتفليكس، بقولها: “لسنوات كانت حياتنا تتناسب مع التليفزيون، ما يحدث الآن هو العكس، لقد منحنا المستهلكين السيطرة، وأصبح المستخدم لا يرتبط بجدول زمني للمشاهدة”.

 

ثانياً: المحتوى

لم يعد المشاهد مضطراً للارتباط بالتليفزيون ومشاهدة الإعلانات التجارية، حيث يُفضِّل المستهلكون المرونة في القدرة على مشاهدة ما يريدون

من الطبيعي أن المستهلك لا يَرغب في دفع الأموال مقابل محتوى لا يريد مشاهدته، وهي الميزة التي وفرتها نتفليكس، من خلال إتاحة الفرصة للمستهلكين باختيار تفضيلاتهم، وبدون أن تَتخلّلها مواد إعلانية، ومن أجل هذه الخاصية، أوضحت الإحصاءات أن الموقع دفع في عام 2018 مبلغاً ضخماً للحصول على المحتوى بلغ 13 مليار دولار، تم إنفاق حوالي 85٪ من هذا المبلغ على العروض الأصلية.

فالمشاهد لم يَعُد مضطراً للارتباط بالتليفزيون ومشاهدة الإعلانات التجارية، حيث يُفضّل المستهلكون المرونة في القدرة على مشاهدة ما يريدون عندما يريدون، فضلاً عن أن المشاهد يستطيع مشاهدةَ حلقات المسلسلات بشكل مكثف دون انقطاع، وهو ما يجذبهم للمشاهدة لفترات طويلة.

كما اتجهت نتفليكس في عام 2013 إلى مجال صناعة الأفلام والمسلسلات والبرامج الوثائقية وغيرها من موادّ خاصةٍ بها، وتقديمها للمشتركين.

ومن الواضح أن نتفليكس نجحت في اجتذاب الجمهور من خلال دراسة اهتماماتهم وتفضيلاتهم، كما ابتعدت عن العوامل التي تجعلهم ينفرون من الوسائل التقليدية، سواءً بعرض محتوى متنوع يناسب كل الفئات وكل الأذواق، أو بالابتعاد عن الإعلانات المملّة التي تُسبّب الضجر للمشاهدين، وهو ما توصّلت إليه من خلال دراسة سلوكيات المشاهد وتفضيلاته، ما يعني فهماً أكبر لما يريده الجمهور من أعمال، وكيف يقومون بمشاهدة هذه الأعمال، وبالتالي توجيه بوصلة الإنتاج صوب احتياجات الجمهور الفعلية، وكمثال على ذلك، أجرت شبكة نتفليكس في عام 2017 دراسةً من خلال مؤسسة “يوغوف” للأبحاث، على المشاهدين في ثلاث دول عربية (السعودية والإمارات ومصر)، بهدف التعرّف على سلوك مشاهدة الجمهور في هذه الدول وتفضيلاته.

إن الخصائص التي تميّزت بها شركة نتفليكس سواءً المتعلقة بالمحتوى أو وسيلة المشاهدة، جعلتها جاذبةً لملايين المشاهدين من مختلف أنحاء العالم.

أهم الخصائص التي تميّز “نتفليكس” وتلقى استحساناً من الجمهور هو تقديمها للمحتوى دون أن تتخلله الإعلانات

في يناير 2019 أظهرت دراسة قام بها “رون ويرلين” المتخصّص في دراسات الجمهور، أن موقع نتفليكس يواصل تعزيز موقعه في الصدارة والهيمنة على سوق البثّ المباشر على مستوى العالم، ووفقاً للدراسة التي اعتمدت على استطلاع رأي الجمهور من خلال استبانة تمّ توجيهها إلى أكثر من (16.000) شخص في سبع دول (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وفنلندا)، أكدت نتائجها أن استراتيجية نتفليكس القائمة على النموّ من خلال الاستثمار في المحتوى، بدلاً من الحصول على الإعلانات، كانت صحيحة.

وعرضت الدراسة سؤالاً للجمهور وهو “هل سيتوقف مستخدمو نتفليكس عن مشاهدة المحتوى المعروض فيها إذا أضافت الشركة إعلاناتٍ تجاريةً إلى خدمة البث؟” فجاءت إجابات أكثر من النصف – وفي بعض البلدان وصلت إلى الثلثين – مؤكدةً أنهم سيفعلون ذلك. وحتى في حالة إذا ما قدّمت الشركة عرضاً لتخفيض قيمة الاشتراك لمستخدميها مقابل تقديم الإعلانات التجارية، أكّد حوالي نصف المبحوثين أن ذلك سيجعلهم يتوقّفون عن مشاهدة المحتوى على نتفليكس.

هذه النتيجة تُظهر أن أحد أهمّ الخصائص التي تُميّز نتفليكس وتلقى استحساناً من قِبل الجمهور، هو تقديمها للمحتوى فقط، دون أن تتخلّله الإعلانات.

مخاطر استخدام نتفليكس

نتفليكس كغيرها من التقنيات الحديثة، تتسبب في بعض المشاكل حال استخدامها بطريقة سيئة.

شراهة المشاهدة والاغتراب النفسي والاكتئاب والغزو الثقافي، تعدّ أبرز مخاطر وسلبيات “نتفليكس”

لقد ساعدت المميزات الكبيرة التي وفّرتها نتفليكس في إغراء المستخدمين، لمشاهدتها لفترات طويلة دون ملل، الأمر الذي أظهر عدداً من المشاكل المرتبطة بعاداتِ المشاهدة لها، تمثلت أهمّها فيما يلي:

  • شراهة المشاهدة:

اهتمت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية بسلوك المشاهدة الذي فرضته نتفليكس، حيث أكدت جميعُها أن السلوك الطبيعي المرتبط بمشاهدة التليفزيون والمسرح والسينما بمفهومها التقليدي، قد تغيّر بشكل كبير مع استخدام نتفليكس، حيث لعبت المميزات الكثيرة التي وفّرتها الشركة دوراً أساسياً لما أُطلق عليه “شراهة المشاهدة”، ويُقصد به البقاء لفترات طويلة أمام إحدى وسائل عرض المحتوى المرئي دون انقطاع، ومشاهدة المحتوى بشكل مكثّف. وفي الصحافة الغربية أصبح مصطلحا “شراهة المشاهدة” و”نتفليكس” مترادفين، خاصة حينما يتمحور الحديث حول فئة صغار السنّ من المشاهدين.

وقد أجرت كلٌّ من “سواتي باندا” (كلية إدارة الأعمال، جامعة شمال تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية)، و”ساتيندرا باندي” (معهد الإدارة الريفية، الهند) في نوفمبر 2017، دراسةً بعنوان “شراهة مشاهدة طلاب الجامعات: الدوافع والنتائج”، بهدف الكشف عن الدوافع المختلفة التي تؤثر على طلاب الجامعات لقضاء المزيد من الوقت في المشاهدة بشراهة والإشباع اللاحق، حيث تمّ جمعُ البيانات من خلال إجراء مقابلاتٍ نوعية ومناقشاتٍ جماعية مركّزة مع طلاب الجامعات، لفهم ظاهرة شراهة المشاهدة، إضافةً إلى تصميم استبانة.

انتهت الدراسة إلى عدة نتائج، أهمّها أن مواقع بث الفيديو مثل “Netflix” و “Amazon Video” غيّرت عادات المشاهدة لدى المستهلكين، حيث يتمتع المشاهدون بمزيدٍ من التحكّم، ويمكنهم الاستمتاع بالمحتوى عند الطلب وفقاً لراحتهم، وقد أدى ذلك إلى مشاهدة المستخدمين لحلقاتٍ متعددة من البرامج التلفزيونية في إطار زمني مضغوط، وهي ظاهرة تُعرف بـ “شراهة المشاهدة”، وأن طلاب الجامعات ينخرطون أو ينجذبون إلى شراهة المشاهدة بسبب الإشباع الذي يتحقق لهم.

كما أظهرت النتائج أن التفاعل الاجتماعي، والهروب من الواقع، وسهولة الوصول إلى المحتوى التلفزيوني، كلّها عوامل تُحفّز طلاب الجامعات على قضاء المزيد من الوقت في المشاهدة، فإذا كان الطلاب يشعرون بالسعادة بعد المشاهدة الشرهة، فإنهم يعتزمون قضاءَ المزيد من الوقت في القيام بذلك.

وفي عام 2018 هدفت أطروحة ماجستير بعنوان “عادات المشاهدة على الإنترنت لجيل الألفية في هولندا”، إلى التعرّف على كيف ولماذا يَستخدم جيلُ الألفية في هولندا خدماتِ بثّ المحتوى المتدفّق عند الطلب؟ والمقصود به خدمات “نتفليكس” ومثيلاتها، التي تقدّم المحتوى الحصري والمُتتابِع حسب تفضيلات المستهلكين.

وقد اتّبعت الدراسةُ منهجيةَ المُقابَلة المتعمِّقة، من خلال إجراء ثلاث عشرة مقابلة شبه منظمة، وأظهرت نتيجة الدراسة أن المبحوثين يستخدمون خدمات تدفّق المحتوى عند الطلب من أجل الراحة والترفيه والاسترخاء والهروب والاندماج الثقافي، كما أظهرت أن هذا النوع من المحتوى يُحفّز سلوك المستهلك الفردي، وأوضح المبحوثون أن المقصود بالراحة المتحقّقة هو سهولة الاستخدام، وإمكانية الوصول (متى وأين)، فضلاً عن خيارات المحتوى وغياب الإعلانات، وهو ما عززته دراسة أخرى بعنوان “عصر نتفليكس.. شراهة المشاهدة لدى طلاب جامعة فورمان”، فعندما أضافت نتفليكس إمكانية بثّ الفيديو إلى قائمة خدماتها، استمتع المستهلكون بمشاهدة المحتوى عبر الإنترنت، وفقاً لشروطهم واختياراتهم فيما يتعلق بالمكان والزمان والجهاز المستخدم (الوسيلة).

أظهرت نتيجة المقابلات أيضاً أن جميع المشاركين تقريباً منتظمون في مشاهدة المحتوى المتدفّق عند الطلب، واعتبروا أن هذا السلوك يدخل ضمن “شراهة المشاهدة”، وأن هناك صعوبةً في التوقف عنه للدرجة التي تصل إلى إدمان المشاهدة أو إدمان هذا السلوك، الأمر الذي أضرّ بهم، سواء كان بإضاعة الوقت أو الشعور بالوحدة أو عدم الرغبة بالمشاركة في الحياة الاجتماعية، كما أظهرت آراءُ المشاركين أن هذه الخدمات مُصمَّمة لتشجيع المشاهدة الشرهة، وعبّر بعضُهم عن شعورهم بالندم لأن المحتوى أشغلهم عن فعل أشياء أخرى ضرورية، مثل الدراسة والعمل والتواصل مع المجتمع.

 

  • الاكتئاب:

أدّت شراهة المشاهدة إلى بقاء الشخص مُدَداً طويلةً أمام وسيلة نقل محتوى نتفليكس، سواء كانت الهواتف الذكية، أو أجهزة التليفزيون الذكية، أو أجهزة الكمبيوتر المحمولة، أو غيرها من وسائل، الأمر الذي أدّى إلى انعزال الشخص عن العالم المحيط به لفترات ليست بالقليلة، وهو ما جعله عُرضةً للاكتئاب، حيث ربطت بعضُ الدراسات بين شراهة المشاهَدة والقابلية للإصابة بالاكتئاب، ففي دراسة تتعلق ببحث مدى ارتباط شراهة المشاهدة بالاكتئاب والشعور بالوحدة والانعزال، تم تصميم استبانة لجمع البيانات من عيّنة قِوامُها (260) شخصاً من السكان العرب الذين يعيشون في أبو ظبي من مختلف الفئات العمرية، وأظهرت النتائجُ وجودَ علاقة إيجابية كبيرة بين شراهة المشاهدة والاكتئاب.

  • الاغتراب النفسي:

الاغتراب النفسي هو أن يعيش الإنسان تجربة يَشعر فيها أنه غريبٌ عن ذاته ولا يستطيع التأقلم معها، وينعكس هذا الإحساسُ الداخلي إلى أبعدَ من الذات، فينتقل إلى ابتعاده عن المحيطين به والمجتمع بكل ما يحمله من أنساق معرفية ومعنوية ومادية، ويأتي هذا الشعور نتيجة التعرّض المستمرّ لمحتوى ثقافي مختلف عن النسق القيمي الذي تربّى عليه الشخص، وتفاصيل مجتمعية غريبة عن المجتمع الذي نشأ فيه.

وبهذا الشأن أُجريت في عام 2018 دراسة بعنوان “وسائل الاتصال الرقمية: أدوات للعولمة في خلق الشعور بالاغتراب النفسي”، بهدف الإجابة عن تساؤل رئيسي، وهو كيف ساهمت وسائلُ الاتصال الرقمية في تمكين العولمة الثقافية، وما هي تجلياتُ ومظاهر الاغتراب النفسي الناتج عن استخدام تلك الوسائل؟ وتوصلت الدراسة إلى عددٍ من النتائج، أهمّها: أنه وبالرغم من الفوائد الكثيرة التي أتاحتها وسائل الاتصال الرقمية، مثل فتح الآفاق وتقارب شعوب العالم ونشر الفكر والمعرفة، إلا أنها ساعدت في حدوثِ عمليةِ الاختراق الثقافي، حتى أصبح العالمُ كلُّه يحمل ثقافةً متشابهة تَراجعت فيها الخصوصياتُ المحلية.

كما خلصت الدراسةُ إلى أنّ الاستخدام المكثّف لوسائل الاتصال الرقمية، والتعرّض للثقافة الغربية بشكل كبير ومستمرّ، أدّى إلى الانبهار بالمحتوى الثقافي الغربي، والشعور بالسّخط على الأوضاع المحلية، فيهرب الشخص إلى الثقافة الغربية لتعويض ما ينقصه، ما يؤدي إلى حالةٍ من الاغتراب النفسي وفقدانٍ للهوية وتراجعِ الانتماء للمجتمع المحيط، وتظهر أعراضُ ذلك في التوتّر والقلق والاضطراب النفسي والسلوكي الذي قد يؤدي إلى الاكتئاب والعزلة الاجتماعية والانطواء. ويتحوّل الشخص إلى كائنٍ هَشٍّ مضطرب، لا يستطيع الاندماجَ مع مجتمعه بخصوصياته التي يرفضها من الأساس، فيصبح غريباً عن ذاته وعن مجتمعه، مما يُشجّعه على خلق عالم افتراضيٍّ خاصّ به للهروب إليه.

الغزو الثقافي والتحكّم في المحتوى:

كما سبق وأشرنا إلى أن لكل مجتمع خصوصياته الحضارية والثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية، فإن دخول شركة نتفليكس إلى المنطقة العربية تحديداً قد فرض تحدياً أمام المجتمعات العربية، حيث يستقبل المشاهد العربي كمّاً ضخماً من المحتوى الثقافي الغربي، والذي يتعارض بشكل أو بآخر مع العادات والأعراف المجتمعية العربية، وهو ما يستوجب الانتباه من قبل المسئولين والمجتمع والأسرة والفرد، وتضافر الجهود للعمل على تحصين المواطن العربي من الغزو الثقافي الذي يتعرّض له بشكل مستمر، خاصة مع شراهة المشاهدة لمحتوى موقع نتفليكس.

من الضروري مراقبة ما يشاهده الأطفال والمراهقون على “نتفليكس” لحمايتهم من التعرّض لمحتوى غير لائق عمرياً أو أخلاقياً

ويتأتى ذلك من خلال حملات التوعية المستمرة، ومراقبة الأبناء، خاصة الفئات العمرية الصغيرة وفئة المراهقة، فضلاً عن الاهتمام بتقديم محتوى تنافسي يُعزّز من الثقافة العربية والنّسق القيمي لمجتمعاتنا.

على سبيل المثال، من الضروري مراقبة ما يشاهده الأطفال على موقع نتفليكس لحمايتهم من التعرّض لمحتوى غير لائق عمرياً أو أخلاقياً، وفي هذا الصدد وفّرت نتفليكس خدمات التحكّم في ما يمكن للأطفال الوصول إليه، ومنها خيار “المراقبة الأبوية” في إعدادات حساب الشخص على الموقع، والتي تحتوي على تعليمات حول كيفية إعداد رقم التعريف الشخصي، وبالتالي يُصبح الشخص مطمئناً بأن طفله لن يشاهد إلا ما يُريده الآباء. كما أنه توجد خدمة أخرى توفرها نتفليكس تُتيح للمستخدم حظر برامج معينة قد يرى أنه من غير الملائم للأطفال مشاهدتها، وهذه الخدمة أيضاً يتمّ ضبطها عبر إعدادات حساب صفحة المستخدم.

إلا أن هذه الإجراءات الاحترازية لا تضمن الحماية للأطفال بشكل كامل، لأنهم قد يلجأون إلى المشاهدة عبر هواتفهم الشخصية أو هواتف أصدقائهم، ولذلك تظلّ إمكانية تعرّض الأطفال للمحتوى غير اللائق مشكلة تقلق الآباء.

تحديات تواجه الوسائل التقليدية:

أدى ظهور تليفزيون الإنترنت ومنصات مشاركة الفيديو حسب الطلب مثل شركة نتفليكس في السنوات الأخيرة، إلى زيادةٍ كبيرة في مرونة الاختيار عند المشاهدين، حيث ابتكرت نتفليكس ومثيلاتُها أسسَ عرض جديد، ترتب عليها تغيّرُ عاداتِ المشاهدة عند المستخدمين. مُحدِثةً ثورةَ تغييرٍ على آليات الطريقة الكلاسيكية المعتادة في تقديم المحتوى التي اتبعها صُنّاع الأعمال التليفزيونية لعقود طويلة، والتي لم يملك فيها المشاهدُ رفاهيةَ الاختيار حسب تفضيلاته، إلا من بين المحتوى المقدّم له.

ونظراً لقوة التأثير الذي أحدثته، ظهر مؤخراً مصطلح “تأثير نتفليكس” أو “Netflix Effect”، إذ رأى البعض أن تليفزيون الإنترنت هو المستقبل، وأنه إذا لم تُدرك شركاتُ الإعلام هذا الأمر، فقد تكون مثلَ الديناصورات في العصر الحديث. ومما لا شك فيه أن الانتشار الكبير لمنصات البث حسب الطلب قد فرضت تحدياتٍ كبيرةً على صنّاع السينما والتليفزيون، سواء من حيث المحتوى المقدّم أو طرق عرضه، ما يفرض ضرورة إعادة النظر في خططهم الإنتاجية وتعديل وتطوير محتواهم خلال المرحلة المقبلة، لكي يتمكنوا من الاستمرار والمنافسة.

يوجد أيضاً تَحدٍّ ولكن من نوع آخر، يتعلق بالعملية الإعلانية بشقّيها: المعلنين، والوسيلة التي تعتمد على مداخيل الإعلانات بشكل أو بآخر، حيث جاء الانتشار السريع والضخم لمنصة نتفليكس التي راهنت على المحتوى وأسلوب عرضه، بالتغاضي عن الإعلانات، لتشكّل تهديداً حقيقياً لمستقبل العملية الإعلانية، خاصة وأن الكثير من وسائل الاتصال تعتمد بشكل أساسي على الإعلانات، إلى درجة التسبّب في ضجر المشاهدين ومَلَلِهم من كثافةِ عرضها، وهو ما انتهزته نتفليكس لصالحها، وقد جاء رِهانُها بنتائجَ مذهلة ترجمتها أعدادُ المشتركين الذين يُقدَّرون بالملايين، ويتزايدون بشكل يومي على مستوى العالم.

بالنسبة للمجتمعات العربية قد يكون تأثير الوسائل الرقمية مثل “نتفليكس” سلبياً، خاصة وأنها مجتمعات مستقبلة للمحتوى بشكل أساسي

في الختام.. يمكن القول إن كثافة التعرّض المستمرّ واليومي لوسائل التواصل الرقمية، قد تُؤثر على المجتمعات والأفراد وثقافاتهم المحلية، وما تحمله من خصوصيات حضارية وثقافية وحياتية ودينية.

وبالنسبة للمجتمعات العربية قد يكون تأثير الوسائل الرقمية مثل نتفليكس سلبياً، خاصة وأنها مجتمعات مُستقبِلة للمحتوى بشكل أساسي، ولا يوجد محتوى محلي تَنافسي يعتمد على التكنولوجيا الرقمية الحديثة، وبنفس الكفاءة والقدرة التي تُمكّنه من مواجهة الغرس الثقافي القادم من المجتمعات الغربية، مما قد يؤثر على النسق القيمي والثقافي لمجتمعاتنا، وهو ما يجب الانتباه إليه والتصدّي له.

 

زر الذهاب إلى الأعلى