تقارير

الواقع الافتراضي فرص الانتشار.. ومجالات الاستخدام

تُعدّ جائحة فيروس كورونا المستجد غيرَ معتادة من حيث قوّتها ونطاقها، وبالرجوع سنواتٍ إلى الوراء حين انتشر وباء السارس عام 2002، وخلت شوارع الصين من سكانها بعد عزل الملايين في منازلهم، أدى هذا الوباء إلى ظهور تقنيات جديدة، أهمّها الاستخدام الواسع للإنترنت في الصين، مما ساعد على إطلاق قطاع جديد وهو التجارة الرقمية، وعلى نفس المنوال، أصبح وباء كورونا اليوم نقطةَ انطلاقٍ لنموِّ بعض التقنيات، أبرزها ما يَتعلّق باستخدام “الواقع الافتراضي – Virtual reality” في مجالات شتّى.

نموّ ملحوظ لصناعة الواقع الافتراضي.. وحجم تعاملات بمليارات الدولارات

الواقع الافتراضي هو تجربة محاكاة، يمكن أن تكون مشابهةً أو مختلفةً تماماً عن العالم الحقيقي، الهدف منها خلق تجربة حسّية للمستخدم في بعض الأحيان، بما في ذلك البصر أو اللمس أو السمع أو الشم أو حتى الذوق، أي أنه تجربة انغماس كاملة تُغلِق العالمَ المادي، باستخدام أجهزة معيّنة مثل HTC Vive أو Oculus Rift أو Google Cardboard، وهي أنواع من الأجهزة السمعية والبصرية، تساعد على الاندماج الكامل في التجربة.

ويَختلف الواقع الافتراضي عما يُعرف بـ “الواقع المعزّز – Augmented Reality” الذي يُعدّ تجربةً تَنقُل لصاحبها المَشاهِدَ من خلال عروضٍ ثُنائية أو ثلاثيةِ الأبعاد، لكنها محاكاة غير ملموسة.

أي أن الاختلاف الجوهري بين النمطين، يكمن في أن الواقع الافتراضي يَنقل المُستَخدِم إلى عالم آخر، بينما في الواقع المعزّز، يبقى المستخدم في عالمه الحقيقي، لكن مع وجود بعض المؤثّرات.

وتنمو صناعةُ الواقع الافتراضي بوتيرة سريعة، إذ من المتوقع أن يزيد حجم سوق أجهزة وبرامج الواقع الافتراضي من 6.2 مليارات دولار أمريكي في عام 2019، إلى أكثر من 16 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2022.

وفي الوقت الحالي، تَستخدم أنظمةُ الواقع الافتراضي سماعاتِ الواقع الافتراضي أو نظارات الواقع الافتراضي، لتوليد أحاسيس واقعية تحاكي الوجود المادي للمستخدم في بيئةٍ افتراضية، ومن المتوقع أن تصل شحنات وحدات أجهزة الواقع الافتراضي إلى 12.5 مليون خلال العام الجاري.

وتُشكّل ألعاب وفيديوهات الواقع الافتراضي فقط، أكبرَ حالات استخدام المستهلكين لتلك التقنية، حيث من المتوقع إنفاق 20.8 مليار دولار أمريكي في عام 2023 عليها وحدها.

الواقع الافتراضي وتأهيل الأطباء للتعامل مع الفيروس

تأثّر القطاع الصحي حول العالم تأثراً شديداً بانتشار فيروس كورونا، ونظراً لأن المستشفيات في جميع أنحاء العالم تُواجه نقصاً حاداً في المهنيين الصحيين، ولأن الوقت ضيّق والموارد محدودة، فقد لجأت عدد من المؤسسات الصحية إلى تدريب آلاف الأطباء والممرّضات على عدد من الأمور باستخدام الواقع الافتراضي، ففي مستشفى Cedars-Sinai بلوس أنجلوس، تَعلّم أكثرُ من 300 طبيب مهاراتٍ مختلفة، مثل كيفية تقييم أعراض المريض، أو إجراء الإنعاش القلبي الرئوي أثناء ارتداء مُعدّات واقية، من خلال الواقع الافتراضي، ويقول راسل ميتكالف سميث، أحد الأطباء في المستشفى الذي دَرّب المتعاملين مع المصابين بكورونا في وقت سريع: “تَشعر وكأنك في الغرفة مع مريض، فبناءً على القرارات التي تتخذها في المحاكاة، تستطيع أن تتخذ القرارات الصحيحة في الواقع”.

وفي أحد برامج محاكاة الواقع الافتراضي بجامعة أكسفورد، تَقوم ممرّضةٌ بتسليم مستخدم البرنامج ملفاً بتاريخ موجز للمريض الافتراضي، ثم يُطلَب من الطبيب أو الممرّضة تقييم أعراضه، واتخاذ القرارات في الوقت المحدّد بناءً على كيفية تفاعل المريض، قد يَحتاج المريض إلى فحص المعدة أو الرئتين أو أي إجراءات أخرى.

وقال المؤسّس والرئيس الطبي الدكتور جاك بوتل، الذي أطلق الخدمة في 2018، إن “المفهوم هو أن الأطباء والممرضات يمكن أن يرتكبوا أخطاء في الواقع الافتراضي ويَتعلّموا منها، بعض الأطباء يأتون مباشرةً من كلية الطبّ، ثم يُدفَع بهم إلى الممارسة، أو أن الأطباء والممرضات المتقاعدين ليسوا بالضرورة مُدَرَّبين في المجالات اللازمة لعلاج الأشخاص المصابين بفيروس كورونا، وتساعد هذه المحاكاة في جعلهم يسرعون ويَشعرون بثقةٍ أكبر في ذلك أيضاً”.

وحتى قبل حدوث الوباء، استخدمت بعض الجامعات هذه الأدوات لتدريب الجيل القادم من المهنيين الطبيين، وقد تبنت جامعتا نيويورك وميدلسكس، برامج مماثلة مع طلاب التمريض لإعدادهم للتخرّج.

السياحة والحفلات الافتراضية ومحاولة امتصاص صدمة الوباء

في حين أدى الوباء إلى تحسين جودة الهواء حول العالم، فإن تأثيراته كانت كارثية على قطاع السياحة بسبب قيود السفر، حيث انخفض السفر الجوي بأكثر من 95٪، وفقاً للمجلس العالمي للسفر والسياحة.

ويُمثّل هذا القطاع عُشْرَ الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتُواجِه ما يصل إلى 75 مليون وظيفة تتعلّق بقطاع السفر والسياحة، خطراً مباشراً على الصعيد العالمي بسبب الوباء.

ويَبدو أن الواقع الافتراضي والتقنيات المماثلة يُمكن أن تُعطي دفعةً للقطاع بدلاً من السياحة الحقيقية، ففي إحدى التجارب الأوروبية وهي تجربة جزر فارو المعتمدة على السياحة، أنشأ مجلس السياحة في هذه الجزر تطبيقاً للواقع الافتراضي، يُتيح لمستخدمي الإنترنت استخدام مرشد سياحي عن بُعد، والتنقّل في مُدنها وجُزرها المتنوّعة.

ولا تَهدف التجربة إلى التجوّل بالسياح افتراضياً فقط، لكن أيضاً كما يقول ليفي هانسن، مدير المحتوى والاتصالات في مجلس السياحة بجزر فارو، إن “الفكرة هي إثارة شهية الناس وحَمْلهم على المجيء وتجربة ذلك في الحياة الواقعية فيما بَعد”.

كما يَرى خبراء آخرون أن هناك فرصةً كبيرة للشركات السياحية التي تستخدم تطبيقات الواقع الافتراضي، ليس لتوفير ملاذٍ ترفيهي افتراضي فقط، ولكن لمساعدتهم على التخطيط للعطلات الفعلية.

لقد أُغلقت آلاف المتاحف والمؤسسات الثقافية والمهرجانات والأحداث العالمية العمليات مؤقتاً، تاركةً وراءها شوارع فارغة وجمهوراً لا يهدأ، وفي قطاعات تزدهر بالتواصل الشخصي يكون فقدان الجمهور كارثياً، ولكن المعارض الفنية والفعاليات بأكملها تَنتقل إلى الساحة الرقمية، باستخدام خدمات البثّ والواقع الافتراضي.

ومن أبرز تلك التجارب ما حدث في العاصمة الفنلندية هلسنكي، في مساء 30 أبريل الماضي، فبعد أن أحبط الفيروس احتفالاتِ عِيد العُمّال المعتادة في فنلندا، تمّ اللجوء إلى الحفل الافتراضي الذي أحياه ثنائي الراب JVG، جاذباً أكثرَ من مليون متفرّج، منهم 700 ألف فنلندي، أي 12% من سكان فنلندا تقريباً، ثم انضمّ إلى السكان المحليين “سياح افتراضيون” من دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا والسويد، ما زاد إجمالي عدد المشاهدين إلى 1.4 مليون شخص.

ورغم أنه لا تُوجد أيّ قوائم رسمية بأرقام حضور الحفلات الافتراضية، ولكن هذا الرقم هو على الأرجح أحد أعلى الأرقام المُسَجّلة، ويُوضح كيف ينمو الطلبُ العام على تجارب الواقع الافتراضي، وربما يَستمرّ حتى بعد انتهاء الجائحة.

وحول العالم أتاحت كثيرٌ من المتاحف والمؤسسات والمراكز الثقافية، جولاتٍ باستخدام الواقع الافتراضي، ومن أبرزها:

فنون وثقافة جوجل: يُقدّم موقع فنون وثقافة جوجل Google Arts and Culture المئات من الجولات الافتراضية، وزيارات الواقع الافتراضي، وإطلالات بزاوية 360 درجة، على أعظم القِطَع الفنية والمباني والمتاحف وأماكن الموسيقى في العالم.

متحف الفاتيكان في روما: يَحتوي هذا المتحف على العديد من الآثار من حضاراتٍ مختلفة.

متحف اللوفر في باريس: يمكنك القيام بجولة افتراضية في أشهر الغُرَف بفضل الخيار التفاعلي للموقع، وهو يَحتوي على نماذج من حضارات متنوعة.

المتحف البريطاني في لندن: تُقدّم “المعارض الافتراضية” للمتحف صوراً عالية الدقة للأعمال الفنية، بالإضافة إلى الكثير من المعلومات حول كلّ غرفة وفنان ومجموعة.

متحف متروبوليتان في نيويورك: يَعرض مجموعاتٍ مختارةً من مقاطع الفيديو والمقالات والمعلومات عن الرسامين والأعمال الفنية، ويُقدّم أنشطة عائلية وكتالوجات قابلة للتنزيل، بالإضافة إلى جولات الواقع الافتراضي للمجموعات.

احتواء التأثيرات النفسية للحجر الصحي

لا يتوقف الأمر عند زيارة الأماكن افتراضياً، ففي إيطاليا التي تُعدّ من أكثر الدول المتضررة من فيروس كورونا، عُرِضَت ورقة بحثية جديدة لدراسة كيفية معالجة مقاطع فيديو الواقع الافتراضي لحديقة هادئة، للتأثيرات النفسية المختلفة الناتجة عن الحجر الصحي، مثل الإجهاد والعزلة.

ويدعو جوزيبي ريفا، مؤلفُ الدراسة وأستاذ علم النفس العام في جامعة القلب المقدّس بميلانو، إلى أن يقوم الأشخاص بالدخول في تجارب الواقع الافتراضي.

ويَفترض الباحثون أن استخدام الواقع الافتراضي يُمكن أن يُعلِّمَك كيف تكون أكثرَ وعياً، ويوفّر مكاناً آمناً ومريحاً للتفكير والوحدة، بالإضافة إلى الحفاظ على شعور المجتمع، ويَقترحون قضاءَ الوقت في بيئة الواقع الافتراضي المهدئة، كمشاهدة حديقة افتراضية أو شاطئ في الصباح، وقبل النوم، وفي أيّ وقت تَشعر فيه بالقلق.

وتُشير دراساتٌ أخرى إلى أن تقنية الواقع الافتراضي يُمكِن أن تكون فَعّالةً في علاج اضطراب ما بَعدَ الصّدمة، وتعليم الذهن اليقظة.

زر الذهاب إلى الأعلى