دراسات الصورة الذهنية

السعودية الجديدة.. كيف نجحت المملكة في تبني استراتيجية القوة الذكية؟

كانت القوة عبر التاريخ البشري – ولا تزال – هي الهدف المحرّك لكلّ المجريات والأحداث والعلاقات بين الدول والأمم والشعوب، ولا يوجد كيان سياسي واحد إلا ويسعى جاهداً لامتلاكها بنسب متفاوتة وأنماط مختلفة، ولعقود طويلة كانت القوة تعني في الأدبيات السياسية القوة الصلبة، وهو المفهوم التقليدي للقوة، يشمل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، والذي تبنّته المدرسة الواقعية، وتمّ فهم التفاعلات الدولية من خلاله لفترات طويلة.

ويعتمد هذا المفهومُ بالأساس على مقدّرات الدولة المادية، وقدرتها على توظيفها لإجبار خصومها على اتباع ما تنشده، وبالتالي تحقيق أهدافها ومصالحها.

وفي عام 1990 ظهر بالولايات المتحدة، مفهوم “القوة الناعمة”، بمعنى القدرة على كسب ولاء القلوب والعقول، دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، أي أن القوة الناعمة تعني أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية، من خلال ما تجسّده من أفكارٍ ومبادئَ وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات البنية التحتية والتعليم والصحة والثقافة والإعلام والآداب والفنون والرياضة، وكذلك المساعدات الإنسانية، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به، ثم اتباع مصادره.

للمملكة العربية السعودية رصيد تاريخي طويل وميراث ضخم من القوة الناعمة بمعناها التجريبي والتطبيقي

المملكة والقوة الناعمة

للمملكة العربية السعودية رصيد تاريخي طويل وميراثٌ ضخم من القوة الناعمة بمعناها التجريبي والتطبيقي، قبل مفهومها النظري الذي صاغه جوزيف ناي عام 1990، فمنذ تأسيس المملكة على يد المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله عام 1932م، تشكلت لديها مقومات القوة الناعمة من فوائضَ روحيةٍ ودينية كبرى، لكونها مهبطَ رسالة الإسلام وقبلةَ المسلمين وأرضَ الحرمين الشريفين، وكانت السياسة الحكيمة والرشيدة للمملكة عبر عقود طويلة، هي مفتاح القلوب والعقول إقليمياً ودولياً، حيث سعت السياسة الخارجية السعودية دائماً إلى دعم الاستقرار الإقليمي، ونسج شبكةٍ من التحالفات الإقليمية والدولية، ودعم مسائل التضامن العربي والإسلامي، وقدّمت الكثيرَ من المبادرات في هذا الشأن، لرأب الصدع في العلاقات البينية العربية، أو إيجاد حلولٍ للأزمات والملفات الإقليمية، كما حرصت الرياض على تعزيز الحوار بين الأديان والحضارات، كما كان للمملكة دورُها المميز في دعم النموّ الاقتصادي العالمي بما توفّره من استقرارٍ في سوق الطاقة والنفط، بالإضافة إلى دورها الإنساني الفريد في تقديم المساعدات الإنسانية لكل شعوب العالم المحتاجة والمنكوبة.

القوة الذكية هي محصّلة التكامل بين القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية، أي القوة الصلبة، وبين القدرة على التأثير من خلال وسائل الجذب والإقناع المتنوّعة، أي القوة الناعمة

 

القوة الذكية

في إطار النقد الذاتي الدائم، تمّت مراجعة مفهوم القوة الناعمة، فأصدر “جوزيف ناي” كتابه (مستقبل القوة) في 2010، حيث طرح تعريفاً للقوة الذكية خلاصته أنها «محصّلة التكامل بين القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية، أي القوة الصلبة، وبين القدرة على التأثير من خلال وسائل الجذب والإقناع المتنوعة، أي القوة الناعمة»، ويعرّف “أرنست ويلسون” القوةَ الذكية بأنها قدرةُ الفاعل الدولي على مزج عناصر القوة الصلبة والقوة الناعمة، بطريقة تضمن تدعيم تحقيق أهداف الفاعل بكفاءة وفعالية. وبهذه القوة الذكية يُمكن مواجهة التحديات الكونية المعقّدة المتزايدة، فلا القوة بمعناها الخشن فقط باتت تجدي، ولا بمعناها الناعم وحده تكفي، إذن، فالإكثار من الحديث عن القوة الناعمة فقط باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق التقدّم هو حديث ناقص، وما كان مؤثراً في حقبةٍ ما يُمكن أن يَفقد فاعليته فيما بعد.

كما أن الإفراط في الاعتماد على القوة المادية، لا يضمن الهيمنة أو السيطرة أو تحقيق المصالح، ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، أصبح مفهوم «القوة الذكية» هو المفهوم المتّبع، ليس في الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا بطبيعة الحال، فقط، وإنما في عدة دول منها: الهند، وجنوب أفريقيا، والبرازيل، والصين، وروسيا.

المملكة والقوة الذكية

مع أن السياسة الخارجية السعودية تمتّعت – ولا تزال – بقدرٍ كبير من الاستقرار، إلا أن الأوضاع المستجدّة الإقليمية منها والدولية، وضعت تحدياتٍ جسيمةً أمام هذه السياسة، الأمر الذي جعل المملكة العربية السعودية تنضمّ لمعظم الدول الإقليمية والدولية في تبنّي سياسة القوة الذكية.

تصاعد خطورة الدول الفاشلة ومحاولات الهيمنة على المنطقة، دفعت المملكة لتبنّي استراتيجية القوة الذكية

أبرز  التحديات التي دفعت المملكة لتبنّي القوة الذكية:

1-  تصاعد خطورة “الدول الفاشلة” على السِّلم والأمن الدوليين، وتصاعد الهجمات والأعمال الإرهابية غير المسبوقة في تاريخ المنطقة المعاصر، فالإرهاب هو الخطر الذي يهدّد السعودية، خصوصاً مع تراكم التهديدات الأمنية التي تتعرّض لها السعودية على حدودها البرية والبحرية.

2- محاولات الهيمنة على المنطقة العربية من بعض القوى الإقليمية، انطلاقاً من أطماع عنصرية وطائفية قديمة، عبر تصدير الثورات من خلال ميليشيات مسلحة عميلة داخل عدد من دول المنطقة.

3- إصرار نظام الملالي في إيران على امتلاك قوة نووية، وهو ما يشكل تهديداً خطيراً للأمن القومي السعودي والخليجي والإقليمي.

4- ظهور جماعات إيديولوجية استطاعت خطف قرار السلام والحرب من دولها الوطنية، وامتلاكها أسلحة ذات مقدرة تدميرية عالية، لا يحتاج استخدامها إلى متخصصين وإلى دورات تدريبية.

5- تزايد التحدّيات العالمية المشتركة، التي لا تستطيع أية دولة التصدي لها بمفردها، مثل التغيرات المناخية، وانتشار الأمراض المستعصية، والهجرة غير الشرعية، وانتشار المخدرات.. وغيرها.

6- توغّل ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد، بأفلامه وكتبه ومرئياته ومراكز بحوثه، وبما لديه من مقدرة هائلة على الاختراق، ساعد على انتشار ظاهرة التطرّف والإرهاب والعنف.

7- ظهور مراكز اقتصادية غير غربية تطوّر نفسَها خارج شبكة الهيمنة الغربية، مثل “اليابان، الصين، ماليزيا” وغيرها، بالإضافة إلى ظهور الشراكات بين القارات.

عاصفة الحزم والتحالف الإسلامي وإنشاء شركة سعودية للصناعات العسكرية، ومشروع نيوم العالمي، من أهم مظاهر القوة الذكية للمملكة

 أهمّ خطوات المملكة لتبنّي القوة الذكية

اتخذت المملكة العديدَ من الخطوات الهامة في إطار مواجهتها للتحديات الاستراتيجية التي تهدّد أمنها القومي، ومن أهمّها ما يلي:

  • اتخذت المملكة القرارَ الاستراتيجي والتاريخي، بشنِّ عاصفةِ الحزم على جماعة الحوثيين الانقلابية في اليمن، وهو القرار الذي كسر القدمَ الإيرانية، ومنعها من الاستحواذ على اليمن الشقيق، ووحّد المنطقة ككلّ في وجه أطماع النظام الإيراني، لأنه لم يكن ممكناً من منظور الأمن القومي العربي، السماحُ بسقوط اليمن في أيدي النظام الإيراني، وقد حَجَّمت عاصفة الحزم نفوذَ التمرّد الحوثي في اليمن، وأعادت الحكومةَ الشرعية المتمثلة في حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن.
  • أعلن الأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد، عن تأسيس التحالف الإسلامي، في عام 2015، وذلك بهدف مجابهة الإرهاب في جميع الجبهات، سواء العسكرية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والإعلامية.
  • قرار الأمير محمد بن سلمان وليّ العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، إنشاء شركة سعودية للصناعات العسكرية في مايو من عام 2017، بشكل وطني خالص، لتكون منصةً مستدامة لتوفير المنتجات والخدمات العسكرية للمملكة العربية السعودية وحلفائها، مستوفيةً أعلى المعايير والمواصفات العالمية.
  • قامت المملكة بتأسيس المركز العالمي لمكافحة التطرّف (اعتدال) يوم 21 مايو 2017 في الرياض، بهدف مواجهة التطرّف فكرياً وإعلامياً ورقمياً، وتعزيز التعايش والتسامح بين الشعوب، وترسيخ المبادئ الإسلامية المعتدلة في العالم، ورصد وتحليل نشاطات الفكر المتطرّف، والوقاية والتوعية والشراكة في التصدّي له.
  • دشنت المملكة مشروع “نيوم” العالمي، الذي جمع بين ثلاث دول، هي السعودية ومصر والأردن، وقد أعلن عنه صاحبُ السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وليُّ العهد، بحزمةِ استثماراتٍ تصل إلى 500 مليار دولار أمريكي، وبحسب إعلان وليّ العهد، فإن المنطقة تقع في شمال غربي المملكة، على مساحة 26.5 ألف كيلومتر مربع، وتطلّ من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة، بطول 468 كيلومتراً، وتُحيط بها من الشرق جبالٌ بارتفاع 2500 متر، وسيركز المشروع على 9 قطاعات استثمارية متخصصة، على أن تنتهي المرحلة الأولى منه في 2025.

بناء استراتيجية نموذجية

وهكذا استطاعت المملكة العربية السعودية في ظلّ قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز  آل سعود ـ حفظه الله ـ  ووليّ عهده الأمين صاحب السمو الملكي محمد بن سلمان، بناءَ استراتيجيةٍ مثلى لتطبيق القوة الذكية، والتي يحتاج نجاحها في المقام الأول إلى إرادة سياسية، ثم التنسيق والموازنة بين مؤسسات القوة الصلبة ومؤسسات القوة الناعمة داخل الدولة، بجانب تأييدٍ مجتمعي وتلاحم وطني  لهذا التوجّه من القوة الذكية، التي تُعدُّ الخيار الأمثل لتحقيق المصالح الوطنية المتنوعة.

زر الذهاب إلى الأعلى